شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الدكتور عبد الله مناع ))
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأسعد الله مساءكم في هذه الليلة الفريدة التي نحتفي بها ربما لأول مرة في الاثنينية بذكرى أديب بحّاث رحَّال معجميٍّ مجمعيٍّ صحفيٍّ رائدٍ من رواد التنوير.. هو شيخنا الجليل حمد الجاسر، الحقيقة أني وقد علمت من مقدم الحفل بأن هناك عدد كبير من المتحدثين قد يبلغ الأحد عشر متحدثاً ولذلك سأختصر بقدر ما أستطيع وسأعبر ببعض المحطات الصغيرة التي شدتني إلى شيخنا الجليل وجعلتني أحد المفتونين به على الدوام.
شيخنا الجليل حمد الجاسر كما قالوا وكما أقول رائد من رواد التنوير، ورغم أنه كان بحق الصحفي الأول من نجد وصاحب أول مكتبة وأول مطبعة وأول صحيفة في نجد وهي "اليمامة".. ورغم أنه المعجمي الأول والمجمعي الأول من أراضينا في كل من بغداد ودمشق والقاهرة، إلا أن أبرز صفاته كانت التواضع، كان شديد التواضع إلى أبعد الحدود، عندما أردت أن أقدم محاضرة مستفيضة عنه ذهبت إلى لقائه في الرياض، وقبل أن نبدأ التسجيل مع شيخنا الجليل رويتُ له طرفة كانت شائعة في ذلك الوقت في مصر، الطرفة تقول: أن صالون الأستاذ الأديب الراحل إحسان عبد القدوس كان يستضيف أسبوعياً أو كل شهر شخصية من الشخصيات الأدبية المصرية، تتحدث عن الهم العام الموجود والمطروح، ويتم النقاش حوله، في ليلة من الليالي هذه كان ضيف هذا الحفل هو الكاتب الساخر المصري الأستاذ محمود السعدني -شفاه الله وعافاه- فعندما دخل إلى الصالون سأله الدكتور مصطفى الفقي وقد كان هو أمين الصالون الأستاذ إحسان عبد القدوس يعني عن ماذا ستتحدث؟ فبدأ الحديث برواية هذه الطرفة التي تقول: أن شرطياً أو أحد رجال المباحث أو جنودها أو رجال استخبارات ألقى القبض على مواطن من المواطنين في مصر وذهب به إلى الشرطة، وعندما تمَّ استجواب هذا المواطن قال: أنا عندي منشورات، قال: عندك منشورات!! قال: نعم عندي منشورات، والشرطة قبضت عليّ، فضابط القسم أحال المتهم إلى النيابة حتى تتولى التحقيق في الموضوع، ذهب المتهم في اليوم التالي أو بعد يومين أو ثلاثة أيام إلى وكيل النيابة، التقى به وكيل النيابة سأله وقال له: تقول الأوراق أن لديك منشورات ربما تعرضت إلى بعض الضغوط من الشرطة أو كذا حتى جعلوك تعترف، قال: لا.. لا أبداً أنا عندي منشورات، قال: أرني المنشورات، أخرج الأوراق قال: هذه الأوراق، فتش وكيل النيابة في الأوراق فوجئ أن الأوراق فاضية، بيضاء، قال: لكن هذه الأوراق بيضاء، قال: نعم أكتب إيه وإلا إيه وإلا إيه.. فرويت هذه القصة لشيخنا حمد الجاسر في بداية لقائي معه، وقلت له: أنت حيرتني يا شيخنا عن ماذا أكتب وماذا أدع، أكتب عن الصحفي، صاحب أول جريدة في المنطقة، أكتب عن صاحب أول مطبعة، عن صاحب أول مكتبة، أكتب عن المعجم الأول، عن ماذا أكتب؟ قال: أكتب عن كل هذا. وفعلاً كتبت عن الثلاثة.. الصحفي والمعجمي والمجمعي.
