شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شمس العرب تسطع على الغرب (1)
أثر الحضارة العربية في أوروبا
تأليف: الدكتورة زيغريد هونكة
إذا كان من الثابت المعروف عن جماعات المستشرقين في الغرب أنهم -غالباً- مغرضون متحيزون في كل ما يكتبونه عن العرب والإسلام والحضارة الإسلامية بتأثير من مختلف البواعث والأغراض والأحقاد فإنه من الثابت المعروف أيضاً أن ثمة قليلين منهم بريئون من هذه الوصمة.. بريئون من أي غرض.. يكتبون ما يكتبون عن العرب وعلومهم وآدابهم وحضارتهم بدافع نبيل، يستهدفون غرضاً شريفاً على قاعدة من البحث العلمي المتجرد.. شعارهم في ذلك إحقاق الحق، والصدع بالكلمة المنصفة والرأي البعيد عن الهوى.
وليس من ريب في أن مؤلفة هذا الكتاب عن أثر الحضارة العربية في أوروبا، المستشرقة الألمانية الدكتورة "زيغريد هونكة"، مثال طيب من أمثلة هذه القلة المنصفة من المستشرقين الغربيين!
ولقد ذاع أمر هذا الكتاب في الغرب منذ ظهوره في اللغة الألمانية، وأحدث صدى بعيداً في مختلف الأوساط هناك.. وأكثر من ذلك لم يفت بعض من لم تعجبهم آراء المؤلفة وأسلوبها وطريقتها في البحث.. أن يتصدوا له بالرد وأن ينكروا ما ورد فيه من حقائق، وتضمنه من آراء!
وقد نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية أديبان يقيمان في ألمانيا، هما الأستاذان "فاروق بيضون" و "كمال دسوقي"، والحق أن ترجمتهما للكتاب تعتبر من أجود الترجمات متانة عبارة وإشراقة أسلوب.
المؤلفة والكتاب:
يقول المترجمان الفاضلان في تقديمهما للكتاب عن المؤلفة إنها مستشرقة ألمانية طائرة الشهرة، أحبت العرب وما زالت، وصرفت وقتها كله باذلة الجهد للدفاع عن قضاياهم والوقوف إلى جانبهم، وهي زوجة الدكتور "شولتز" المستشرق الألماني الكبير الذي اشتهر بصداقته للعرب، وتعمقه في دراسة آدابهم والاطلاع على آثارهم ومآثرهم.. وكتابها "شمس العرب تشرق على الغرب" هو ثمرة سنين طويلة من الدراسة الموضوعية العميقة، والمكتبة الألمانية لا تحوي في هذا الحقل الواسع سوى عدد من المقالات المتناثرة في المجلات العلمية لا تشفي الغليل، ولذا كان ظهور كتابها هذا، الذي نفخر بتقديمه إلى القارئ العربي، حدثاً كبيراً في ألمانيا وأوروبا، علقت عليه مئات الصحف والمجلات.. بدليل أن نقاد أوروبا لم يهتموا بشيء كاهتمامهم بهذا الكتاب فهاجم عشرات منهم المؤلفة والكتاب معاً.. واتهموها بالتعصب للعرب، والتحيز لهم.. بيد أن أصدقاء العرب في كل مكان انبروا يفندون مزاعم هؤلاء ويردون على افترائهم، فشهد الكتاب في عامه الأول معركة حامية الوطيس لم يعرفها كتاب غيره في ألمانيا في السنوات الأخيرة، وبهذا لاقى الكتاب في وسط هذه الضجة نجاحاً منقطع النظير فأعيد طبعه، وترجم إلى عدد من اللغات الأجنبية، كما رحبت به الصحافة العربية ترحيباً بالغاً.. الخ.
أردت تكريم العبقرية:
ولنستمع إلى المؤلفة في مقدمتها التي أعدتها خصيصاً لهذه الترجمة العربية لكتابها إذ تقول: ".. وأردت أن أكرم العبقرية وأن أتيح لمواطني فرصة العودة إلى تكريمها، كما أردت أن أقدم للعرب الشكر على فضلهم الذي حال دون سماعه طويلاً تعصب أحمق، أو جهل أحمق.. وكم سررت أن يترجم كتابي هذا إلى اللغة العربية حتى أستطيع أن أحدث مباشرة قلوب العرب، بما يعتمل في نفوسنا من المشاعر.
