شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الدكتور جليل العطية الكاتب والأديب المعروف ))
عريف الحفل: وإذا سمح لي الشيخ عبد المقصود نتعرف أكثر عليك يا دكتور ولو في سطرين فقط.
الدكتور جليل العطية: بسم الله الرحمن الرحيم، اسمي جليل إبراهيم العطية، كاتب ومؤرخ وباحث عراقي، أقيم في باريس منذ أكثر من عشرين عاماً، ولي نحو عشرين كتاباً أغلبها نصوص تراثية محققة.
وصف عباس محمود العقاد الشعر العربي في القرن التاسع عشر بأنه كان نظماً كأنه نوع من التدريب على العروض، فلقد كان العصر برمته ركيكاً جامداً وشغل الشعراء بالشكل الصارخ وانصرفوا إلى زركشة القصيدة القديمة واجترارها وتحويلها بالتزويق والضغط على جوانبها السيئة إلى أشكال ممسوخة منقطعة عن حياةِ الناس ومشاعرهم، وكان مفهوم العمل الفني عند الشاعر صناعة ليس غير، فكان يُقالُ عن المشاعر تكريماً (كان من رجال صناعة الأدب) وشهدت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهور أربعة أصوات بارزة في حركة الشعر العراقي الحديث، هي أصوات الزهاوي والرصافي وعبد المحسن الكاظمي ومحمد رضا الشبيبي، يتقاربونَ في الفترة الزمنية، كما يتشابه إنتاجهم ويحفل بخصائص متماثلة تقريباً، ولا شك أن المجتمع العراقي الذي تَقَبّلَ هؤلاء الشعراء كان قد بدأ يحس بدبيب الحركة الإصلاحية التي تمت على يد الوالي مدحت باشا في بغداد، تلك الحركةُ التي شملتِ الإدارةَ والثقافةَ وقضايا العشائر والصناعة وكان من ثمراتها الطيبة صدور "الزوراء" أول جريدة عراقية سنة 1869م، ولقد توافقت الحركة الإصلاحية مع الأدب التركي المتأثر بالفكر الأوروبي، ولا ريب أن العراقيين ممن قصدوا تركيا قد اطلعوا على شيء من هذا الفكر الذي نشره عبد الحق حامد وسواه، وجاء إعلان الدستور العثماني سنة 1908م ليفجر مواهب الشعراء والأدباء الذين حركوا المجتمع العراقي من خلال الصحف والمجلات الكثيرة التي أجيزت حتى بلغت المائة والثلاثين، كل هذه العوامل وسواها أدت إلى نشأة الشعر العصري الذي جاء لِيُلائم روح العصر ويبتعد عن الصناعات اللفظية وزخرفات القرون المظلمة، وجاء محمد مهدي الجواهري ليواصلَ مسيرة الزهاوي، الرصافي، غير أنه تجاوز من سبقه وتربع على قمة الشعر العربي معظم القرن العشرين، حمل الجواهري راية الشعر التقليدي الجديد أو الكلاسيكية الجديدة منذ بدايات سنوات العشرين، وذاعت شهرته بعد الحرب العالمية الثانية واقترن اسمه بتاريخ العراق السياسي الحديث، ولو تصفحنا الأحكام التي قيلت في شعره وجدنا تطرفاً مع الشاعر أو ضده وتناقضاً أحياناً ومبالغةً، فلقد فضله البعضُ عن شوقي ومطران وعدَّهُ آخرون شاعراً تقليدياً يحسنُ فنّ النظم، وبالغ آخرون مقررين أنّ الجواهري أكبر من أن يُدْرَسَ، ورأى الدكتور جلال الخياط أنه شاعر عباسي أخطأه الزمن ووجوده في القرن العشرين يمثل ظاهرة غريبة، شغل الجواهري النصف الثاني من القرن العشرين فصدرت عنه مئاتُ الدراسات وعشرات الكتب في داخل العراق وخارجه، وقبل ذلك صدرت عن دراسات عديدة في الصحافة منذ سنة 1929م وهو موعد صدور ديوانه البكر، وكتاب الدكتور زاهد محمد زهدي "الجواهري صناجة الشعر العربي في القرن العشرين" يأتي ضمن هذه السلسلة الذهبية التي تحاول دراسة هذا الشاعر المثير للجدل وترسم ملامح العرش الذي احتله شعرياً وشعبياً في قلوب معجبيه ومقدِّري شاعريته ومواقفه السياسية.
