شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مغالطة النفس (1)
مغالطة النفس فيها إمتاع ومؤانسة، ومغالطة النفس فيها -أحياناً- مماحكة ومشاكسة.
والحياة لا تصفو -كما يقول أبو الطيب (2) - إلاّ لأفراد قليلين منهم ذلك الذي يغالط في الحقائق نفسه، ويسومها طلب المحال فتطمع! وسوم المحال، وإن يكن ممتنعاً في ذاته، ولكنه لذيذ ظريف عندما يوهم الإنسان نفسه أنه مدرك -أو كالمدرك- لما يروقه من ضروب هذه المستحيلات.
وتستطيع أن تغالط نفسك بأن تخدر معاقد أعصابك الداخلية أو تنيم عقلك الباطن، أو تطمس على ذاكرتك متعمداً، فتبدو لك الأشياء نقائض لبعضها على خط مستقيم.
فأنت تسيء إلى الناس، فتوهم نفسك أنك إنما تعمل لصالحهم، وتدفع الأذى عنهم.
وقطع الطريق يأتي على معنيين؛ أحدهما أن تقطعه عملياً، وثانيهما أن تقطعه -معنوياً- بسد أبواب الأعمال والمنافع والمطامح على كثير من الناس فيخيل إليك -في كلا المعنيين- أنك تخفف على الناس من أثقالهم، وتشاطرهم أعباءهم، وتمنحهم فرصة الراحة والقناعة، والقناعة -شئت أم لم تشأ- كنز لا يفنى!
ويرى المرء نفسه غراً طياشاً، فيظل يؤكد لنفسه أنه النجيب الرزين، وقد يكون شيخاً هرماً، فيتصابى، وينفض من فروج قميصه أعطاف غصن الدوحة المطلول -على حد تعبير الشريف الرضي (3) ، وقد يكون مسخوراً به مضحوكاً عليه، فينعكس الوضع في نفسه، ويبيت جذلان قرير العين.
والذاكرة تحاول دائماً أن تدس أنفها في كل شيء، ولا نرتاب جميعاً في أن هذه الذاكرة فضولية سخيفة، فإذا خلا المرء إلى نفسه ليستجم ويأنس، ويلاعب الأماني ويراقب الأحلام، اقتحمت عليه شريطاً مخزياً من ماضيه يندى له الجبين -إن لم يكن له إلاّ جبين واحد- فتسفر له المغالطة عن محيَّا كأنه البدر الوضاح من باب الإِسعاد والإِنجاد، وتقول له: إن ذلك كله لم يكن إلاّ وهماً وميناً، فكأنما انحط عن صدره جبل رضوى، ولست أدري لم اخترت جبل رضوى بالذات؟!
ولو استقصينا ألوان مغالطة النفس لكنا أحوج إلى تأليف كتاب منا إلى إنشاء مقال، ومع ذلك فهي موجودة في كل نفس عظم أمرها أو هان، وهي تارة رحمة، وتارة نقمة، وأحياناً تؤنس وتمتع، وأطواراً تكرب وتوجع.
ويميل إلى مغالطة نفسه -أكثر من يميل- أولئك الذين في نفوسهم ضرب من الموت المعنوي المزمن، هذا الموت الذي ينسخ الظلام فإذا هو نور، ويرد العار نوعاً من الفخار، ويحيل الزمانة والغباء إلى حصافة وذكاء، ولو لبثت الحقائق تصرخ في عيونهم وآذانهم، تعالوا إن هذه الحقائق لم تكن إلاّ أصداء بعد أصداء!
وأذكر أني آتي بأحدهم، فأضع أخطاءه وأغلاطه أمام عينيه، وأكاد أحشو بها أذنيه حشواً، فيذهب ينتحل لها تبريراً عجيباً، خير ما فيه أنه يضحك وإن يكن شر ما فيه أنه.. لا يبكي!
ولكل شيء في الدنيا أكثر من جانب واحد، فإذا تأملته من جوانبه المتعددة، انكشفت لك وجوه النقص والعجز فيه، وشر ما يغيظني ويملأ نفسي مرارة، أولئك الذين يبلغ بهم كلال البصر وسوء النظر وفقر النفس حداً يجعلهم لا ينظرون إلى الأشياء إلاّ من جانب واحد محدود، ولولا غلبة هذه الروح العامة السيئة على البشر لاستطاع أن يفتح عيونه على المساوئ كما فتحها وشققها على المحاسن، ولعلم -وقد علمنا الله فلم نعلم- أن الليل والنهار بالتناوب، وأن فصول السنة تتسلسل على التعاقب، وأن كل شيء مقترن بضده، وكل كمال معه نقص، وكل جودة فيها رداءة.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان، يفطنون دائماً إلى الوضر الذي يعلق دائماً بطينة البشر، فأخذوا يجادلون بالتي هي أحسن، ويحضون بالتي هي أرفق وألين على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم.
أترى لو كان الرسول عليه السلام وأصحابه سكتوا -وحاشاهم- وقالوا: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأكدوا أن أخلاق العرب عرب الأخلاق، كما يقال: إن كلام الملوك ملوك الكلام ورضوا -مصانعة ومجاملة- بالأمر الواقع، أفيمكن أن يخرج الإِسلام ذلك الجيل الشجاع التقي الذي استطاع أن يكتسح الدولتين الرومانية والفارسية في ربع قرن؟
إن شر ما في أدواء النفوس ورذائلها هو السكوت عليها، والمغالطة فيها حتى يتطاير شررها ويتفاقم خطرها، وحينئذ تستعصي على العلاج، ولا يمكن تلافيها بالدواء، ولن تعتدل بعد اعوجاج.
فأما المغالطة ففيها بلاهة وإخلاد، لولا أنها تجر أحياناً إلى التدهور والفساد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :534  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج