شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(15)
- يتذكّر الفتى في صباه تلك المرأة التي كانت تخرج من بيتها في حوش (عَميرة) حتى تصل إلى دارهم الواقعة على مشارف السيح، الذي ارتبطت (رواشين) دوره بمرأى سيل أبي جيدة المتدفّق من جنوب المدينة حتى يبلغ تخوم شمالها حيث سلع وأحد والغابة.
- وكانت السلوة عن أطفال الدار في تلك الحقبة هي سماعهم لحكايات تلك السيدة وهي تروي أحاديثها على ضوء القمر في سطح المنزل حيث السماء باتساعها وأفلاكها وأسرارها.
- كانت سيدة الدار تطلب من الفتى أن يصطحب (جدته) إلى دارها، حاملاً بيديه الغضتين أشياءها الخاصة، تمسك بيديه في حنان، يتذكّر المصابيح التي كانت تُضيء مداخل الحي، ولم تكن الكهرباء -عندئذ- قد وفّرت لأزقة المدينة وأحيائها أعمدة الإضاءة، ونقلت الحياة الهادئة في البلدة إلى مرحلة اتسمت بالحركة حتى بلغت مداها في مشاهد الصخب والضجيج وما رافقهما من تبدلات في نمط الحياة وضروب العيش فيها.
- في الطريق من زقاق (سيد أحمد) إلى سقيفة حوش عميرة ثم إلى وسط الحي حيث منبع الماء، كانت الجدة تحدثه عن أهل الحي، "هذه يا بُنيَ دور الأحباب.. هنا عاش أهلونا ثم رحلوا وتركونا في دار الفناء" ولا يزال الفتى بعد ما يقارب نصف قرن من الزمن يتذكّر دور الجيران الطيبين، كان بعض الصغار يلهو عند عتبة الباب ولا يتعداها، وكان البعض الآخر يتمتّع بحرية أكبر فيتنقل بين مداخل الحي ووسطه ثم قاعدته، التي يحتل فيها بيت الجدة بجانب دار (الفينكاني) موقع الصدارة في آخر الحوش.
- كانت الخشية على الفتى قد حددت تحركاته، فكان أقلّ أنداده احتفاءً بلعب (البرْبر) و(الدّحل) و(المقلاع) وتسربت إلى نفس الفتى مشاعر متناقضة، طبعت بجميع صورها وأشكالها -في النهاية- حياته بالجدِّ، فعرف كُتّاب (الحلبي) عند مدخل الساحة، وحلقة المعلّم (أبو هلال) في الحرم، يرى وجه أستاذه المحبّب إلى النفس صباحًا في الصف بدار العلوم الشرعية، حيث الطريق إلى دار البلى والفناء، ثم يحمل لوحه عصرًا إلى حلقة المربي نفسه في مؤخّرة المسجد، وكان الصوت النَّدي في المسجد هو الذي حمله لغشيان مجالس الإنشاد الديني، حيث تُحلِّق الأرواح في عالم الجمال والملكوت، وفي (زقاق الطُّوال) و(سويقة) و (التّاجُوري) كانت الألسن تترفّع عن الخوض في مثالب الآخرين لأنها كانت منشغلة بما هو أسمى، ولسان لا ينزّهه الذكر عن تلك النقائض، وقلب لا تحلّ فيه الشفقة والرحمة وهو ينصت لقول الله مُرتِّلاً لهما الأبعد عن ميزان الروح ومقياس الفضيلة، كانت النفس منه تتوق إلى ما هو جديد، ولقد تلبّسه الجد والوقار منذ سني عمره المبكرة، وبقيت الطفولة ومباهجها كامنة في الأعماق السحيقة من نفسه، فهو لم يتجاوب معها صغيرًا، ولكن كثيرًا ما كانت تشاغبه وتحمله على شيء من الوجد والشوق والنحيب، وتتجلى أمام عينيه مشاهد مجالس المحبة في التاجوري، في زقاق الطُّوال، في حي الأقوات، وكان يغشاها حتى تضجَّر سيد الدار من غيابه المفاجئ عن البيت، ولكن الشوق لعوالم المحبة والصفاء كان أكبر من ذلك الضجر الذي يتبدى في وجوه الأقارب والأهل، وما علموا أي قلق كانت تُعاني منه النفوس السؤول، وما دروا كيف تخترق الآلام أعماقه فيصطلي بها حزنًا. وإنها لتستبدُّ به في منامه، كما تعبث به في يقظته، واقترب منه (الزَّين) وصلاة الفجر تغسل النُّفوس من أدرانها، وندى المحبة ينسكب في الأرواح فتستشعر لذّته، لذات الجسد تتبدّد وتترك أصحابها نهب الألم، ووخز الضمير، ولذات الروح تترك وراءها طمأنينة القلب وسكون النفس وأخذ (الزَّين) يُهدّئ من روع الفتى بما يُحدّثه به عن مقامات الروح، وكيف يكون الذكر دواء لدواعي النفس في جموحها، وطبًّا لانكساراتها.
وكانت الرعشة تسري في الجسد النحيل، وحدقة العين تتّسع خوفًا من المجهول، وخلع (الزَّين) عمامته ودثره بها، ولم تكن سجادة (الزين) التي تحوط الجسد السقيم وحدها التي تُهدّئ من نوازع الألم في تلك الأعماق السحيقة من عالم النفس المجهول، بل كانت نسمات الحنان هي ما يُريح نفس الفتى وينتزعها من لذعات الإحساس (بالظلم) الذي كان أضعف من أن يتحملّه. ولا يزال السؤال يؤرّق نفسه حتى بعد أن داهمته سنيّ الكهولة والحصاد: كيف تظلم تلك النفوس وتقسو على الأبدان والروح ثم تمشي طليقة في دروب الحياة؟!
 
طباعة
 القراءات :223  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج