شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(14)
الليلة.. (شكك) هكذا كان الناس في مدينة الحب يتحدثون عند ترقبهم لدخول عيد الفطر، ولكن الفتى غادر الدار في نفسه وحشة، فهو يجد في فضاء (الحرم) ما لا يجده في سواه، صغار يؤمّون آباءهم الكبار في حصوات المسجد لصلاة التراويح والتهجد، وفي الحارة يتجمّع الشباب قبل عصر كل يوم من أيام رمضان ليحملوا الماء في (الدوارق) معطّرًا بماء الكادي، يصفون تلك الأواني الفخارية في الصناديق المخصصة لها بين أساطين المسجد.
كان يتمنى أن يكون في مقدور جسده النحيل ويديه الطريتين أن يساعده على مشاركة أصحاب الأجسام الصحيحة من أبناء الحارة وسواها عملهم أو هوايتهم.
عند خروجه من باب (جبريل) لمح جليسيه (الموجي) و(كشلة) يتحدثان، كثيرًا ما رآهما طوال العام وهما ينكبان على القراءة، همس في أذنه (الموجي) ذات يوم.. (لقد كَلَّ بصري من كثرة القراءة وقبل أن يسأله لماذا لا يستعين بنظارة للقراءة تحدث باقتضاب: والدي كان عنده من أخواني الصغار ما يجعله يكدح طوال النهار حتى يجلب لهم لقمة العيش فلا أريد أن أكون عبئًا عليه، نزح (الموجي) لوطنه في أقاصي بلاد المغرب، حدثه أحدهم بعد عقود أنه بالكاد -أضحى- يرى موقع أقدامه، لقد أعطى العلم نور عينيه وقطع دروب الحياة وما شكا يومًا لأحد، وما تضجر من قليل الزاد.
كان ما يراه من طموح ومثابرة عند (الموجي) و(كشلة) دافعًا له ليقرأ وحافزًا له لينافس أو يزاحم، لم يدرك الذين حوله تلك الأشواق التي كانت كثيرًا ما تؤرقه، كان يسير لاهثًا وباحثًا عن قطرة من ذلك الإكسير وكانت المسيرة أطول من قدرته على بلوغ (النبع)، كانوا يبحثون عن (الظل) يتقون به هجير الشمس وكان (الهجير) هو ما يمنحه لذة الصبر وحلاوة المعاناة، وسار في الدروب وحيدًا لعله يبلغ السرّ أو يصيب منه ما يخفف عنه لظى الأشواق، ويبل ظمأ الجوى حيث (الحب الأزلي الذي ترنمت به الركبان فكان نشيدها العذب حيث تهجع الأعين، ويطيب الرقاد وتبسط السكينة رداءها على كل شيء، وينفرد المحبون بسماع لغة الحب التي استعصت على (الجفاة) و (الغلاظ) ولكنها كشفت عن أسرارها لمن وطّؤوا -طوعًا- أكنافهم وقتلوا نوازع الأثرة، والغل والحقد في أعماق نفوسهم فكانوا الحداة على الأبواب في فضاءات المعرفة والشهود على عوالم اللذة التي تغاير لذّات دنيا الزوال والفناء والبلى.
اليوم -يا صديقي- من أيام العيد فهل لبسنا من أكسية الورع والتقوى ما نقصي به من أعماقنا ما أصابها من (تصحّر) وألمّ بها من علل وأسقام.
العيد أن نغسل عن نفوسنا شحّها وغلظتها وجفوتها وأن نكسو الأبدان ما يكون لها سترًا في الدنيا ووقاءًا من هجير يوم الميعاد، فاللهم غفرانك ورحمتك ورضوانك.
 
طباعة
 القراءات :215  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.