تتحدث المؤلفة في كتابها في صراحة تامة وفي وضوح وفي تعبير لا يتردد قارئه في الحكم عليه بأنه صادر عن روح صافية متحررة من العقد.. وعن رغبة في الإنصاف..
يشتمل الكتاب على فصول سبعة تناولت فيها أهم معالم حضارة المسلمين، وخاصة منها العلم والأدب والطب وغيرها من وسائل المعرفة والثقافة والفنون.. وما أجمل هذا الوصف الشيق -نقرأه في صفحات عديدة من الكتاب- عن مدى ما وصلت إليه الحضارة العربية من تغلغل ثم عن شغف المسلمين بالثقافة والمعرفة وما كان لنشاطهم في مختلف هذه المجالات من تأثير في الغرب وما أحدثه كل ذلك من انقلاب بل هي لا تتردد في أن تقول عن هذا الانقلاب وهذا التحول بأنه "المعجزة التي حققها العرب".
المعجزة التي حققها العرب:
تقول مؤلفة الكتاب: "نحن الآن في سنة ألف للميلاد. لقد نشر ابن النديم تاجر الكتب في بغداد بالأمس القريب فهرساً يضم في عشرة مجلدات أسماء جميع الكتب التي صدرت باللغة العربية في الفلسفة والفلك، والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والطب حتى ذلك الحين.
وفي الأندلس تجتذب قرطبة طلاب العلم من كل أنحاء الشرق بل والغرب أيضاً تجذبهم بمدارسها العليا ومكتباتها العظيمة التي جمع لها الخليفة الحكم الثاني -وهو من أشهر علماء عصره- نصف مليون من الكتب القيمة جمعها له عشرات من رجاله، وعلق الخليفة بنفسه على هوامش عدد كبير منها قبل وفاته، قبل نهاية القرن العاشر بأربعة وعشرين عاماً.
وفي القاهرة رتب مئات العمال والفنيين في مكتبتي الخليفة مليونين ومئتين من المجلدات، وهو يعادل عشرين ضعفاً مما حوته مكتبة الإسكندرية الوحيدة في عصرها.
إنه لمن المعلوم تماماً أنه ليس ثمة أحد في روما له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بواباً لتلك المكتبة.. وأنى لنا أن نعلم الناس ونحن في حاجة لمن يعلمنا..؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه.. هذا ما قاله متحسراً من يعرف الحقيقة تمام المعرفة، أعني به "جربرت فون أورياك" الذي ارتقى كرسي البابوية في روما عام 999 ميلادية باسم البابا سلفستروس الثاني.
وفي هذا العام نفسه نشر أبو القاسم مبادئ الجراحة التي ظلت شائعة لقرون عدة. وشرح البيروني أرسطاطاليس العرب للفكر العالمي دوران الأرض حول الشمس، واكتشف الحسن بن الهيثم قوانين الرؤية وأجرى التجارب بالمرايا والعدسات المستديرة والأسطوانة المخروطية.
وبينما كان العالم العربي يسرع في هذا العام نحو قمة عصره الذهبي، وقف الغرب مذهولاً وقد تولاه الفزع يترقب نهاية العالم عما قريب، ويعظ القيصر الشاب أوتو الثالث وهو ابن عشرين ربيعاً الناس فيقول: "والآن سيأتي المسيح ويحضر النار ليقتص من هذا العالم"..
وبينما أوتو الثالث يتشدق بهذه الكلمات الجوفاء كان ابن سينا، وهو حينذاك أيضاً فتى في العشرين من عمره، قد بدأ يملأ الدنيا بأنباء انتصاراته العلمية الباهرة.
كيف حدث هذا؟
إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء، والتي بدأت من اللاشيء لهي ظاهرة جديرة بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني، وإن انتصاراتهم العلمية المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة في هذا العصر الفريدة في نوعها لدرجة تجعلها أعظم من أن تقارن بغيرها وتدعونا هنا أن نقف هنيهة متأملين: كيف حدث هذا؟ وكيف أمكن لشعب لم يمثل من قبل دوراً حضارياً أو سياسياً يذكر أن يقف مع الإغريق في فترة وجيزة على قدم المساواة؟
إن ما حققه العرب لم تستطع أن تحققه شعوب كثيرة أخرى تمتلك من مقومات الحضارة ما قد كان يؤهلها لهذا.. بيزنطة، وريثة الحضارتين الشرقية والإغريقية بقيت على جهالتها مع أنها بلغتها اليونانية كانت أقرب الناس إلى الحضارة الإغريقية والسوريون وهم تلامذة الإغريق كان لهم من الحضارة قبل الإسلام حظ وفير ولقد نقلوا عن طريق الترجمة كثيراً من أعمال الإغريق إلى لغتهم ولكنهم أيضاً، كبيزنطة، فشلوا في أن يجعلوا مما اقتبسوه عن الإغريق بذرة لحضارة تزدهر كما فعل العرب في ما بعد.
ولم تكن فارس التي اقتبست من حضارات الصين والهند والإغريق بأسعد حظاً من بيزنطة أو سورية، وبرغم تحسن الحالة الاقتصادية في تلك البلاد ورعاية الدولة للعلوم والعلماء فإنه لم يتح لحضارة تلك البلاد أن تصبح حضارة مبتكرة مؤثرة إلاّ في جو عقلي آخر وفي ثنايا حضارة أنجح هي الحضارة العربية.
لم يأت خلفاء الإغريق على عرش الحضارة من بيزنطة أو من سورية، ولم يأتوا من فارس حلقة الاتصال بين حضارتي الشرق والغرب، بل أتى سادة الحضارة الجدد من قلب الصحراء الجدباء ليتبوأوا فجأة مركز الزعامة بين حضارات العالم بلا منازع مدة ثمانية قرون، وبهذا ازدهرت حضارتهم أكثر من حضارة الإغريق أنفسهم.
وما هي المقومات؟
الآن يطرح علينا السؤال نفسه طالباً منا إجابة شافية: ما هي المقومات التي احتاجها هذا الشعب ليبعث مثل هذا البعث؟ وما هي العوامل التاريخية والاجتماعية والفكرية التي كان لا بد لها أن تجتمع لتخلق هذه المعجزة التي حققها العرب؟
إن انتصارات العرب وفتوحاتهم التي لا تقارن قد خلقت لهم عالماً ثبت أقدامهم فخلقوا بذلك آخر موجة قوية للهجرة عبر حدود الصحراء إلى البلاد الخصيبة المجاورة، تلك الهجرات التي بدأت وتكررت متوالية على مر التاريخ.
الإسلام:
وتمضي المؤلفة تقول: قبل الإسلام كان تحطيم سد مأرب عام 542 ميلادية، ونضوب منابع المياه في الجنوب العربي قد دفعا القبائل للهجرة.. وزج بهم الصراع الناشب بين أكبر دولتين في ذلك العصر -نعني فارس وبيزنطة- إلى الانتشار في أقطار بعيدة، ولم يكن أولئك العرب بقطاع طرق أو قتلة كما يصورهم بعض المؤرخين المعادين للعرب على غير حق. ثم جاء الإسلام فجمع هذه القبائل المتنازعة المفككة ليجعل منها في سنوات قلائل شعباً عظيماً، آخت بينه العقيدة، وربطت عناصره المحبة فتهافتوا جميعاً على مناصرة الدين الجديد وتناسوا خلافاتهم وساروا طراً يداً واحدة، يحدو كل فرد منهم أمل باسم مشرق في أن تكتب له الشهادة في سبيل الله.. وبهذا الروح القوي الفتي شق العرب طريقهم بعزيمة قوية تحت قيادة حكيمة.. وضع أساسها الرسول بنفسه وظلت دائماً مسؤولة أمام الحكومة المركزية مباشرة فكان النصر للعرب على أعدائهم المتفوقين عليهم في العدد والعتاد.. أو ليس في انتصاراتهم السريعة المتلاحقة أكبر دليل على أثر ذلك الروح الجديد الذي سرى بينهم؟ أو ليس في هذا الإيمان تفسير لذلك البعث الجديد؟
والفتوحات!
