شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صورتان على النقيض (1)
قبل سنين عديدة كنت منطوياً على نفسي، وقد اعتزلت الناس كما اعتزلهم قبلي "واصل بن عطاء" (2) لغير ما ذهب إليه، وكنت لا أهبط إلى البلدة إلاّ في يومين من كل أسبوع: اليوم الذي أشتري فيه الكتب الجديدة من "أحمد حلواني"، واليوم الذي آخذ فيه الصحف القادمة من الأستاذ (اليغمور)، ثم أقبع في داري كالقنفذ عندما يجمع على نفسه أطراف شوكه.
اعتزلت الناس أتم اعتزال، حتى خلطائي عزفت عنهم، وكنت أيامها مولعاً بالقراءة في كل ضرب من ضروب المعارف.. كنت أقرأ الأدب شعره ونثره، والتاريخ بأباطيله، والفلسفة بسفسطتها، والجغرافيا على الرغم من اختلاط حدودها، والعلوم الرياضية، والروايات البوليسية والجبر وأساليب التبسيط في الميكانيك والهندسة والكيمياء، وقبل ذلك كنت أقرأ كتب التفسير كالبغوي وابن كثير والجلالين والكشاف، وكتب الحديث والسيرة كابن هشام والحلبي، وكالبخاري ومسلم، وأذكر منها كتاباً اسمه "رياض الصالحين" للإمام النووي، ثم أهدي إلي والدي كتابين، وهما "جواهر الأدب" وهو معروف -على تفاهته- وكتاب "أدب الدنيا والدين" للماوردي، وهو كتاب قيّم جداً، ثم وقع في يدي كتاب "صيد الخاطر" لابن الجوزي، وهو كتاب عجيب نفيس، وشروح المعلقات، وهي أحياناً عشر وآونة سبع، وهكذا كنت ألقف ما أفهمه وأترك ما يستعصي علي إدراكه.
وكنت أشد عياً من "باقل" (3) وأعظم خفراً من العذراء -كما يقولون- ولي مع الأستاذ محمد علي مغربي قصة أرويها فيما يلي:
زارني الأستاذ القنديل (4) -كعادته دائماً- ومعه الأستاذ المغربي لأول مرة ومعهما ثالث أديب آسف على نسيان اسمه، والأستاذ القنديل رجل صالون ولا ينسى "البروتوكول" اللازم فقدم إلي المغربي قائلاً: "الأستاذ محمد علي مغربي من مشاهير أدباء جدة وصديق حميم"، وقد وصفت نفسي من قبل فما أحتاج أن أزيد، وتعثر لساني في فمي، فلم أقل -مثلاً- تشرفنا أو فرصة سعيدة أو ما إليها مما يقولها الناس، عنوها، أم لم يعنوها.
ويظهر أن الأستاذ المغربي -على فرط محبتي له ولكن فيما بعد- تأثر جداً فأقامهم وأقلقهم وكنت أمرت بالشاي -كأي عظيم مقصود؟ ولكنه -سامحه الله- أوجد لهم أرجلاً قبل أن يقوموا فعلاً ويستأذنوا للانصراف.
وبهت وأحسب أني قلت لهم: لماذا لا تجلسون قليلاً؟
ومشيت معهم، ونسيت غلطتي وأنا شخصياً لا أعتبرها غلطة، ومع ذلك فأنا آسف عليها حتى الآن، ولست آسفاً لأن مكانة الأستاذ التجارية والشكلية ارتفعت، فإنه يعرف تماماً أنه لا قيمة عندي لهذه المكانات مهما بلغت، والقيمة الصحيحة الجديرة بالاحترام عندي هي القيمة الجوهرية.. وهو منها في المكان الرفيع إن شاء الله.
كنت أتلعثم ولا أميّز بين الفأفأة والتأتأة عندما يقول لي أحدهم سلام عليكم ولا أرد عليه سلامه إلاّ بصعوبة وأزدرد ريقاً قد جف معينه.
كنت كالتمثال الصامت في جوقة صاخبة هائجة، وكنت أدمن القراءة أيما إدمان إلى الساعة الثامنة العربية ليلاً، كنت أقرأ حتى تتهالك أعصابي، ويغشاني ضعف عام في جسدي، فأعيا بعد التلف الذريع، وقد كاد أن يصدق فيّ قول من قال:
عوى الذئبُ فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ (5)
هذه صورة، والصورة الثانية الأخيرة التي تناقض تلك الصورة السالفة، وإن لم تناقضها تماماً، هو أني اليوم أصبحت أستطيع أن أتحدث بسهولة إلى العظيم والحقير على السواء، وأمسى الكلام لا يعييني إلاّ ريثما أتأتى له وقد أوهم أحياناً أني أنا مولانا أبو الكلام -كما يقال في الألقاب الهندية- فإني عندما ينفسح لي المجال وآخذ أهبتي وأستعد في نفسي، أستطيع أن أتدفق بما أشاء.
وعلى أني مهما كنت لن أكون مثل حمزة شحاتة (6) في الذلاقة، ولن أكون مثله أيضاً ذا صوت صهصلق، ولا ذا لباقة وسحر في الحديث؛ ولكني أستطيع أن أقول عن نفسي: إني لا بأس بي على أي حال كلما استفاض لي مجال القول.
وقد أحوجني ذلك إلى الانغماس في مجالس كنت أؤثر ألاّ أجلس فيها، وإلى الامتزاج بأناس كنت أود ألاّ أمتزج بهم، وعلمتني الوظيفة علوماً لم تقيّد في كتب العلوم المعروفة، وفتحت لي آفاقاً لا أرضية ولا سماوية، وسهلت لي أن أختلط بنماذج من الناس قلّ أن يختلط بهم إنسان غير موظف وهكذا.. ومع ذلك فأي الصورتين خير؟
أما أنا فلو تركت لنفسي، لما اخترت غير الصورة الأولى، ولما آثرت عليها أي صورة أخرى مهما زوّقت وبهرجت، ولما تركت نفسي -وهي واحدة- تتلبس بنفوس كثيرة متآلفة ومتخالفة.. كنت أود أن أكون متلعثماً على أن أكون مبنياً على كذب وزيف.. كنت أحب أن أنزوي على أن أختلط بالناس على مذق وخداع.
كنت أريد أن أكون وحيداً بنفسي وهمومها، ولا أتحمل هموم الناس، ما دام أني لا أستطيع أن أصنع لهم شيئاً أو أخفف من عنائهم.
وعلى الجملة كنت أتمنى أن أنجو بنفسي إن كنت لا أستطيع أن أنجو بغيري.
أي الصورتين خير؟
تلك هي المسألة كما يقول "هملت".
وللإنسان صور وصور، ولكن الصورة الحقيقية هي الأخلق بالتفضيل والتقديم مهما بلغت رداءتها وسوؤها.
والذي يقدم هذه الصورة ويفضلها هو الشجاع الشجاع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :493  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 44 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الغربال، قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 1999]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج