شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به فضيلة د. خليل ملا خاطر ))
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، فيسر لنا أمورنا واختمها بالسعادة إنك على كل شيء قدير... اللهم إنك تعلم أني ما أردت أن أقف هذا الموقف، اللهم إنك تعلم أني ما رغبت في الحضور، اللهم إنك تعلم أني ما أردت أن أُكرّم، اللهم إنك تعلم ما في نفسي ولا يعلم أحد ما فيها إلا أنت، ما ترددت في ذلك مع أني قد وصلني الكتاب الأول قبل شهور ثم جاء الثاني، ثم جاءت المكالمة الأولى فالثانية فالثالثة فالرابعة فالخامسة، إلى يوم الاثنين الماضي وأنا أعتذر، لا استعلاء ولكني لا أرى نفسي أهلاً لذلك، ثم لخشيتي عما قيل في هذا المجلس المبارك، وما يقال في مثل هذه المجالس عادة، لأن الذي يقال إما أن يكون حقيقة صدقاً، وإما أن يكون مبالغاً فيه، فما كان مبالغاً فيه فهو خطر على قائله، وعلى المحتفى به وعلى السامعين لأنهم يظنون بالمحتفى به ما ليس فيه، وأما إن كان صدقاً فإما أن يكون منتشراً بين الناس فيعرفه الناس وإما أن يكون مختفياً لا يعلمه الناس ولا يريد المحتفى به أن يُعلم ويُتحدث به، وإنما يريد أن يبقى بينه وبين ربه، والأمر الثالث وهذا أخوفها على نفسي أن يكون ممن قدمت لهم حسناتهم في دنياهم، فيقال لهم، أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، هذا الذي أخشاه وأرجو الله تعالى أن يغفر لي خطيئتي في حضوري وفي حال اعتذاري ولكني أقول اللهم اغفر لي ما لا يعلمون وحققني بما يقولون وأغفر لي واجعلني خيراً مما يظنون.
إن تكريمكم أيها الإخوة في واقع نفسي ليس لشخصي فإنني والله أعرف نفسي أني أحقر من ذلك، وقد لا يشاطرني الإخوة هذه المقولة، ولكنكم كرمتم شيوخي، كرمتم أحبابي كرمتم أهل العلم، كرمتم أهل بيتي الذين قصرت في حقهم فتنازلت أهلي عن جميع حقوقهم من اليوم الأول، كيف لا وقد يمر علي في اليوم أحياناً اثنتان وعشرون ساعة وأنا لا أدري، وأنا جالس على مكتبي لا أقوم إلا لصلاة وأحيانا أقوم لطعام، فقد عجزت عن أداء حقوقها فأسقطتها حتى لا تحاسبني يوم القيامة، وقد قصرت في حق أولادي، كل ذلك لأمر يريده الله عز وجل.
أيها الإخوة إن الثناء على العلم والعلماء لم يقم به أحد بمثل ما أداه الله عز وجل في كتابه، كيف وقد وصفهم صفة من صفاته، ومنحهم اسماً من أسمائه، فلو نظرنا في كتاب الله تعالى في كلمة عالم، عالمين، علماء، عليم، علام، بلغت ست وثمانين ومائة آية، وإذا نظرنا إلى كلمة العلم ومشتقاته نجد تسعاً وأربعين وستمائة آية في كتاب الله عز وجل، فأين يبلغ تكريم الخلق للعلم وأهل العلم ولكن لما صادتني شبكة الأخ عبد المقصود ووقعت في سنارته فليس لي إلا أن أمتثل وقد أعلن في الاثنين الماضي فاضطررت أن أحضر.
أيها الإخوة إن أساس العلوم الشرعية جميعها علم الحديث وعنه تفرع سائر العلوم من علم التفسير الذي كان مندرجاً تحت علم الحديث إلى أن استقل وقد يندر أن يوجد كتاب في كتب الحديث إلا وفيه كتاب من كتب التفسير، ففي صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن الترمذي، النسائي الكبرى إلخ... نجد كتاباً بعنوان كتاب التفسير... علم العقائد: لا نجد كتاباً من كتب الحديث إلا ويبدأ بكتاب الإيمان وينتهي بكتاب التوحيد أو يذكر كتاباً من هذه الكتب في ثنايا كتبه، بل أفرد علماء الحديث كتباً بعنوان كتاب التوحيد، كتاب السنة، علم الفقه وهو أوثق العلوم بالحديث لأنه فقه الحديث، وعليه المدار ومنه اشتق، ولو نظرنا لأقدم كتاب في الفقـه وهو المُوَطَّأ نجد التنازع فيه، هل هو كتاب فقه أو كتاب حديث؟ ولو نظرنا إلى الكتاب الثاني، كتاب الأم، لنجده قد جعل مداره على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقدم آيات من كتاب الله ويثني بسنة رسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهكذا.
بل انتقل الأمر إلى العلوم المساندة، فقد تأثرت تأثراً كبيراً بعلم الحديث، فلو نظرنا إلى التاريخ وإلى أوائل من ألف فيه كابن شبه، والمسعودي، والطبري وأمثالهم نجدهم ينقلون كل ذلك بالأسانيد متأثرين بعلم الحديث، لم يكن شيء من الأخبار في الأمم السابقة وفي هذه الأمة قبل الإسلام وفي صدر الإسلام يؤخذ شيء منها بالسند، وإنما وجد السند ابتداءً من عصر الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعد، وما ذلك إلا للحفاظ على هذه السنة النبوية الشريفة حتى لا يتقول متقول ولا يفتري مفتر ولا يدخل زنيم في ثناياها فيضل ويضل غيره.
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم بجهود مضنية في حفاظهم على هذه السنة الشريفة، وفي تطبيقهم لها، وإنكارهم على من خالفها، ومذاكرتهم فيما بينهم لها، والحث على احترامها، ومراجعة بعضهم بعضاً عند التشكك، والتثبت في قبولها والاحتياط في أدائها، ومن ذلك ظهر نواة الإسناد حتى قال ابن سيرين رحمه الله تعالى كما ذكره مسلم في مقدمة صحيحه، ما كانوا يسألون عن الإسناذ فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فما كان من أهل السنة أخذوا بقوله وما كان من أهل البدعة رفضوا قوله، كما دون بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم ما كانوا قد سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من دون الحديث بعد رسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه، حيث بقي يستخير الله تعالى سنة كاملة، ثم نظر فخشي أن يتخذ ذلك معارضاً لكتاب الله تعالى فعزف عن ذلك.
نتج عن احتياط الصحابة وعن تثبتهم وفعل كبار التابعين وأواسط التابعين وصغار التابعين في احتياطهم وتثبتهم سبعة عوامل: العامل الأول هو علم الإسناد، ولم يكن موجوداً قبل ذلك البتة، فلا يوجد عند اليهود والنصارى قصة واحدة يستطيعون أن يتصلوا بها إلى عيسى عليه السلام أو على موسى عليه السلام أو على نبينا عليه الصلاة والسلام إلا قصة واحدة في قصة الطلاق عند النصارى ومسلسلة بالكذابين، الأمر الثاني هو التفتيش عن الرجال فكان نواة علم الرجال وتاريخ الرواة، ثالثاً التوثق من الأحاديث وهذا نواة علم علل الحديث، رابعاً وضع قواعد وضوابط لمعرفة الصحيح من غيره وهو نواة علم مصطلح الحديث، خامساً نقد الرواة وكان هذا نواة علم الجرح والتعديل، سادساً جمعهم للحديث في مصنفات، ثم خص الصحيح بعد ذلك بالتصنيف، سابعاً حصرهم للموضوعات وما لا أصل له وإن كان هذا قد تأخر حدوثه بعد عصر التابعين رحمهم الله تعالى.
لما ظهر الكذب من قبل الزنادقة والملحدين وبعض أهل الدنيا قام الصحابة رضي الله عنهم الذين أدركوا ذلك الزمان، وكبار التابعين بعد، بجهود مضنية في مقاومة الوضع والوضاعين، فكان أحدهم على سبيل المثال، مثل يحيى بن معين يحفظ صحيفة كاملة، ولا أعني بالصحيفة ورقة، أعني بكتاب كله أحاديث موضوعة ويعلم أنها موضوعة فلما سأله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كيف تحفظ صحيفة معمر عن ثابت عن أنس وتعلم أنها موضوعة؟ قال حتى لا يأتي أحد فيغير في السند فيدخل هذه الصحيفة بين المسلمين، فإذا ما نقلها قلنا قف هذه من صحيفة فلان، وكلها موضوعة، مكذوبة.
صاروا يمتحنون شيوخهم ليروا مدى حفظهم وضبطهم، كما فعل يحيى مثلاً مع شيخه الفضل بن دكين رحمه الله تعالى، صاروا لا يأخذون من الحديث إلا ما جاء بسند فإذا أسقط المحدث السند عوتب عتاباً شديداً، لما روى إسحاق بن أبي فروة حديثـاً، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... قال له الإمام الزهرى رحمه الله تعالى: قاتلك الله، ما أجرأك على الله، لا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خُطم ولا أزمَّة. ولما طلب سفيان بن عيينة من الإمام الزهري رحمه الله تعالى وهو من صغار التابعين أن يحدثه بحديث فقال ائتنا به من غير إسناد، قال ثكلتك أمك وهل تستطيع أن ترقى إلى السطح بغير سلم؟ أيها الإخوة: صاروا لا يقبلون مجرد قول المحدث حدثنا فلان عن فلان، بل لا بد من سبر أحوال الرواة ومعرفة إتصال الراوي بالآخر، أذكر لكم مثالاً واحداً فقط لتعلموا الجهود المضنية التي قام بها علماء الحديث، عندما قال نصر بن حماد رحمه الله تعالى كنا على باب شعبة بن الحجاج رحمه الله تعالى فحدثت عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قوله: كنا نتناوب رعية الإبل إلى آخر الحديث، الحديث طويل، فلطمه شعبة رحمه الله تعالى كفاً على وجهه ثم دخل شعبة إلى البيت، فجلس نصر بن حماد يبكي فخرج شعبة فقال عبد الله بن إدريس الأودي رحمه الله تعالى، إنك أسأت إليه، قال أما ترى أنه يحدث عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة، وقد سألت أبا إسحاق رحمه الله تعالى من الذي حدثك بهذا الحديث فغضب أبو إسحاق، فقال له مسعر بن كدام رحمه الله تعالى لقد أغضبت الشيخ فقلت: والله لئن لم يسند لي هذا الحديث لأرمين بحديثه كله، فقال حدثني عبد الله بن عطاء، وأين عبد الله بن عطاء؟ وشعبة في الكوفة، لاحظوا يا إخواني، قال فرحلت إلى مكة، عبد الله بن عطاء في مكة، قال فرحلت إلى مكة والله لا أريد الحج إنما أريد هذا الحديث، فلما لقيت عبد الله بن عطاء قلت من حدثك هذا الحديث؟ قال سعد بن إبراهيم... فقال مالك رحمه الله تعالى إن سعداً بالمدينة، فجئت المدينة ولقيت سعداً فقلت من حدثك هذا الحديث؟ قال حدثني زياد بن مخراق، وزياد بن مخراق في البصرة، قال فقلت ما هذا الحديث؟ والله لو يصح لي هذا الحديث فهو خير لي من أهلي ومالي ونفسي، شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث بالعراق، مشـى هـذه الأميال الطويلة على قدميه، وقد ركب أحياناً وأحياناً يمشي من أجل حديث واحد.
كان رواة الحديث يروون الحديث من خمسين وجهاً ومن ستين وجهاً كما قال أبو حازم الرازي، بل كانوا يروونه ويجمعونه أكثر من ذلك، إذا كنت قد جمعت وأنا المتأخر في القرن الرابع عشر حديث الذبابة (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم...) جمعته من خمس وستين طريقاً فما بال المتقدمين؟ لو أرادوا جمع طرق هذا الحديث لجمعوا بأضعاف هذا العدد وإذا نظرنا إلى حديث واحد كلكم تعرفونه (إنما الأعمال بالنيات...) هذا الحديث لم يصح للنبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث سيدنا عمر، ولم يروه عن عمر رضي الله عنه إلا علقمة بن وقاص، ولم يروه عن علقمة بن وقاص إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري انتشر هذا الحديث، جمع الإمام الهروي طرق هذا الحديث وتتبع طرقه فرواه عن سبعمائة راوٍ من تلامذة يحيى بن سعيد الأنصاري، من يفعل هذا الفعل يا إخواني؟ هذا ما سأتحدث عنه بعد قليل... ولهذا قالوا الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء كما قال عبد الله بن المبارك.
