شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سحابة صيف (1) !
بعد أن تجاوزت الخمسين من عمري ببضع سنوات أصبحتْ تنتابني حالات نفسية كئيبة لا معدى عنها طوراً بعد طور؛ فقد وقر في ذهني أن عمري طال أكثر مما بلغه، وأمسى عريضاً بلا داع، ولم يكن في عرض عمر الحكيم الفيلسوف ابن سينا! الذي كان يزخر بكل ضروب العلوم والفنون والآداب.
لقد بلغ بي ضجري من نفسي أن أرتج الباب بيني وبين أهلي لساعات طوال لا أقرأ فيها، ولا أكتب، ولا أجتر الذكريات حلوة كانت أو مرة، بعيدة أو قريبة.
وأضطجع، وقبل أن أطبق عيني أرى من الأخيلة والأحلام والأطياف والأشباح، ما لا يخطر في ذهن عاقل.. ويستفزني ارتعاش، وتعتادني رعدة، ولست أدري من الذي قال:
قد كنت أحلم قبل اليوم في سِنة
فصرت أحلم بعد اليوم يقظاناً (2)
ولقد أذكر كثيراً جداً مما وقع لي قبل أكثر من أربعين عاماً، ولو سألوني ماذا أفطرت اليوم صباحاً لما عرفت!
ويبلغ بي ضيق القلب ومرارته وحزنه وبأساء النفس ما لا يكاد أن يستوفيه الوصف!
وفي اسطنبول بتركيا سألني أحدهم وقد رأى سمرتي وشحوبي: هل أنت عربي..؟ فكأنما لسعتني عقرب، وأجبت ممتعضاً: كلا أنا هندي؛ ولكني ولدت ببلاد العرب ونشأت فيها، ذلك لأني تذكرت الواقع منذ 5 حزيران!
ودخلت مقهى كان مني صدداً وطفقت أبكي!
وتذكرت أبياتاً نظمتها قبل أربعين عاماً ونشرت في جريدة "أم القرى"، ولا أعرف مناسبتها اليوم، ألم أقل لكم: إني أذكر الشاطح وأنسى المناطح؟
هذه الأبيات تقول:
أما المزايا فلا يغررك رونقها
فإن أكثرها ضرب من الدمنِ
فالرأي أصوبُ رأي غير ذي خطل
والعزم أصدق عزم غير ذي وهنِ
كم من رجال سموا لكن بحذلقة
حين استعاروا مزاياهم بلا ثمنِ (3)
ألاّ ما أيأس وما أهول ما أعيشه، وأحياه وأقتاته.
إني أكذب على نفسي وأزيف الحقائق، وأخلع على النار الحمراء خلالاً تخضر أفاويفها فما بالك بالآخرين؟
إني لا أعيش الزمن، ولكني آكله، وآكل نفسي معه.. أما قلبي فقد تعفنت ديدانه، وأصبحت شياه أحلامه تعبث بها قطعان الذئاب..
وعندي أنصاف أصدقاء، فما دون ذلك.. وأين الصديق الكامل اليوم؟
يزورني أحدهم وقد رأى رأسي من النافذة يستدير مثل الكرة، ويأتيني الخادم فأقول له: قل له إني نائم أو غير موجود، ويغضبون ويهجرون وقد كنت أستر حبهم حتى تقطعت مرارتي، وبليت عرى اصطباري، فتركتهم يعمهون، وبقيت وحيداً مباركاً لي في كل ما أتحمله، أو لا أتحمله من سخف القوم.
إننا في زمن اشرأبت فيه الأقدام لمقارعة الرؤوس، حتى الباطل في كل بقاع الأرض هزم كل حق على أديمها.
مراً عاش قلبي، وسيعود مراً كما كان، وسأغلق الباب بيني وبين أهلي وسأخلو إلى نفس أعوزتها الراحة وشطحت عنها الطمأنينة، وإني لأرجو ألاّ أعيش أكثر من عام واحد، وأن أموت على كتاب الله وسنة رسوله جامعاً بين رفعة المقام وحسن الختام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :502  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.