وعندما توفي الرسول عام 632م كانت الجزيرة العربية قد توحدت سياسياً، ولم يأت عام 635م إلاّ وقد هزم الجيش البيزنطي.. وبعد عامين فقط وفي معركة واحدة تقوضت دعائم دولة الفرس وهدت إمبراطوريتهم، ولم يحن عام 638م إلاّ وفلسطين في أيدي العرب، كما تمكنوا سنة 642م من أن يفتحوا مصر.. وبموت الخليفة العظيم عمر، همدت حمية الفاتحين وأصبح حظ الفتوحات من النجاح متقلباً.. غير أن الفتوحات وصلت على الرغم من هذا، في نهاية هذا القرن، حتى شواطئ المحيط الأطلسي.
وعلى هذا النحو تتابع الدكتورة "زيغريد هونكة" حديثها إلى أن تقول:
ولعلّ من أهم عوامل انتصارات العرب هو ما فوجئت به الشعوب من سماحتهم، حتى إن الملك الفارسي "كيروس" قال: "إن هؤلاء المنتصرين لا يأتون مخربين!". فما يدعيه بعضهم من اتهامهم بالتعصب والوحشية إن هو إلاّ مجرد أسطورة من نسيج الخيال تكذبها آلاف من الأدلة القاطعة عن تسامحهم وإنسانيتهم في معاملاتهم مع الشعوب المغلوبة..! والتاريخ لا يقدم لنا في صفحاته الطوال إلاّ عدداً ضئيلاً من الشعوب التي عاملت خصومها والمخالفين لها في العقيدة بمثل ما فعل العرب. وكان لمسلكهم هذا أطيب الأثر مما أتاح للحضارة العربية أن تتغلغل بين تلك الشعوب بنجاح لم تحظ به الحضارة الإغريقية ببريقها الزائف ولا الحضارة الرومانية بعنفها في فرض إرادتها بالقوة!
انتشار الحضارة العربية..
صحيح أن هذه الإمبراطورية العربية قد انقسمت بعد مدة وجيزة من الزمن إلى دويلات لكن ذلك لم يكن ليمنع الحضارة العربية ذات المحتوى الخاص، والمعالم المميزة، من أن تفرض سيطرتها على تلك الشعوب المتباينة في مصر وإسبانيا والعراق وغيرها.. أو ليست هذه معجزة تضاف إلى المعجزات التي حققها العرب؟
لقد كانت تلك الشعوب وحضارتها في خريف العمر، ولم يعد في الإمكان وقف انهيارها خاصة وقد عمل رجال الدين والكهنة المسيحيون على مقاومة تلك الحضارات الوثنية غير المسيحية ولو لم يخلق أبناء الصحراء في زمن وجيز من هذه البقية الباقية من بصيص النور الواهن المشرف على نهايته شعلة وضاءة لأدركت تلك الحضارات نهايتها الحتمية... ولكن، أو لم يحدث مثل ذلك للبقية الباقية من حضارات شمالي البحر المتوسط دون أن يكون له مثل النتيجة التي كانت لتدخل العرب بل بالعكس، إذ يمكن القول بأنه كان من نتيجة حلول الظلام الدامس على تلك الربوع، ترعرع الجهالة الحمقاء فيها!
وتستطرد المؤلفة وهي تواصل حديثها، إلى الفتح العربي الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص، ثم ما تردد حول موضوع حرق مكتبة الإسكندرية بإشارة من عمرو. تقول المؤلفة: "وعندما دخل العرب الإسكندرية عام 642م، لم يكن هناك منذ زمن طويل، مكتبات عامة كبيرة.. وأما ما اتهم به قائدهم عمرو بن العاص من إحراقه لمكتبة الإسكندرية، والذي يعبر به حتى اليوم عن صورة مفزعة للبربرية والوحشية.. فقد ثبت في أكثر من مناسبة، وبعد أبحاث مستفيضة، أنه مجرد اختلاق لا أساس له من الصحة.
إلى أن تقول: "إن عمراً فاتح الإسكندرية، هو نفسه عمرو الذي ضرب المثل بتسامحه طوال فتوحاته، وحرم النهب والسلب والتخريب على جنوده، وعمل ما كان غريباً عن فهم الشرقيين القدماء والمسيحيين على السواء؛ لقد ضمن صراحة للمغلوبين حرية ممارسة شعائرهم الدينية المتوارثة، وإليك نص نموذج عقود الصلح مع الشعوب المنهزمة على تلك المعاني:
"هذا الاتفاق يشمل كل الرعايا المسيحيين، كهنة ورهباناً وراهبات، ويضمن لهم الحماية والأمن أينما كانوا حسب مشيئتهم وبالمثل يحمي كنائسهم ومساكنهم وأماكنهم المقدسة، وكذلك يحمي من يزور تلك الأماكن من جورجيا أو الحبشة، يعاقبة كانوا أم نساطرة، ويحمي كل من يؤمن بالنبي عيسى، كل هؤلاء يجب مراعاتهم لأن الرسول قد كرمهم في وثيقة تحمل خاتمه نبهنا فيها أن نكون معهم رحماء.. وأن نضمن لهم أمنهم".