إن علماء الحديث أيها الإخوة استسهلوا ما نالوه من تعب ومشقة، فراحتهم في نصبهم، وسعادتهم في شقائهم، وسكينتهم في تعبهم، لقد رسم لنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنهاج في ذلك، رحل أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى مصر من أجل حديث واحد عند عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، و هو حديث الستر على المسلم، رحل جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه من المدينة إلى دمشق من أجل حديث واحد فقط وهو عند عبد الله بن وريث الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وهو حديث القصاص، سافر الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أياماً من أجل حديث واحد، مشى أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى، وأرجو أن تغلقوا أسماعكم حتى لا تسمعوا الخبر، ألف فرسخ على قدميه، قال ثم تركت العد، مشى ما يزيد على خمسة آلاف كيلو متر على قدميه، ثم ترك العد بعد ذلك، هؤلاء علماء الأمة فعلوا ذلك، تحملوا الجوع، تحملوا العطش، تحملوا نفاد الزاد والماء حتى أغمي على بعضهم.
أحمد بن حنبل عندما خرج من العراق ليسمع هو وإسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى من عبد الرزاق الصنعاني في صنعاء، فلما دخلوا مكة رأى إسحاق عبد الرزاق في الطواف وكان أحمد لا يعرفه فقال يا أبا عبد الله، لقد كفاك الله المؤنة هذا أخوك عبد الرزاق في الطواف تعالى نسمع منه، قال: لا والله لن أغير نيتي، خرجت من بغداد على أن أسمع منه الحديث في صنعاء، والله لن أغير نيتي ولن أسمع منه إلا في صنعاء، خرج أحمد مع القافلة فنفد الزاد ومكث يوماً ويومين وثلاثة حتى شطف بصره فأجّر نفسه أجيراً للقافلة من أجل أن يأكل ويشرب حتى وصل صنعاء فسمع منه في صنعاء... ولو أردت أن أتحدث عما لقيه علماء الحديث من عناء ومشقة لا يسعني ساعات طويلات، لم فعلوا هذا؟ لم هذا العناء؟ لم هذا الجهد؟ لم هذه المشقة؟ لم هذا النصب؟
أيها الإخوة: إن السنة النبوية هي الإسلام العملي، وهي القاضية على كتاب الله عز وجل، لأن كتاب الله تعالى أخذ بالسنة ولولا السنة ما عرف القرآن، لأن النبي عليه وآله الصلاة والسلام هو الذي أخبرنا أن هذا قرآن، فأخذناه على أنه قرآن، نحن مأمورون بالأخذ بالسنة والتمسك بها كالأخذ بالقرآن الكريم لأنه لا طاعة لله تعالى إلا بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بطاعة الله تعالى، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي شيء إنما هي بسنته، والسنة النبوية وحي كالقرآن الكريم، ولكنه غير متلو، السنة النبوية وحي، إن أنواع الوحي اثنتان وأربعون خصلة نزل القرآن في واحد فقط، وأما السنة النبوية فجاءت بها جميعاً، وقد تعبت في هذا تعباً شديداً حيث قرأت كتاب الله تعالى عشرات المرات، فاستخرجت ما يزيد على ثمانين نصاً، وقرأت ما يزيـد علـى عشرة آلاف حديث، فاستخرجت ما يزيد على مائة عنوان في الدلالة على أن السنة النبوية وحي، ونظرت في دلائل النبوة فوجدت ستة منها كلها تدل على أن السنة النبوية وحي، وما تقليعة العصر الإعجاز العلمي في السنة إلا برهان ساطع ودليل واضح على أن السنة النبوية وحي إذ لا يمكن أن يصدر ذلك كله من مجرد إنسان عادي، إنما هي مشكاة النبوة وحي أوحاه الله تعالى إلى نبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فلولا رجال الحديث وما قاموا به لظهر في هذه الأمة من تبديل في الدين وتغيير في الشريعة ما حصل في سائر الأمم... قال يزيد بن ذريع رحمه الله تعالى: لكل دين فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد... وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض... فعلوا ذلك كله تصديقاً لوعد الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ، لهذا ازدحم الناس على علماء الحديث قديماً، ازدحمت مجالسهم إلى حد لا تحتمله العقول، فقد كان يحضر مجلس الواحد منهم عشرات الألوف، فهذا مجلس أبي مسلم الكجي كان يحضره نيف وأربعون ألفاً سوى النظارة الذين يقفون ويتفرجون، وكان يحضر مجلس عاصم بن عدي الواسطي رحمه الله تعالى أكثر من مائة ألف رجل، ويحضر مجلس الهجيمي ثلاثون ألفاً، وأما ما سوى ذلك أو أقل من ذلك فهذا كثير جداً.