ويبدو واضحاً أن الزهدي شعر بالحرج وهو يخوض تجربة الكتابة عن شاعره المفضل القدوة فقال في مقدمته إن الجواهري شاعر ما زال أبعد من أن يكون قد استوفى حظه من الدرس والبحث والتحليل، إذ هو شاعر مرحلة بكاملها ولا ريْبَ أن لهذا الحماس المتدفق ما يبرره كما سنخرج من قراءة هذا الكتاب بصفحاته التي تقرب من الستمائة، وفي مطالعة سريعة الآن ستتبعها أخرى واسعة بأذن الله.
لم يحدد المؤلف المنهج الذي وضعه لدراسة الجواهري؟ ولا المراجع والمصادر التي اعتمدها ولم يبين الجوانب التي سيتناولها أو أسباب ذلك، ولم يقدم لنا ولو نبذة مختصرة عن تاريخ ديوان الجواهري، وطبعاته المختلفة والغريب أنه اعتمد طبعةً لم تكن المفضلة لدى الشاعر هي الطبعة البيروتية، وحسب تتبُّعي فإن الطبعة العلمية المعتمدة هي البغدادية بأجزائها السبعة والمعدة من قبل لجنة بإشراف الدكتور علي جواد الطاهر رحمه الله ففيها زيادات ومزايا تنفرد بها، ويمكن الاعتذار بأن نقص اطلاع الزهدي الخاص بآثار الجواهري يعود إلى اغترابه وبُعده عن مكتبته الأساسية الموجودة داخل العراق.
قَسَّمَ المؤلف كتابه إلى عشرة فصول دشنها بميلاد الجواهري وهو فصل جميل، طريف، دلَّل على سعة ثقافة المؤلف، لكن القارئ يفاجأ باختيار المؤلف ألف وتسعمائة ميلادية سنة لميلاد الجواهري، فالثابت تاريخياً ما أورده الشيخ جعفر محبوبة في كتابه "ماضي النجف" من أن الجواهري ولد ليلة السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1317هـ وهو الموافق للسادس والعشرين من يوليو سنة 1899م، وأحسن المؤلف اختيار الموت بعد الميلاد مباشرة فلاحظ ما كتبه الشاعر في ذكرياته ثم ظهور مفردة الموت في قصيدته الأولى التي نظمها سنة واحد وعشرين وتسعمائة وألف حيث حلّت في بيتها الأول:
دع الموت فاستحلت لديه سرائر
أخو موردٍ ضاقتْ عليه مصادره
 
ثم ينتزع مقاطع من قصائد ذكر فيها الشاعر الموت فيقدم لنا لمحات تاريخية عن أوضاع العراق في تلك الفترة.
... وهنا نفتقد الحس النقدي للمؤلف فيمر مثلاً على قصيدة أخي جعفراً الشهيرة ذات المطلع:
أتعلـمُ، أم أنـت لا تعلــم
بأنّ جـراحَ الضحـايـا فـم؟
 
دون أن يتوقف عند ظاهرة التكرار اللفظي والتي أراد بها الشاعر توكيد الفكرة التي يريدها، ولم يلاحظ لفظة (الدم) التي تكررت وحدها خمس عشرة مرة في هذه القصيدة، وأكثر من ذلك نرى الشاعر دون أن يعيَ قد رشَّ حرفي الدال والميم على كل أسطر القصيدة.