الأستاذ الشيخ حمد الجاسر كان صحفياً عظيماً، ربما من نوع نادر وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن الشبيلي كيف أن الرقابة توقفت في عام 79 عن الصحف، وأعتقد أن أحد الأسباب لهذا التوقف هو موقف الشيخ أو شيخنا الجليل حمد الجاسر، فعلى التوالي نُشِرت مقالات في ذلك العام أحدها كان بعنوان عندما زار جواهر لال نهرو الرياض بعنوان "مرحباً برسول السلام" فأُعترِضَ على الشيخ كيف تقول عن هذا البراهمي أنه رسول وأنه.. فَفُصِل من الوظيفتين اللتين كان يشغلهما ثم كان مقال آخر عن القديانية، فتم إيقاف الجريدة بعد هذا المقال وقد كان الشيخ حمد الجاسر في خارج المملكة وسمع خبر إيقاف المجلة في إذاعة لندن، عندما عاد أخذ قراراً لا أعتقد أن صحفياً في المملكة يستطيع أن يأخذ قراراً مثله، فقد أوقف هو إصدار الجريدة احتجاجاً على هذه الرقابة الظالمة، وظل الإيقاف مستمراً حتى التقى الملك فيصل بالصحفيين فيما بعد في شهر رجب من عام 79 وأصدر قراره بإيقاف الرقابة، بل وفي ذات اليوم أصدر قراراً آخر بتعيين الأستاذ عبد الله عريف رئيس تحرير جريدة "البلاد" السعودية في ذلك الوقت أميناً للعاصمة المقدسة، هذا الموقف من الشيخ حمد الجاسر لا يستطيع أن يقفه أحد من الصحفيين، لا في هذا الزمن ولا في ذلك الزمن، هذه واحدة من مواقف الصمود والعظمة حقيقةً.
عندما نأتي لقصته مع المعاجم وهي قصة من أطرف ما يكون وقد بدأت في ينبع عندما كان مدرساً، وكان مدرساً للغة والأدب فذكر للطلبة القصيدة المعروفة لأبي العلاء اللامية المعروفة:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائلُ
 
إلى أن قال:
يهم الليالي بعض ما أنا مضمرٌ
ويسكن رضوى دونما أنا حاملُ
 
ثم جلس يشرح للطلبة أين هو جبل رضوى، وأنه جبل بالقرب من المدينة وأنه سهل ترتقيه الإبل فإذا بالطلبة يصيحون جميعاً يا أستاذ ليس صحيحاً هذا.. هذا جبل رضوى خلفك، في ينبع وهو ليس جبلاً كما ذكرت سهلاً ترتقيه الإبل، جبل شامخ وكبير وصعب الارتقاء، فأنا أعتقد هذه الحادثة في حياة شيخنا الأستاذ حمد الجاسر حملته فيما بعد لهذا البحث العظيم في المعاجم وفي مسح الجزيرة العربية الحقيقة، من أقصاها إلى أقصاها، وطبعاً كان المعجم الأول معجم المنطقة الشرقية، وكانت دعوته أن كل منطقة تكتب عن منطقتها بالتفصيل حتى يكون التاريخ وتاريخ هذه المواقع واضحاً لكل الأجيال لأن من لا يعرف جغرافيته لا يعرف تاريخه، ومن لا يعرف تاريخه لا يعرف حاضره، ومن لا يعرف حاضره لا يعرف مستقبله.
أستاذنا الشيخ حمد الجاسر كان نبرة عظيمة في حياتنا، الشيخ حمد الجاسر أيضاً في رحلاته الكثيرة كان يسافر بحثاً عن كتاب، بحثاً عن وثيقة، بحثاً عن مخطوط.. يعني كان كثير السفر، ولكن كان من أطرف رحلاته تلك الرحلة التي كانت إلى مراكش والتي ذهب فيها إلى أحد أصحاب المكتبات فيبدو أنه تلطف معه ودعاه إلى الغداء عنده، فذهب الأستاذ إلى الغداء في اليوم التالي وقال له: يا أستاذ أنا عملت لك (غدوة) أو غداء من (الكسكسي) أتعرف من هو صاحب هذه الوجبة (الكسكسي)؟ فشيخنا قال: لا والله لا أدري من صاحبها، قال: هذه صاحبها سليمان الحكيم، وكيف كان ذلك، سليمان الحكيم كان له طبيب من الجن وكان يتأرق في الليل ولا ينام، فطلب من هذا الطبيب أن يصف له وصفة تساعده على النوم، فوصف له وصفة (الكسكسي) التي صنعها ذلك الرجل لأستاذنا الشيخ حمد الجاسر، أستاذنا حمد الجاسر أكل (الكسكي) من هنا ونام 48 ساعة بعد ذلك.
أحاديث شيخنا جميلة وطريفة ولكن قصته أعظم وأجمل، قصة ليست تواضعه ولكن أيضاً عزيمته وصموده، مثلاً عندما كان طالباً في مكة في المعهد العلمي الإسلامي الذي أصبح فيما بعد المعهد السعودي صدر قرار من الملك عبد العزيز بأن يكون الرداء الوطني هو: العقال والغترة والمشلح، فأحد الزملاء يسأل أستاذنا إذا كان سيتقيد بالأوامر فشيخنا قال أنا سأتقيد بالأوامر، قال: حتى لو الملك عبد العزيز أمرنا أن نلبس الشنقيطي (الشنقيطي معناه البنطلون) سألبس الشنقيطي، أخذ أخونا هذه الرواية أو هذه المقولة من شيخنا وذهب بها إلى رئيس المحاكم العليا في ذلك الوقت في مكة في "الداوودية" ولا أدري كيف قصَّ عليه القصة، ولكن الذي حدث أن طلب الشيخ حمد الجاسر للتحقيق معه في هذه الرواية فجيء بالشيخ حمد الجاسر وقيل له: ألا تعلم أن هذا كفرٌ صراح، فقال: أين الكفر الصراح؟ صدر الحكم على الشيخ حمد الجاسر بجلده، وجُلِد الشيخ حمد الجاسر ولكنه لم يلِن ولم يتغير ولم يستسلم، بل كل ما حدث أنه ترك ذلك المعهد وذهب إلى مدارس الفلاح ومنها إلى البعثات في عام 1938 رافضاً أن يدخل الشريعة، رافضاً أن يدخل كلية اللغة العربية، ولكن اختار أن يكون طالباً بكلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1938م، ولكن الحرب التي عصفت بالعالم بعد عام من ذلك التاريخ عجلت بعودته دون أن يكمل ذلك المشوار ليبدأ مشواراً عظيماً وكبيراً وحياة حافلة عريضة، أنا أحد المعجبين بها المفتونين بها إلى حد بعيد.
شيخنا حمد الجاسر قصة طويلة وقصة عظيمة وقصة كبيرة، وهو قدوة لكننا أن نتذاكر هذه القدوة في مثل هذه المجالس لا يكفي ولا يقدم ولا يؤخر والأفضل من هذا وقد تغير الزمان وجاء زمان آخر أن نجعل من أمثال هذه القصص ومن حياة هؤلاء الناس مسلسلات تلفزيونية يراها الشباب، لو سألت أحداً من الشبان في مدرسة إعدادية أو ثانوية حتى عن حمد الجاسر ربما فوجئت بالذين يعرفونه قليلين جداً ولو سألتهم عن محمد حسن عواد فقد لا يعرفه أحد على الإطلاق، ولو سألتهم عن الزيدان ربما.. بينما الناس يعيشون ماضيهم حاضراً، نحن كأنه لا علاقة لنا بالماضي، أو كأنه لا صلة لنا بالماضي، إذا انقطعنا عنه وانقطع (خلاص) فليذهب إلى الجحيم، أنا أعتقد أن أمثال حمد الجاسر وأمثال عواد، وأمثال حمزة شحاته وغيرهم والزيدان، نماذج تستحق أن تُقدَّم في مسلسلات وأعمال تلفزيونية، نعم الرقابة التي عانى منها شيخنا الجاسر ستحل أيضاً فوق رقبة هذا المسلسل، ولكن أعتقد أن الزمن تغير، وأن الزمن يسمح بتقديم القصة كما هي، دون حذف ودون إلغاء.
الشيخ حمد الجاسر كان فعلاً جبل من إرادة لا تنفذ، وعزيمة لا تضعف، وصلابة لا تلين، حمد الجاسر نموذج وقدوة تحتاج إلى التقديم حتى يراه الناس مرة أخرى ماثلا أمامهم كما يرى الآخرون، كل هذه النماذج الكبيرة والعظيمة في حياتهم.
شكراً للشيخ عبد المقصود على هذا الاحتفاء، وتبقى كليمة صغيرة وأجرؤ على قولها فأنا من محبي حمد الجاسر إلى أبعد الحدود وقد كتبتُ عنه محاضرة ضافية استغرق إعدادها ستة شهور، ولكن خوفاً من محتواها ذهبتُ بها إلى نادي أبها الأدبي، ولم أذهب بها لا إلى نادي الرياض الأدبي ولا إلى نادي جدة الأدبي، لقد كان الخوف دائماً أحد عوامل الإعاقة بالنسبة للإبداع والمبدعين، أنا أقول أنه نعم نحتفل بحمد الجاسر إذا أردنا أن نحتفل بالرموز التي ذهبت ورحلت يصح في هذا المقام أن نحتفل أول ما نحتفل بالأستاذ الكبير الرائد محمد حسن عواد،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
عريف الحفل: إذاً ننقل الميكرفون إلى من يضيء ليلتنا هذه الليلة سعادة الأستاذ الشاعر المعروف سعد البواردي.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :542  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 144 من 197
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.