العلماء ثلاثة أقسام: قسم غلب عليهم الفقه، ولا معرفة لهم بالحديث، فهؤلاء أطباء، وقسم حفظ المتون والأسانيد ولا معرفة لهم بالفقه وهؤلاء صيادلة، وقسم جمعوا بين الحديث والفقه وهم الأئمة، الجهابذة، النقاد، العارفون، وهم أقل القليل ولكن وجودهم يحيي هذه الأمة ويسعد الناس... وفهم الحديث أيها الإخوة يحتاج إلى ثلاثة أمور: أما الأمر الأول فهو جمع أحاديث الباب، فلا يفهم الحديث بمجرد وجود رواية واحدة، بل لا بد من جمع طرق الحديث بكاملها، لأن رواية تفسر رواية، ورواية تبين رواية، وأخرى تقيد، وأخرى تفصل، وأخرى تخصص، فيتضح المعنى؛ فلو ذكرت لكم مثالاً واحداً عند التناقض أو التعارض وكلا الأحاديث التي سأذكرها في الصحيح فقوله عليه الصلاة والسلام، قول عبد الله بن مسعود: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)، وقوله عليه الصلاة والسلام اللهم من لعنته فاجعلها له رحمة وقربى، وهذا في الصحيح، إذن آكل الربا مرحوم، إذا نظرنا إلى الحديثين وكيف يكون مرحوماً والله تعالى أعلن الحرب عليهم يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنْينَ. فَإِن لَّم تَفعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ ورَسُولِهِ ويقول الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الذِّيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ المَسِ، كيف يكون؟ إذا نظرنا في الروايات الأخر عرفنا الجواب، ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه واللفظ لمسلم (يا أم سُليم أما علمت شرطي على ربي، إني اشترطت على ربي اللهم إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأسخط كما يسخط البشر، اللهم فأيما رجل من أمتي ضربته أو سببته أو لعنته - في الرواية الثانية - ليس لها بأهل، فاجعلها له رحمة وقربى) فهل المرابي لعنته لا يستحقها؟ إذن هذا موطن الحديث، ولو أردت أن أستعرض لكم نصوصاً كثيرة، مثلاً ما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها لم ترح رائحة الجنة) وفي الحديث الثاني واللفظ للبخاري (يا رسول لله، امرأة ثابت بن قيس، ثابت بن قيس ما أنقم عليه في خلق ولا دين، غير أني أكره على الكفر في الإسلام، قال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: خذ الحديقة وطلقها تطليقة) كيف هنا تطلب الطلاق ويقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول أيما امرأة سألت زوجها طلاقها لم ترح رائحة الجنة؟ إذا جمعنا بين النصين كيف يكون؟ الرواية الأخرى أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس لم ترح رائحة الجنة، ومن هنا وقع كثير من الناس في أخطاء نتيجة عدم إدراكهم لهذه النقطة..
ثانياً: الفقه، لا يعرف الحديث إلا بالفقه، فمن لم يعرف الفقه لا يعرف الحديث...
ثالثا: المَلكة، التي يكرم الله تعالى بها بعض عباده.
