شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخليفة الزاهد
الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل
الخليفة الزاهد، عمر بن عبد العزيز! كتاب ألفه باحث معروف، له العديد من المؤلفات في التاريخ الإسلامي.
ولقد كانت سيرة الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز، منذ أول العصور موضع عناية الكتّاب والباحثين.
وقيل عنه بحق: "أعدل الخلفاء الأمويين!".
وقيل عنه بحق: "خامس الخلفاء الراشدين!".
ولم يكن العدل وحده سمة عمر بن عبد العزيز!
لقد كان لسبط ابن الخطاب، سمات أخرى كثيرة غير ما اشتهر به من عدالته المثالية.. كان الورع والتقوى والزهد، وكان العلم والفقه كل ذلك ممثلاً في أسمى صورة، وفي أجمل مثال، في شخصية عمر.
في عهد الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز ازداد إقبال الناس على الإسلام من جميع الأنحاء التي فتحها المسلمون، ولم يكن هذا ناشئاً عن رهبة، أو قسر.. وإنما لما رآه أهل هذه الأقطار من إنسانية الحكم.. ومثالية الحاكم..
وقد كان الخوارج أعنف جبهة معارضة للحكم الأموي منذ أن قام.. غير أن الخوارج ما لبثوا -منذ أن جاء عمر- أن أقلعوا عن نشاطهم، وتخلوا -رغم عنجهيتهم- عن خصومتهم بعد أن رأوا ما رأوه من نزاهة عمر، وتحريه للحق، وزهده وورعه وتقواه..
وحارب عمر الفقر والمرض -في ما حارب- وحارب الجهل وكان أكبر حاث على العلم، ومشجع لنشر التعليم.. والمؤلف الفاضل، يحدثنا عن كل ذلك في أسلوب رصين.. يبدأ حديثه أول ما يبدأ عن مولد عمر وعن نشأته في المدينة، في أحضان أخواله آل الخطاب، وتلقيه للعلم، وروايته للحديث عن خاله "عبد الله بن عمر" وعن أبيه "عبد العزيز بن مروان" وعن سعيد بن المسيب وغيرهم، ثم زواجه من ابنة عمه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان.. ويحدثنا عن إعجاب "عبد الملك" بابن أخيه الشاب، ثم ما كان من أمر ولايته للمدينة، ثم عزله منها ونزوحه إلى الشام، وما كان من مواقفه بعد ذلك مع كل من الوليد بن عبد الملك، وأخيه سليمان، واختيار سليمان أن يكون الخليفة من بعده: عمر بن عبد العزيز!
ولم يكن عمر راضياً عن اختياره للخلافة، ولم يقبل المنصب إلاّ بعد ما رأى من إصرار الناس جميعاً -سوى بضعة أفراد- على البيعة إماماً للمسلمين.. يتحدث المؤلف عن كل ذلك في إفاضة وشمول:
"ولقد وقف عمر يخطب في الناس -بعد مبايعته- فقال: أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي.. فاختاروا لأنفسكم!.
ودهش الناس لما قال، وأخذتهم الحيرة وكادوا يضطربون فقام رجل من الأنصار فقال: يا أمير المؤمنين، أبسط يدك أبايعك! وفيما كان الأنصاري يبايع عمر أول من بايع، كان الناس يصيحون في المسجد راضين وكارهين: قد اخترناك ورضيناك، فلِ أمرنا باليمن والبركة.
فلما هدأت الأصوات ولم يبق من معارض، حمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل من خلف، فاعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل بكم وإن من لا يذكر من آبائه -في ما بينه وبين آدم- أباً حياً لمعروق في الموت.. وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم.. وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً.. ثم رفع صوته فقال: يا أيها الناس من أطاع الله فقد وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له.. أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم".
ثم نزل فاستقرت له الخلافة منذ ذلك اليوم وكان يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين.
كان أول عمل قام به -قبل دفن سليمان- أن بعث بثلاثة كتب واحد منها إلى مصر بعزل "أسامة بن زيد" صاحب صدقات مصر الذي حلب الدر حتى انقطع، والدم حتى انصرم وكان غاشاً ظلوماً.. معتدياً في العقوبات يقطع الأيدي في خلاف ما يؤمر به، ويشق أجواف الدواب فيدخل فيها القطاع ويطرحهم في جنوب مصر للتماسيح.. فأقسم عمر ليكون، أول عمله لو تولى الأمر أن يعزل أسامة بن زيد عن صدقات مصر، وبر بوعده لله فعزله، وحط المظالم عن أهلها، وأراح أكبادهم..