هذه صورة حية لتسامح المسلمين، وسماحة عمرو.. وهي ليست بالوعود الجوفاء، فقد احترمها المسلمون نصاً وروحاً.
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ هذا ما أمر به القرآن الكريم، وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام. فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم.. وترك المسلمون لهم بيوت عباداتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى..!
أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال ومتى؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ.. وبعد فظائع الإسبان واضطهادات اليهود؟
إن السادة والحكّام المسلمين الجدد لم يزجوا بأنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية؛ فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: "إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف"..
.. لم يكن ثمة إكراه من سلطة، يدخل بين هذا أو ذاك.. ولكنها الحاجة دفعتهم إلى هذا التشبه الكامل ليدخلوا في عالم أولئك العرب. وكان المسيحي أو اليهودي يشعر بالفخر والعزة إذا حمل اسماً عربياً ما وسعه الشعور، فيما عدا أسماء المؤمنين المميزة كمحمد.. وعبد الله.. واستطاع العربي بإيمانه العميق أن يكون أبلغ سفير وداعية لديانته لا بالتبشير وإيفاد البعثات وإنما بخلقه الكريم وسلوكه الحميد.. فكسب لدينه عدداً وفيراً لم تكن أية دعوة مهما بلغ شأنها لتستطيع أن تكسب مثله.
طلب العلم عبادة:
وتقول المؤلفة الألمانية تحت هذا العنوان: "لقد أوصى محمد كل مؤمن رجلاً كان أو امرأة بطلب العلم، وجعل من ذلك واجباً دينياً.
.. على النقيض تماماً يتساءل بولس الرسول مقراً: "ألم يصف الرب المعرفة الدنيوية بالغباوة؟".
مفهومان مختلفان، بل عالمان منفصلان تماماً، حددا بهذا طريقين متناقضين للعلم والفكر في الشرق والغرب، وبهذا اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة، والمعرفة السطحية المعاصرة في أوروبا حيث لا قيمة لمعرفة الدنيا كلها.
.. ومن هنا فقط يتضح لنا تماماً لماذا احتاجت الحضارة في الغرب ألفاً من السنين قبل أن تبدأ في الازدهار تدريجياً، مع أنها كانت لديها فرصة مناسبة لتبدأ قبل الحضارة العربية بقرنين أو ثلاثة.. وما إن انقضى قرن واحد من الزمان على الفتوحات الإسلامية حتى ازدهرت حضارة العرب وأتت أكلها مكتملة ناضجة.
وتمضي المؤلفة في حديثها عن الحركة العلمية وإقبال المسلمين على العلم ثم تقول: ففي كل حقل من حقول الحياة صار الشعار للجميع: "تعلم وزد معارفك قدر إمكانك وأينما استطعت. وبأقدام ثابتة ونفوس هادئة مطمئنة تعرف حقها وتؤدي واجبها، أقبل العرب على ما وجدوا من معارف فاغترفوا منها قدر جهدهم، وما رأوا فيه نفعاً لهم.
وهم في احتكاكهم بحضارات الهند وفارس والصين، يصادفون بين الحين والآخر قطعاً متناثرة من حضارات الإغريق أو الإسكندرية، ولكن كل ما كانوا يجدونه من آثار تلك الحضارات العظيمة كان لا يشفي غلتهم.. لقد ذاقوا حلاوة العلم فازداد شوقهم إلى البحث عنه، ولم يعودوا يرضون بغير العلم والبحث بديلاً.
عملية إنقاذ ذات معنى كبير في تاريخ العالم!
عملية إنقاذ.. وأي إنقاذ، إنه إنقاذ للثقافة.. للعلم.. للكتاب.. لنستمع للمؤلفة إذ تقول:
"الكتاب وسيط في السياسة، والعلم سفير للسلام".
أين ومتى حدث هذا في التاريخ..؟ قبل العرب أو بعدهم؟ لقد أحاط العرب الكتب بقلوبهم، حتى المؤلفات الفنية الدقيقة في الهندسة والميكانيكا والطب والفلك والفلسفة.. وكما تطلب الدولة المنتصرة من الدولة المهزومة تسليم أسلحتها وسفنها الحربية كشرط أساسي لعقد الصلح، هكذا طلب هارون الرشيد بعد احتلاله لعمورية وأنقره تسليم المخطوطات الإغريقية القديمة. وكما يستولي المنتصرون اليوم على المناجم والصناعات الحربية الهامة والأسلحة المدمرة مع مخترعيها، نرى المأمون بعد انتصاره على ميخائيل الثالث، قيصر بيزنطة يطالب بتسليم أعمال القدماء التي لم تتم ترجمتها بعد إلى العربية.. ويعتبر ذلك بديلاً عن تعويضات الحرب، إنها أيضاً أسلحة تساهم في بناء المجد!
.. وأصبح اقتناء المخطوطات التي لم تترجم حتى ذلك الحين هواية الأمراء والوزراء وسراة القوم.. فضحوا بمبالغ طائلة في بلاد الإغريق وآسية الصغرى، وفي كل مكان وطأته أقدام الإغريق يوماً ما، عن طريق بعثات العلماء، أو عن طريق عملائهم الخاصين.. أجل لقد دفعوا ثمناً باهظاً لما وجدوه باقياً من الآثار العلمية، وكان قد نجا من أعمال التخريب الفظيعة الشائنة.
إن ما قام به العرب لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم، وإن حضارة قد هوت وتحطمت على وشك الفناء أمام أعين صانعيها الذين صار لهم الآن هدف آخر يسعون إليه ولا يمت لهذا العالم بصلة.. فما بقي من هذه الحضارة يجب أن تشكر عليه البشرية اليوم العرب وحبهم للعلم، ولا يعود لبيزنطة فيه إلاّ فضل قليل.
.. ولم يكن ما أنقذه العرب من ثقافات ليحفظ في المتاحف والأقبية بعيداً عن النور والهواء.. كلا.. إن كل ما أنقذوه من الفناء قد خرجوا به من عالم النسيان والتعفن وبعثوا فيه حياة جديدة وجعلوه في متناول كل راغب عن طريق ترجمته، وقد ترجموه ليس إلى لغة جامدة غريبة عن الشعب، لا يفهمها إلاّ الخاصة كاللاتينية في الغرب منذ القرن الثامن الميلادي، بل ترجموه إلى لغة حية في كل مكان آنذاك، هي لغة القرآن وكانت هذه الترجمة هي العماد الثاني الذي قامت عليه الثقافة العربية فكل مسلم يتعلم ويفهم اللغة.. ولكل مواطن في الإمبراطورية الإسلامية حق الأخذ بنصيب في تلك النهضة العلمية التي اتخذت شكلاً رائعاً في ذلك العصر، والتي لم تكن وقفاً على طبقة من الشعب دون أخرى.
العرب والكتب:
.. لقد أقبل العرب على اقتناء الكتب إقبالاً منقطع النظير يشبه إلى حد كبير شغف الناس في عصرنا هذا باقتناء السيارات والثلاجات وأجهزة التلفزيون بعد الدمار الذي أصابهم إبان الحرب العالمية فحرمهم طويلاً من متع الحياة فأصبحت الكتب هي مطلب كل من يستطيع تحمل نفقات الحصول عليها فأقبل الناس في البلدان العربية على اقتنائها بلهفة متزايدة لم يعرف لها التاريخ من قبل مثيلاً.
وكما يقاس شراء الناس اليوم بمدى ما يملكون من عربات فاخرة مثلاً.. قدر الناس في ذلك العصر -الممتد من القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر الميلادي- الثراء بمدى ما يقتني من كتب أو مخطوطات..
ولم يكن الخليفة، بتشجيع من وزرائه البرامكة، ليهدي الجماهير هدية تتفق مع مزاجهم أجمل من إنشائه مكتبة ضخمة في بغداد عرفت بدار الحكمة. ونمت دور الكتب في كل مكان نمو العشب في الأرض الطيبة.. ففي عام 891م يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مائة وبدأت كل مدينة تبني لها داراً للكتب يستطيع عمرو أو زيد من الناس استعارة ما يشاء منها، وأن يجلس في قاعة المطالعة ليقرأ ما يريد.. كما يجتمع فيها المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلمية.