علم الحديث أيها الإخوة هو علم الرجال كما قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: إنما يحبه ذكورهم... وإذا لم تعطه كلك لم يعطك جزءاً منه، وإذا لم تفنِ فيه عمرك وراحتك لم يعطك شيئاً منه ومن هنا من قرأ كتاباً أو حضر مجلساً لا يستطيع أن يتصدر في الحديث وأهل الحديث بل لا بد من الجثو على الركب، ومزاحمة العلماء ومعرفة المصطلحات وتفتيش الدفاتر لذا فنحن بحاجة إلى العالم الرباني الذي تحقق بالسنة، وتشبع بالحديث، وشرب لبن الفقه وجرى ماء الحديث في عروقه، وانغرس في فؤاده، ممتثلاً حال نبيه عليه وآله الصلاة والسلام، مترجماً عنه، يعطف على الأمة ويشيع الطيب في مجلسه، وإذا رؤي ذُكر الله... كما نحتاج إلى طالب العلم المتواضع النبيه الحصيف، الحريص على العلم والطلب، الراغب فيه، وصلتي بالحديث قديمة والحمد لله، وليس لي فيها فضل، ولا إرادة، بل الفضل كله لله تعالى، وكل ميسر لما خلق له، طلبت العلم كما ذكروا وأنا صغير، وقرأت المتون والشروح على شيوخي من الفقه، فغلب علي، وكنت أرجع إلى شروح الحديث بين الفينة والفينة حتى كان يوم من الأيام سُئلت وأنا في درس عن مسألة فقهية فأجبت فيها وذكرت فيها الحديث الذي كان قد علق في ذهني من كتاب من كتب الفقه، فحمل ذلك السائل جوابي إلى أحد شيوخي رحمه الله تعالى العلامة الشيخ محمد سعيد المفتي، فأملى كتاباً وأرسله إلي، لأنه كان مريضاً وكفيف البصر، وذلك في آخر حياته، هذا الكتاب يتطاير شرراً، ولكنه وضعني على الجادة، لك في الصحيح ما يغنيك، وإياك أن تعتمد على ضعيف، ومن أين لك هذا الحديث؟ ومن رواه؟ وما طُرُقُه؟ ومن قال به؟
أيها الإخوة: أذكر لكم ذلك الموقف لكي نقف على الجادة، هذا الحديث الذي ذكرته أقول العار خير من النار، هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه ولا أعلم أحداً قال به إلا القلة وهذا الحديث يخالفه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وقال بما خالفه جماهير علماء الأمة ولكن مقالة الشيخ التي كتبها إلي ثم قال لي أعلم يا بُـني أن صحيفتك بيضاء فلا تلطخ تلك الصحيفة أو تسودها... هكذا قال لي شيخي رحمه الله تعالى، فعكفت على صحيح البخاري فقرأته وحفظت كثيراً منه، وأنا في ذلك ما زلت طالباً في كلية الشريعة، قرأت كثيراً وتتلمذت على كثير، واستجزت كثيراً وشغفت بالمطالعة وقل علم إلا ولي فيه قراءات أو سماعات أو حضرت مجالسه، ولكن كل ذلك يتفاوت ولا أستطيع أن أشرح منهجي في مؤلفاتي فكلها والحمد لله تدور حول محور واحد وترسم حقيقة واحدة أرجو الله تعالى أن يحقق ذلك فيما يريد جل شأنه.
استفدت من خلال حياتي وتجاربي من والدي رحمه لله تعالى كثيراً، ووالدي رحمه الله هو الوحيد في العائلة الذي لم يطلب العلم، ومع هذا فقد استفدت منه كثيراً، استفدت عندما قال لي يا بُني إن علم السلوك لا يؤخذ بالشهادات ولا تعطيه الجامعات، إن علم السلوك مع البشر لا ينال بالشهادات ولا تعطيه الجامعات، فوضعت أذني خاضعاً متذللاً وعرفت كيف أتعامل مع الخلق، استفدت وقد ابتليت بدقة الملاحظة، أذكر لكم حادثتين طريفتين وأختم بها حديثي، استفدت من الحيوان، كان بيتنا من البيوت العربية القديمة، وساحته واسعة جداً، مساحته دونم يعني 949 متر مربع، وفي هذا البيت كانت هناك أحجار متراكمة فنظرت إلى قطة استفدت منها درسين: أما الدرس الأول نظرت إلى هذه القطة وهي تنظر إلى فأر في الجدار من الضحى وجلست هذه القطة مسمرة لا تتحرك ولا ترمش بعينها، وظللت أراقبها، أذهب ثم أعود حتى العصر، وهي ثابتة لا تتحرك، إلى أن خرجت الفأرة فانقضت عليها واصطادتها، قلت عجباً قطة تثبت هذا الثبات وتصبر هذا الصبر، كيف حالنا نحن البشر، كيف لا نصبر على مرادنا؟ وكيف لا نثبت لتحقيق غاياتنا، فعلمت أن الغاية العليا لا تنال بالعجلة بل لا بد من الصبر والتأني وطول البال، لذا لو مرت علي مسألة قد تأخذ مني يومين أو سبعة أيام فأكثر حتى أحرر تلك المسألة.
القصة الثانية من هذه القطة نفسها: نظرت إذا أعطيناها قطعة لحم أو قطعة خبز تجلس بجوارنا وتأكل ما أعطيناها، أما إذا ذهبت هي أو سرقت فإنها لا تجلس عندنا بل تهرب وتدخل بين الأحجار، تصعد إلى السطح، عجيب!! حيوان يعرف الحلال والحرام؟ تعرف هذه القطة أن إذا أعطيناها تجلس بجوارنا وتأكل في غاية الأمان، وأما إذا نهبت فتعرف أن ما فعلته لا يجوز فتخشى الضرب والإهانة فتهرب، فما بالنا نحن البشر؟ كيف نتكالب على الحرام والمشبوه؟ فتعلمت الزهد والورع، تعلمت ترك الحرام والإقبال على الحلال وأسأل الله ألا يدخل جوفي وجوف أولادي درهماً أو ذرة من حرام أو شبهة، وأرجو الله تعالى أن تكونوا كذلك.
أما القصة الأخيرة: وأرجو أن تأخذوها عبرة لأنها تمثل حياة كل الناس، الشباب الحريص على التطبيق ولكن مع الجهل، عندما طلبت العلم وحفظت الشمائل ونظرت في السنن وأنا صغير، بدأت أطبق، فإذا بدأت الصلاة بدأت أجمع ما جاء في الصلاة كل نافلة كل سنة فكم تسبيحة كان يقولها عليه الصلاة والسلام في ركوعه؟ في سجوده؟ كيف كانت قراءته عليه الصلاة والسلام إذا قرأ؟ يقف عند كل آية رحمة ويسأل، وعند كل آية عذاب فيستغفر، كم كان يقرأ من الآيات في كل ركعة؟ وبدأت أطبق ذلك على نفسي، فالركعتان التي يصليها غيري بدقيقتين أصليها أحياناً بربع ساعة أو ثلث ساعة، ولكن ما الذي حصل؟ صليّت إماماً بمسجد الحي عندنا في بلدنا وأنا ابن سبع عشرة سنة، لا زلت أحفظ الزمان والمكان والوقت، وصليت كعادتي والوقت صيف، ودرجة الحرارة عندنا في البلد ترتفع إلى 45 - 47 ولا مراوح في المسجد، لا نعرف المراوح، ولا المكيفات، وصليت هذه الصلاة وأنا مستغرق، فلما سلمت، ما الذي حصل؟ رأيت الناس منهم من جلس ومنهم من تبللت ثيابه حتى صار العرق يتناقط من ثيابهم، اللهم اغفر لي يا رب، أذكر لكم هذه الحادثة لنعرف كيف هو المنهج؟ المنهج النبوي، لا أتحدث بهذه الحادثة مع أنهـا نقص كبـير ولكن لنعرف الدرس من ورائها، ما الذي حصل يا إخواني؟ قام رجل مسن قال يا شيخ والله لي ستون سنة وأنا أصلي ما صليت مثل هذه الصلاة، لقد أهلكتنا، انظر إلى ما حصل فينا، وقام الثاني والثالث والرابع، فرجعت إلى نفسي، أهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فعرفت فيما بعد أنه عليه وآله الصلاة والسلام إذا صلى بمفرده أطال حتى تورمت قدماه، ولكنه إذا صلى إماماً وسمع صوت بكاء صبي تجوّز في صلاته عليه السلام، وقال عليه وآله الصلاة والسلام: "من أم الناس فليخفف"، وقال لمعاذ رضي الله عنه أفتان أنت يا معاذ؟ نعم كدت أن افتن الناس، ولكني تبت إلى الله، وأسأل الله تعالى أن يرزقني أن أكون رحمة تابعة للرحمة المهداة من الغفور الرحيم عليه وآله الصلاة والسلام إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :559  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 82 من 146
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.