شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة فارس الاثنينية سعادة الدكتور أحمد بن عثمان التويجري ))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمداً يليق بجلالة وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بهدى وإيمان إلى يوم الدين.
أشعر في هذه الليلة بحياء عظيم من الله عزّ وجلّ وأنا أستمع إلى هذا الإطراء الذي لا أستحق كثيراً منه، وأستمع إلى هذه الكلمات الجليلة التي تطوقني بأطواق من الجميل الذي لا أعرف كيف أرده، هذه القلوب وهذه الأرواح الكريمة النقيّة التي رأت قليل محاسني كثيراً، وغفلت عن كثير مساوئي وعيوبي، أسأل الله عزّ وجلّ أن يمنّ عليهم جميعاً بالتوفيق والسداد والنعمة والصحة والسعادة وأن يجزيهم عني خير الجزاء، ثم أتوجه بالشكر الجزيل والامتنان العظيم إلى سعادة الأخ الفاضل راعي هذا المنتدى الثقافي الذي أصبح بتوفيق الله عزّ وجلّ ثم بعلو همة صاحبه معلَماً من معالم الفكر والثقافة والأدب في هذا الوطن، أشكره الشكر الجزيل وأعبّر له عن الامتنان العظيم على دعوتي هذه الليلة وعلى إكرامي بلقاء هذه الوجوه الطيبة الطاهرة، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يثيبه ويجزيه خير الجزاء.
لقد ترددت كثيراً أو قبل ذلك اسمحوا لي وقد ذكر أنني من مواليد هذه المدينة الطيبة التي سألني عنها أخي وحبيبي الدكتور عبد الله مناع، إن كنت حقيقة من مواليدها فقلت له نعم وفي حي البغدادية، وكلما جئت إلى جدة تذكرت قول الشاعر البحتري في حبيبته علوة التي كانت تسكن مدينة حلب.
يقول رحمه الله:
قلت سحاب إذ حدته الشمأل
وسرى بليل ركبُه المتحمل
عرّج على حلبِ وحيّ محلةً
مأنوسةً فيها لعلوة منزلُ
لمليحة أدنُو وتبعد في الهوى
وأجود في الود المصون وتبخلُ
أحنو عليك وفي فؤادي لوعة
وأصدّ عنك ووجه ودّي مقبلُ
وأعز ثم أذل عاشق
والحب فيه تعزز وتذللُ
وإذا هممت بوصل غيرك دوني
ولهٌ علي وشافع إليك أولُ
 
فلجدة الوله ولها الشافع الأول بلا شك.
أيها الأخوة الكرام.. قد ترددت كثيراً في تحديد الموضوع الذي أجعله محوراً لحديثي في هذه الليلة، وكيف لا أتردد وحضور هذا المنتدى نخبة من العلماء والمفكّرين والكتّاب والمثقفين، وكيف لا أتردد،، ونحن نعيش مرحلة من أخطر مراحل تاريخنا، تتزاحم فيها المحن وتتراكم فيها الفتن وتتداعى فيها المطالب والتحديات، لقد استخرت الله عزّ وجلّ ووجدت أن هذا الوطن المبارك هو الذي يخوض معركة شرسة ضد الإرهاب، ويواجه مؤامرات لا تنتهي من إعداد متمكنين ويحاول جاهداً أن ينتقل من حقبةٍ تاريخية إلى حقبةٍ تاريخية أخرى، هو الأولى بالحديث في هذه الليلة المباركة، وأسأل الله عزّ وجلّ التوفيق..
أيها الكرام إنني لست ولله الحمد ممن ينظرون إلى الشق الفارغ من الكؤوس. ولا ممن تعمي أبصارهم وبصائرهم الهنات عن الإنجازات ولكنني ولله الحمد في الوقت نفسه لست ممن يترددون في قول الحق والجهر به فهذا أول ما تعلمناه في ديننا الحنيف، إن المملكة العربية السعودية قد حققت خلال تاريخها الحديث إنجازات لا يغفلها إلا مكابر أو مجاهر، فالثبات على منهج الإسلام، والاستقرار السياسي والتمسك بالوحدة الوطنية والنهضة التعليمية وتطور الخدمات في معظم مجالات الحياة وغيرها كثير كثير، إنجازات سيحفظها التاريخ بلا شك وتحفظها الأجيال لكل من أسهم في تحقيقها من أبناء الوطن، غير أن هذا الوطن الكبير، عانى ولازال يعاني من بعض القصور في جوانب مهمة من وجوده، هي التي ستكون مدار حديثي هذه الليلة، وأملي أن تتسع صدوركم لهذا البوح الذي أسأل الله عزّ وجلّ أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يكون في دائرة الحق والتواصي به ولا غير سواه، إن اللبنة الأولى والدعامة التي قام عليها هذا الكيان المبارك، هي الدعوة الإصلاحية التي دعا إليها الداعية المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والمتأمل في حقيقة هذه الدعوة يجد أن أهم مرتكزاتها ثلاثة أمور:
الأولى : تجديد الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك والخرافة والبدع.
وثانيها : العودة إلى منابع الإسلام ومناهله الصحيحة وهي الكتاب والسنّة.
ثالثها: محاربة التقليد وتفتيح أبواب الاجتهاد على مصاريعها ومحاربة التمذهب، وذلك لأهل الأهلية من العلماء والدارسين، وإن هذه الأصول العظيمة هي التي جعلت من هذه الدعوة ملهماً ورائداً لكثير من الدعوات الإصلاحية في العالم الإسلامي، من الهند إلى المغرب خلال تاريخ الأمة الحديث، فأين نحن من هذه الدعوة المباركة، وماذا صنعنا بها؟ فلقد فشلنا وللأسف الشديد في تطويرها والارتقاء بها وتحويلها إلى مشروع حضاري تقوم عليه حياتنا وتنطلق به إلى الأمة الإسلامية والبشرية كلها، ولقد قزّمها وللأسف الشديد بعضنا حتى أصبح التوحيد في نظره هو مجرد التحليل النظري للمقولات الكلامية لبعض أئمة السلف، وحتى أصبح المعيار الأعظم للتمسك بالكتاب والسنّة هو التمسك ببعض السنن الجسدية، وبعض مظاهر التدين، وحتى أصبحت دعوة محاربة التقليد ودعوة تفتيح أبواب الاجتهاد بسبب هؤلاء أكبر عائق وأكبر سد في سبيل الإصلاح والتجديد، وباباً موحشاً من أبواب الفرقة بين المسلمين.
إن من حقنا أن نسأل بكل وضوح وصراحة، أين ثقة هؤلاء في الدعوة المجددة المباركة في المجالات السياسية على سبيل المثال، وكيف لم يشرّعوا للدولة ولنا أبواب التجديد والتطوير في المجال السياسي! وكيف بعد 100 عام من تاريخ الدولة لا نكاد نجد دراسة واحدة مجددة في هذا المجال، وهل يليق بدعوة محاربة التقليد والجمود، أن يظل علماؤها عالة على جهود فقهاء القرون المبكرة من تاريخ الأمة في هذه المجالات، بل أين هي جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والبحثية عن مسائل التجديد والتطوير في مجالات الشرعية والفكرية كلها، وما الذي حققته لمجتمعنا في هذه المرحلة الحاسمة والحساسة من تاريخه، إن مفهوم الشورى كما نعلم جميعاً بحاجة إلى تجديد وتأصيل في كل مراحله وإن قضايا مشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بحاجة إلى تجديد.
وإن تصوراتنا عن موقف الشريعة من أهل الملل والنحل الأخرى بحاجة إلى تجديد، وإن قضايا الاقتصاد بحاجة إلى تجديد وغيرها كثير كثير..! وإن من المحزن والمؤلم أن من ينتمون إلى أمة كان يتحاور علماؤها قبل ألف عام، حول حق المرأة في الولايات ومنها الولاية العظمى، فيفتي بعضهم ومنهم الطبري والمزني وأبو ثور بجواز إمامتها بإطلاق، يتعارك المعاصرون من أبنائها حول هل يجوز لها أن تقود السيارة أم لا يجوز؟ وهل تشارك في انتخابات البلدية أم لا تشارك؟ إنني أدعو من هذا المنبر المبارك إلى إنشاء هيئة فقهية تتفرغ إلى قضايا الفكر - يكون أعضاؤها من علماء الشريعة والسياسة والاقتصاد والاجتماع ويكون لها تواصل مع الجامعات والهيئات والمراكز العلمية في المملكة وخارجها وتكون رائدة وسبّاقة إلى تشريع وتفتيح أبواب الاجتهاد والتجديد، فما أحوجنا إلى الاجتهاد الجماعي الذي يسبق مسيرة المجتمع ولا يتعثر خلفها.
إن دولتنا التي نكنّ لها الإجلال والاحترام والتي تجاوزت 100 سنة من عمرها المديد بإذن الله، على الرغم من كل التطورات التي شهدتها وخاصة خلال الخمس عشرة سنة الماضية لا تزال في كثير من مجالات الإصلاح السياسي دون آمالنا وتطلعاتنا، ففي مجال الشورى والمؤسسات الدستورية على سبيل المثال، لا نزال نسير بخطى ثقيلة يكاد ثقلها أن يفسد ما تحقق من الإنجازات، وإن من المذهل أن تكون الشورى عندنا قبل خمسين سنة أكثر تطوراً منها اليوم، وأن تكون الحريات في ذلك الوقت أوسع وأرحب مما عليه الآن، وفي القضاء رغم كل ما طرأ عليه من إصلاحات وإنجازات لا نزال نجر خطانا متعثرين وللأسف الشديد، فلا مدوّنة للقضاء تضمن الالتزام والمساواة في الأقضية، ولا مراكز بحوث وباحثون مساعدون لإعانة القضاة على تحرير الأحكام وإتقانها، ولا سلطات تنفيذية للقضاة تحفظ للقضاء هيبته وللناس حقوقهم، وفي الاقتصاد أشعر بالحياء كلما تذكرت أن المملكة العربية السعودية قبلة الإسلام وقلب هذه الأمة آخر من رخص للمصارف الإسلامية ورغم أن روّاد هذه المصارف ومؤسسيها هم من أبناء المملكة.
ورغم أن غالبية المتعاملين معها هم من أفراد مجتمعنا, وإنني لأتساءل بحرقة وألم كيف لم نكن نحن روّاد المملكة في تطوير النظام الاقتصادي لجميع فروعه، فلم تقم هيئاتنا ومؤسساتنا العلمية والفكرية والإدارية بواجباتها في تطوير البديل الاقتصادي والإسلامي، ولا أقصد مشكلة الفوائد البنكية كما يحلو لكثيرين أن يختصروا قضايا الإسلام الاقتصادية فيها، وإنما أقصد الرؤى الاقتصادية والسياسات الاقتصادية الشاملة، كما أتساءل بحرقة وألم ما الفائدة التي نجنيها من فتح أسواقنا إلى كل رديء من منتجات العالم، وهل الاقتصاد الحر لا يتحقق إلا بتشريع الأبواب للرداءة والاستغلال، ثم إلى متى سنظل نحمي مصالح شركات البترول الكبرى بالحرص الدائم على خفض أسعار البترول وزيادة الإنتاج؟ أوَليس الأصلح لنا أن نحافظ على ثرواتنا، وأن نجبر شركات البترول على تخفيض أرباحها والدول المستهلكة على تخفيض ضرائبها، وأخيراً في هذا المجال ما الذي أعددناه للأجيال المقبلة لنحفظ لها العيش بكرامة وعزة، إنني أدعو من هذا المنبر مرة أخرى إلى التعجيل بإنشاء صندوق للأجيال يستثمر فيه ربح عائدات البترول كل سنة كما فعلت دول أقل منا حاجة إلى مثل هذا الأمر كالنرويج - والكويت.
إن موقعنا العقائدي التاريخي والجغرافي جعل لنا مكاناً مميزاً في هذا الوجود. وربط مصالحنا بمصالح غيرنا كما ربط مصالح غيرنا بمصالحنا، وقد تغنّى الآخرون ممن لهم مصالح لدينا في دراسة أحوالنا وتدبير أحوالنا وتدبير شؤوننا، والتعرف على مكامن القوة والضعف فينا رعاية لمصالحهم وسعياً لتحقيق أهدافهم، ما الذي فعلناه نحن ولدينا الإمكانات والقدرات، هل لدينا على سبيل المثال, مركز واحد ولا أقول مراكز للدراسات الأمريكية!
وهل لدينا متخصصون وخبراء في الشؤون الأمريكية بقدر ما يفرضه واقع علاقاتنا مع أمريكا! هل لدينا مركز واحد ولا أقول مراكز للدراسات الأوروبية! هل لدينا مركز واحد للدراسة الصينية أو الشرقية أو الإسرائيلية!؟
إنني لا يساورني شك بأن سفاراتنا واستخباراتنا تقوم بجهود كبيرة لتنويرنا وتزويدنا بما تستطيع لجمع معلومات عن العالم، ولكن أيكفي هذا لرسم سياسات لدولة بحجم المملكة العربية السعودية وأهميتها!! إن من الظواهر المحزنة والمؤلمة في الوقت نفسه التي أفرزتها المحنة التي مرت بها منطقتنا وبلدنا خلال الخمس عشرة سنة الماضية ظاهرة التراشق بأوصاف الفسق والتحلل من جهة وظاهرة أوصاف التحجر والظلامية من جهة أخرى، حتى يكاد صفنا الوطني أن يتشتت، وحتى كاد الأعداء أن يختلفوا، وإنني من خلال خبرتي ولله الحمد على تواصل مع أطياف كثيرة من أبناء المجتمع، لا أعرف أحداً على الإطلاق ممن يوصفون بالجمود والظلامية ممن ليس لديه الاستعداد لقبول التحديث، إذا ضمن عدم التعدي على ثوابت الدين، كما لا أعرف في الوقت نفسه أحداً ممن يوصفون بالفسق أو التحلل لديه عدم رضى وعدم قبول بالدين، وكثيراً ما خُلِط بين مواقف هؤلاء من بعض المتشددين وبين مواقفهم من الدين نفسه، إنني أشعر أننا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا بحاجة إلى ميثاق من الوحدة الوطنية نتعاهد على الثوابت التي نلتقي عليها قطعاً لدابر الفتنة وسداً للثغرات، التي يمكن أن يخترق صفنا من خلالها وأقترح أن يتضمن هذا الميثاق المبادئ التالية:
أولاً: الالتزام الكامل بالشرع الحنيف أساساً لكل شؤون حياتنا.
ثانياً: المحافظة على الوحدة الوطنية مكتسباً لا يجوز التفريط فيه.
ثالثاً: التمسك بالقيادة التاريخية رمزاً للاستقرار والأمن وصمام أمان للوحدة.
رابعاً: الاستنارة والتجديد منهجاً للتعامل مع مستجدات الحياة ومتطلبات العصر.
خامساً: الشورى أساساً للحكم.
سادساً: الحوار طريقاً لإثراء الفكر وسبيلاً لحل الخلافات.
سابعاً : الحرية شرطاً للإبداع ومطلباً لتحقيق الكرامة الإنسانية.
إلى غير ذلك من المبادئ والأصول والضوابط التي ليست غريبة عنا وإنما هي معتمدة في ديننا وتقاليدنا، أخيراً إن خطط التنمية التي شهدتها بلادنا أعانت على تحقيق إنجازات كثيرة ولله الحمد، ولكن الوقت قد حان لتجاوزها والانتقال إلى رؤية استشرافية إلى المستقبل تكون على مستوى القرن وليست السنوات وتكون بقدر حاجة الأجيال وليس الجيل الواحد. وإنني لأدعو من على هذا المنبر إلى العمل على خطة شاملة لهذا القرن الخامس عشر الهجري والواحد والعشربن الميلادي، ولْنطلق عليه خمسة عشر واحد وعشرين. كما أطلق الأخوة الماليزيون اسم عشرين على عشرين أي 2020 على مشروعهم الطموح، ولتكن المكوّنات الكبرى لهذه الخطة في المجال السياسي على سبيل المثال الانتقال بالمملكة إلى النموذج الشوري الأمثل وتحقيق دولة الدستور ودولة المؤسسات، وفي المجال الاقتصادي الانتقال من تجمع الاستهلاك إلى مجتمع الإنتاج والتصنيع والريادة في مجالات محدودة من الصناعة تتناسب وظروفنا وإمكانياتنا إلى غير ذلك من هذه المجالات.
أيها الأخوة الكرام إن هذا الوطن العربي الذي هو قبلة المسلمين وموطن المقدسات ومهد الرسالة جدير بأن يكون الرائد والقائد ليس للأمة فقط وإنما للإنسانية كلها.
وقد أودع الله في تاريخه وفي سكانه وثرواته الطبيعية ما يمكّن من تحقيق هذه الغاية. وما أكبر الجرم إذ قصرنا في تحقيق هذا الواجب، وما أعظم المسؤولية إن تقاعسنا عن تحقيق هذا المراد، وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (البقرة: 143).
أسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا جميعاً إلى الحق والخير وأشكر لكم جميعاً حسن إصغائكم وأعتذر عن الإطالة وأكرر الشكر والامتنان لراعي هذه الندوة المباركة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :724  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 193 من 235
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.