فمكتبة صغيرة كمكتبة النجف في العراق كانت تحوي في القرن العاشر أربعين ألف مجلد بينما لم تحو أديرة الغرب سوى أثني عشر كتاباً ربطت بالسلاسل، خشية ضياعها.. ويحتاج تصنيف الكتب الموجودة في مدينة "الري" إلى عشرة فهارس كبيرة، وكان لكل مسجد مكتبته الخاصة، بل إنه لكل مستشفى يستقبل زواره قاعة فسيحة، صفت على رفوفها الكتب الطبية الحديثة الصدور، تباع لتكون مادة لدراسة الطلاب ومرجعاً للأطباء، يقفون منه على آخر ما وصل إليه العلم.. ولقد جمع ناصر الدين الطوسي لمرصده في "مراغة" 400 ألف مخطوطة.
وحذا حذو الخليفة في بغداد كل الأمراء العرب في مختلف أنحاء العالم العربي فأربت مثلاً، مكتبة أمير عربي في الجنوب على 100,000 مجلد.. وروى أنه لما شفي سلطان بخارى محمد المنصور من مرضه العضال على يد "ابن سينا" وهو بعد فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة، كافأه السلطان على ذلك بأن سمح له أن يختار من مكتبة قصره ما يحتاج إليه من الكتب لدراسته.. وكانت كتبها تشغل جزءاً كبيراً من القصر، وقد رتبت حسب موضوعاتها، ويكتب ابن سينا عن ذلك الحدث، فيقول: "وهناك رأيت كتباً لم يسمع أغلب الناس حتى بأسمائها".
وكذلك فعل الوزراء ورجال الدولة فلقد ترك الوزير المهلبي مثلاً، عند وفاته عام 963م، مجموعة من 117,000 مجلد، واستطاع زميله الشاب ابن عباد أن يجمع في مكتبته 206,000 كتاب..
.. أين هي اليوم تلك المكتبات الخاصة التي تضم عشرين، أو ثلاثين ألفاً من الكتب، كالتي كان يملكها ابن المطران طبيب صلاح الدين، أو الكيميائي ابن التلميذ، أو المؤرخ ابن القفطي؟ كتب لم تكن مطبوعة على آلة بل نسخت باليد، وبذل فيها كاتبوها مجهوداً مضنياً دام أشهراً طويلة وأحياناً بضع سنوات.. ولم تكن تلك الكتب رخيصة الثمن، فقد تقاضى ابن الهيثم مثلاً 75 درهماً أجراً لنسخ مجلد من مجلدات إقليدس، وهو مبلغ لا يستهان به عاش منه ابن الهيثم ستة أشهر.. إلى أن تقول المؤلفة: "لم يكن المرء ليحسب من الأثرياء ما لم يكن يملك مجموعة من الكتب النفيسة النادرة. ثم تشير إلى ما بلغته عناية المكتبات العامة بشراء كل جديد من الكتب والمخطوطات فتقول في هذا الصدد: "خصصت المكتبة النظامية، وهي المدرسة العليا الشهيرة ببغداد، سنوياً ما يعادل مليوناً ونصف مليون من الفرنكات الذهبية لشراء الكتب والمخطوطات.
وفتحت اللهفة، على اقتناء الكتب الباب أمام مئات الألوف من البشر لكسب عيشهم فأصبح النساخ والخطاطون فنانين مهرة في فنهم، ووظفت كل مكتبة أو متجر للكتب عدداً من هؤلاء وكان أغلبهم من الطلبة أو أنصاف المتعلمين الذين أرادوا عن هذا الطريق كسب رزقهم.
وكم رزم من الأوراق، وليترات من الحبر صنعت من الساج والصمغ العربي استهلكتها الأيدي الدائبة على الكتابة في كل عام.. وكم من جلود أمدتهم بها صغار الغزلان والماعز قد استنفدت في هذا الغرض، وهكذا أصبحت تجارة الكتب، تماماً كالصيدلية، هدية قدمها العرب للبشرية!".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1963  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.