لقد أقام الجواهري علاقةً جديدةً بين الجراح والدم، ويلتفت الزهدي إلى رائعة الجواهري الشهيرة "يا أم عوف" ذات المطلع:
يا أم عوفٍ عجيبـاتٌ ليـالينـا
يبعدنَ أهواءنا القُصـوى ويُدنينـا
 
لكن لم يخطر في ذهنه أن الشاعر استلهم نونية ابن زيدون المعروفة:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
وناب عن طيبِ لقيانا تجافينا
 
على أن أبا الفرات (الجواهري) تجاوز ابن زيدون - في رأيي - في قوله على سبيل المثال:
يـا أم عوفٍ ومـا آهٌ بنـافـعـةٍ
آهٍ على عابــسٍ رخـْصٍ لماضـينا
علـى خضيـلٍ أعـارتْهُ طلاقتـها
شمسُ الربيـع وأهـدتهـا الرياحينا
آهٍ على ملـعبٍ أن نسـتبدَ بــه
ويستـبدَ بنـا أقصــى أمانـينـا
مثل الطيور وما ريـشـه قوادمـنا
نطير رهْـواً بمـا اسطاعتْ خوافينـا
من ضحكةِ السحر المشبوب ضحكتنا
ومن رفيـفِ الصَّبـا فيـه أغانينـا
يُعَدُّ الفصل الثاني "الشعر في شعر الجواهري" أكبر فصول كتاب الزهدي وقد مهّدَ له بتعريف لغوي تاريخي (وستكون لي وقفة خاصة ومسهبة مع هذا الفصل قريباً بإذن الله).
ثم تناول مفهوم الشعر في شعر الجواهري، ومعالجة النصوص الشعرية التي يشير فيها الجواهري إلى شعره، وختم الفصل بطائفة من المختارات الجواهرية لم أجد في تثبيتها هنا ضرورة.
الفصل الثالث: القصيدة الجواهرية عنواناً ومطلعاً وقافيةً، قسمه المؤلف إلى ثلاث فترات تاريخية:
- الأولى: تمتد منذ بدايات قول الشعر حتى نهاية سنة 1932 للميلاد.
- الثانية: من سنة 1932 إلى سنة 1948م.
- الثالثة: من سنة 1949 إلى سنة 1963م.
يرى المؤلف أن الجواهري اشتهر على العموم بقوة المطلع واهتمامه بصياغته واختيار مفرداته بدقة إلا أن ذلك لا ينطبق كثيراً على المرحلة الأولى.
ولاحظ أن تصريع المطلع قد كثر في قصائد المرحلة الثانية التي تميزت بالقصائد الطوال، وظهور النزعة إلى الجناس اللفظي، وهنا يتوقف المؤلف ليقدم لنا تفصيلات عن الوضع العراقي الداخلي وأراه هنا قطع لذة القارئ الذي يستمتع بالتحليل الفني لقصيدة الجواهري.
يعتقد المؤلف أن قصائد المرحلة الثالثة التي تمثل نصفَ شعر الجواهري اتسمت بمطالع قوية، ووجود أقل لفعل الأمر الذي اعتبره يجسد العلاقة الحميمة بين الشاعر وما يستهدفه في قصيدته.
وخصَّ الفصلَ الرابع للشعراء الذين ذكرهم الشاعر في شعره وهم ينتسبون إلى عصور مختلفة، ويختمه بالشعراء المعاصرين الذين خصهم بقصائد أو مقطوعات شعرية وهذا الفصل طريف كلف الزهدي تنقيراً واسعاً في شعر الجواهري وفي دواوين الشعراء الذي ذكرهم الجواهري.
تناول الفصل الخامس الهموم القوية في شعر الجواهري وقد لاحظ اهتمام الشاعر بسوريا وأحداثها ودمشق وأوضاعها بحيث كانت سوريا هي الهم القومي الأول للجواهري بعد وطنه (العراق) ولم يغفل أنّ اهتمامَ الجواهري بفلسطين وقضيتها العادلة يعود إلى بواكير شعر الشاعر أي إلى بدايات سنوات العشرين.
