شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(16)
- علا صوت المؤذّن من منارة المسجد المقابل لدارهم، استيقظ من نومه، أصوات مكائن رفع المياه من بساتين السيح، وقربان، وقباء تقطع سكون البلدة، ولم يعرف في حياته سكونًا ودعة وطمأنينة كتلك التي عرفها في طفولته في البقعة التي ضمّت ذراع تربها أطهر جسدٍ وأكمل ذات، فطاب من طيبه -صلّى الله عليه وسلّم- القاع والأكم.
- تتداعى إلى ذهنه صورة والده، وهو عائد من المسجد، يتذكّر وقع أقدامه عندما يصعد درج الدار، يأخذ مكانه في المجلس، رواشينه مطلّة على مجرى السيل، يومئ إليه بيديه، ويقترب الطّفل من ربّ الدّار، هيبته كانت حديث الكبار من سيّدات الأسرة، يتلاشى شيء من تلك الهيبة أو ذلك الوقار، عندما يأخذه في حضنه، يغطّي جسده النّحيل بغطاء سميك من صقيع البرد الذي لم تعد البلدة تشهد مثيلاً له في العقود الأخيرة، يرشف من كأس الحليب الذي وضعته سيّدة الدّار أمامه، وذهبت توقد النّار، تضع ما يسمى بـ"كانون" الجمر أمامها وهي ممسكة بالمنفاخ بيديها، توجّهه إلى حبّات الفحم حتّى تتّقد أطرافه.
- عندما شاهدته في مقتبل الأيّام، وقد اشتد عوده، وذهب شيء من اعتلال جسده، سمعها بصوت خفيض تقول: خمسون عامًا يا بنيَّ قضيتها منذ تركت جبال "الفقرة" ووديان "عرقوس" في رعاية والدك؛ كنت لا أجد من الوقت إلا قليلاً حتّى أزور جدّك -والدها- في الحرّة الغربيّة، حيث تسكن بطون من "حرب" وسواها، ويوم قضى بكيته حرقة وجوًى، فلقد كان البيت في "المسيجيد" وفي "السيح"، وفي "الزاهدية" ممتلئًا بالأصوات، ثمّ أوصدت الأبواب، وتلاشى الصّوت الجهوري في المدى البعيد، أيّ وفاء -يا أمّاه- تبطّن منك نفسًا طيبة وقلبًا رحيمًا، ويدًا تصافح الآخرين وتصفح عنهم، ورأيتك ذات يوم تتباطئين في مشيتك، وقد نصحك الأطباء بألا تتركي مجلسك، أردت أن أقف في طريقك.. فإذا أنت تهمسين حتّى لا يسمع "الضيفان" صوتك، هذا "طارق"، ابن الحبيبتين "بهيجة" و "فاطمة"، لقد رحلوا وتركوا خلفهم وفاء هذا الشاب.
- تعودين إلى مجلسك.. أقتربُ منك، فأرى الدمع ينسكب من عينيك.. تحاولين إخفاءه، فتفضحه كلماتك الجريحة.. البارحة رأيت "خالتك" يعني والدة إخوتي الكبار، لقد افترشنا الأرض، وأمامنا حزم من النّعناع الأخضر.. تخلّصه من الأعواد، ونضعه تحت "مرفع الشراب" كما كنّا في البيت العتيق، في "السيح"، في "العنبرية"، حوش عميرة، وزقاق سيد أحمد، تسكت برهة، تمسح الدّمع، وتُخفي معه الألم، وتعاود قصَّ الرؤيا المناميّة، فجأة قامت أم علي من مجلسها، وعليها أحسن الثّياب، تلك حلل الآخرة يا بني، واختفت عن ناظري، وأردت اللّحاق بها، ولكنّها كانت أسرع من خطواتي المتثاقلة، عشنا أختين، وليس ضرتين، وفجأة تتوجّه إليه مشيرة بيدين مرتعشتين: هل سألت عن إخوتك؟؟ يتهدّج صوتها، يرتفع صفير صوتها: إنّك اليوم لهم أبٌ وأخٌ.. كونوا يدًا واحدة حتى يرضى سيّد الدار في آخرته. تلفَّت حوله، شاهد شبحه المهيب أمامه، فترفّق في سيره، حتّى دخل غرفته.. تعوَّد أن يوصد الباب -دومًا- ثمّ ينتحب، ولا يدري لماذا يبكي؟ ومن أيّ شيء ينتحب؟ هل يبكي واقعًا مرًّا أقلع فيه النّاس عن القيم والمبادئ التي تربّت عليها الأجيال السابقة؟ أم يمتلئ ألمًا لجحود بعض من أولاهم حبّه ووداده وصفاءه؟ لقد همست في أذنه سيّدة طاعنة في السن -يومًا- وهي تخطّ بيديها على الأرض الغبراء خطوطًا، إنّك يا بنيَّ نقيَّ القلب، ولكنّك قليل الحظ، ورضي أن يعيش بما كتبه الله له في هذه الدُّنيا، قليل من الحظّ، وكثير من الألم والأرق، وإذا كان النّاس يستمتعون بأحلامهم، فطالما أقضّت الأحلام مرقده، ووطّنت الآلالم في حنايا نفسه.
 
طباعة
 القراءات :242  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.