ومضى الكتاب الثاني برجوع مسلمة بن عبد الملك عن بلاد الروم.. فقد كان يذوب مع جند المسلمين تحت وطأة الروم ذوبان الثلج تحت شمس الصيف ويكاد الجيش يفنى ولا يرجع منه أحد.. وكان مسلمة أشرف على فتح القسطنطينية براً وبحراً وكاد يلج، لولا أن خدع عنها، وأحرز العدو طعامه وحوائجه وأغلق أبوابها دونه.. وبلغ خبر النكبة سليمان فغضب إذ خدع مسلمة وحلف ألاّ يرجعه منها حياً.. فاشتد المقام على المسلمين وهلكوا وأكل الناجون منهم لحوم الدواب، ولج سليمان في التصعيب عليهم، وكان ذلك يغم عمر فلما ولى لم يسعه في ما بينه وبين الله أن يؤخر قفولهم ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل ذلك الكتاب..
ومضى الكتاب الثالث بعزل يزيد بن أبي مسلم عن أفريقيا لأنه كان جباراً يظهر التأله، ويشتط في النفاذ، مما جلّ أو صغر، بالجور ومخالفة الحق.. وكان رجلاً مختلطاً متناقضاً يأمر بتعذيب من يعذبه وهو يقول: سبحان الله والحمد لله.. شد يا غلام موضع كذا.. لا إله إلاّ الله والله أكبر: شد يا غلام موضع كذا وكذا.. لبعض مواضع التعذيب، فكانت حاله تلك شر الحالات فكتب عمر بعزله في ثالث كتاب.
ودار عمر حول نفسه كما تدور العاصفة؛ فاقتلع جذور الباطل، وطمس معالم الغرور، ونوى أن يفني المال المجموع ويضيع العقار الموروث، ويبدد القطائع الموهوبة لا ليزهد زهادة تفقره وتفقر أهله، ولا تغني الناس.. ولكن ليرد الحق إلى نصابه، ويعيد العدالة إلى مجراها، ويوضح من معالم الإسلام ما طمسته الخطوب في الأذهان.. وإنه لماضٍ مثقل بأوزار غلاظ تصعب على كل تطهير ولكن عمر صمم أن يطهر الأرض مهما زلزلت في يده.. ولو قدر أن يظهر بدنه من سموم الطعام الذي أكله من قبل، وأن يمحو من الهواء نفحات الطيب التي نفحت فيه منه.. لو قدر أن يفعل ذلك وأن يصهر شحمه، ويذيب عظمه.. لفعل!!
وكان من أوائل أعماله عزله للولاة الظلمة.. قال سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب حين استشاره عمر بن عبد العزيز في العمال: ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أجد من يكفيني عمله.. وأنك إذا كنت تنزع لله وتعمل له أتاح الله لك رجالاً وجاءك بأعوان.. وإنما العون من الله على قدر النية، فإذا تمت نية العبد تم عون الله.
وكان قد مات الحجاج بن يوسف، ولكن ظلمه لم يمت.. وخلفاؤه ما يزالون يلون البلدان، وصليل سيوفهم ما يزال يقعقع في الآذان.. فأنشأ عمر -في سرعة واستعجال- بعزل الولاة الذين ظلموا، وسفكوا الدماء، فعزل كل رجل ولغ في دماء المسلمين ليهدئ النفوس، ويريح الجنوب، وحرضه قول سالم بن عبد الله فقيه المدينة، فأمر بعزل كل ظالم وإن كان ذا قرابة لأمير المؤمنين! ونفى أهل بيت الحجاج إلى اليمن، ولم يستعمل أحداً منهم على سلم أو حرب ليأمن مكرهم.
* * *
واستطاع عمر أن يغير من نفسه كل مظاهرها وعاداتها سوى مشية "التبختر" العمرية التي كان يمشيها صبياً، ووالياً بالمدينة، فقد صارت له ديدناً، وقد حاول حين استخلف أن يغيرها فلم يستطع، فطلب من "مزاحم" مولاه أن يعاونه وينبهه كلما مشاها إلى أن يغيرها.. فجعل مزاحم يراقبه ويدله، ثم يرجع فينسى، ويخلطها ثم لا يستطيع فيرجع إليها وما زال بها حتى أوشك أن يغيرها قليلاً، فصارت كمشية الرهبان.
قال علي بن جذيمة: رأيته في المدينة وهو من أحسن الناس لباساً، ومن أطيب الناس ريحاً، ومن أخيل الناس في مشيته، ثم رأيته بعد ذلك يمشي مشية الرهبان.
وكان عمر ماضياً قدماً لا يتأخر ولا يتلوى، أخذ يتعالى في صفاته ويسمو، وينزل عن عادته في السمو والتعالي وما كان يزداد عاماً بعد عام إلاّ فضلاً، ولكن الذكريات كانت تمر به فيضاهئ بين ماضيه وحاضره.. فيحن لنعماه التي مضت حنين المودع، الذي لا يرجو أن يعود.
كان يضاهئ بين عيشه في المدينة ومصر، وعيشه الأول بالشام، وبين عيشه اليوم.. فيقول: أين عيشنا اليوم من عيشنا إذ كنا بمصر! لقد رأيتني وكنا لو ضافني أهل قرية لوجدت ما يعمهم! وأين عيشنا هذا من عيشنا بالمدينة؟!