عالج الفصل السادس التفجع والرثاء في شعر الجواهري، فلاحظ أنَّ العددَ الثاني يحتل موقعاً عجيباً في توزيع قصائد الرثاء فلقد رثى الشاعر (الجواهري) من كبار رجال الدين، وإثنين من رؤساء الوزارات العراقية، واثنين من أبرز شعراء العراق وهكذا.. وتناول فلسفة الموت عند الجواهري فلاحظ أنه طرق المعاني التي سبقه إليها الآخرون، كما قرر أن قصائده تختلط بالهموم العامة للأمة.
تعمُّقُ الزهدي في دراسة شعر الجواهري جعله يكثر الفصل السابع للسخرية والهجاء فيورد نماذج منها ويقول في ختامها إنها تدل دلالةً عميقة على القدرة الرائعة والقابلية التي لا يضاهيه فيها شاعر سواه، لأنه لم يقتحم الهجاء من منطلق فردي ذاتي وإنما من منطلق يتجاوز شخصه إلى هموم الوطن والشعب على أننا لو دققنا النماذج التي أوردها المؤلف لوجدنا في قوله هذه المبالغة الكبيرة.
وفي الفصل الثامن تناول الشكوى والانتصاف باحثاً معارك الجواهري في المجالين الوطني والاجتماعي، وتوقّفَ طويلاً عند قصيدته في تتويج الملك فيصل الثاني بن غازي والتي عدتها المعارضة العراقية في وقتها - أم الكبائر - مما دفع الشاعر إلى حذفها من ديوانه، الطريف أن الزهدي شُغِلَ بالدفاع عن الجواهري ووطنيته وكفاحه مستخدماً كل الأسلحة التي يملكها، لكنه نسي في خضم التفاصيل تحليل القصيدة تحليلاً فنياً أظنه ينتهي في الختام إلى وضعها في صدر شعر الجواهري.
"السانح والبارح في شعر الجواهري" عنوان الفصل التاسع، وهو فصل جيد تناول فيه التضاد والقرائن والنقائض في شعر الشاعر، وقد برهن فيه على مَلَكَةٍ قوية في تحليل الجواهري غير أنه عاد لمعالجة أمور سبق له أن عالجها في أكثر من موضع من كتابه، وخصَّ الزهدي ألقاب الجواهري التي خلعها على نفسه وما خلعه عليه الناس بصفحات عديدة ومنها: الشاعر، لسان الشعب، كوكب الشعراء، صناجة الأدب الغالي، وغير ذلك. وعدَّ "سيد الشعراء" قمة الألقاب الشعرية.
وخصص الفصل العاشر بالتدقيق ولتبيان الصلة بين الجواهري، وفيها إشارات ستكون مفيدة لدارسي حياة وشعر الجواهري. وختم الكتاب بمختارات شعرية منتقاة لا أراها ضرورية خاصة وأن ديوان الجواهري متوفر في مكتبات الوطن العربي وصفوة القول: "إن الجواهري صناجة الشعر العربي في القرن العشرين" كتاب الدكتور زاهد محمد زهدي سِفْرٌ مُهِمٌ ألفه شاعر عن شاعر، جمعته به المبادئ الوطنية والآمال المشتركة والغربة والاضطهاد السياسي.
سِفْرٌ دبجه تلميذ عن أستاذ، فجاء رسالة تقريظ ولمسة وفاء عن شاعرٍ قمة، ننتظر أن يجود علينا القرن الحادي والعشرين بمن يملأ الفراغ الذي تركه الراحل، الذي مات غريباً ودُفِنَ في مقبرة الغرباء بعيداً عن تراب وطنه وقلوب أبناء شعبه.
أخيراً يطيب لي أن أرفع آيات الشكر والامتنان إلى الاثنينية مجسدة بشخص عميدها حليف الأدب والثقافة الشيخ عبد المقصود خوجه، على إتاحة هذه الفرصة الطيبة لي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1521  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 124 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.