ومر يوماً بزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، فضرب على كتفها وقال: يا فاطمة! لنحن في ليالي دابق أنعم منا اليوم. فقالت له: والله ما كنت على ذلك أقدر منك اليوم! فأدبر عنها وله حينئذ حنين.. وهو يقول: يا فاطمة! إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم..
وكان حب العدالة والإنصاف ركيزة في نفس عمر، وميلاً في دمه ورثه من جده عمر بن الخطاب.. ولكن عوامل أخرى تظاهرت عليه، وأحاطت به، فقهرته على أن يفعل للعدالة ما لم يفعل لها من قبل.. وكان أقوى هذه العوامل التي نشأت حوله ابنه عبد الملك!
ظهر ابنه عبد الملك هذا في هبوب العاصفة، فبعث فيها عنفاً وقوة.. وكان عبد الملك أعجوبة تاريخ، ونادرة فلك.. كان ناشئاً لم يجاوز العشرين من عمره ولم يلحق بها، ولكنه نشأ منذ صغره قوي الإيمان كأنه حواري لنبي أو أنصاري لرسول.. فجعل الفتى الزاهد يقتحم على أبيه مجلسه، ومخدع نومه وقيلولته، يحثه، ويعظه، ويوقظه، وينبهه ألاّ يؤخر مظلمة للناس مخافة أن يحم الأجل، فتسوء المغبة.. وتلتهب على جسد أبيه النار..
وكان كلما ترفق عمر.. عنف عبد الملك، وكلما دخل عمر في الأمور على هنة اقتحمها عبد الملك قوياً مستعجلاً.. وما زال الصبي بأبيه يزعجه ويدعوه، حتى بدا عبد الملك كأنه هو الذي أدخل أباه في العبادة.. وقد شاهد أهل الشام بأعينهم حالي عمر قبل الخلافة، وبعدها.. فقال بعضهم: كنا نرى أن عمر إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك!
هذا الولد الخير البار ما زال يذيب بدنه الزهد ويضنيه حتى ذبل وذوى.. ثم مرض مرض الموت، ولم يبلغ التاسعة عشرة من عمره، ففرح لأنه يوشك أن يقضي! ودخل عليه أبوه يعوده وكان يحبه حباً جماً، فقال له: كيف تجدك يا بني؟ فكتم عبد الملك ما به مخافة أن يحزن أبوه فقال: أجدني صالحاً.. ولكن الأمر لم يغب عن عمر، وكان يعلم استبشار ابنه بالموت فقال له: أصدقني نفسك يا بني، فإن أحب الأمور إلي فيك لموضع القضاء. فقال عبد الملك: أجدني في الموت فاحتسبني فثواب الله خير لك مني.. فحطم الولد قلب أبيه، ثم مضى عمر وهو يقول: يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك.. وذهب يصلي، فأقبل عليه "مزاحم" يخبره بموت عبد الملك.. فخر عمر مغشياً عليه.. ولم يمت عبد الملك بن عمر حتى احتدم أتون أبيه بالغض للمظالم فلم تعد لقوة أن تطفئه أو تخمد ناره وزحفت قوى الرجل كما تزحف قوى الجيش اللهام تأكل ما أمامها ولا تشبع.. فعدها المسلمون كأيام أبي بكر حين حارب أهل الردة! والعلم والفقه والذوق الأدبي والغنائي.. كل أولئك قد أربى في عمر إحساسه وأرهفه، ففرغ للمظالم التي أصابت الناس ولم يكن لرجل بلغ درجة الاجتهاد أن يقف من المظالم موقف من لا يعلمها ولا يتأثر بها.. ولئن وقف بعض الفقهاء يفتون ضد المظالم فحسب لأنهم لا يملكون لها رداً، فإن عمر حين جمع في برديه نفس الفقيه، ونفس الحاكم المسؤول، كان لا بد له أن يرد.. ثم لم يكن لرجل رق ذوقه، ونبغ فنه حتى صنع الألحان ليطابق بها ما في نفسه من معانٍ سامية.. ما كان له ألاّ يحس المظالم من حوله! ولكن عمر -مع ذلك كله- ظل طويلاً لا يدري غير الفقه الأصغر.. الذي يعرف الناس به المسائل والقضايا والأحكام، ثم يتصدرون بمعرفتهم لفتيا الناس في ما يلتبس عليهم، وليس لهذا الفقه من قيمة حتى لو سبق به صاحبه آراء الفقهاء والعلماء ما لم يخفق به خفقان الشاعر.. أو القديس، وتعمل النفس له عمل الأنصار والحواريين..!
وصحبة الناس حظ وقدر وتنقية واختيار.. وقد رزق الله عمر رجالاً أعانوه على النهج، وطبعوه حتى تطبع، وجدهم أبداً حوله وفي طريقه، ووجدهم في المدينة وفي مصر والشام، وجدهم في الطفولة والشباب والصبا والكهولة واستجابت نفسه لهم واستجابوا له، فتبادلوا تجارة المعروف.. وكانت أقرب حلقة أحاطت به، حلقة مزاحم مولاه، وسهل أخيه، وعبد الملك ابنه، وظلت هذه الحلقة تضيق عليه حتى بدت كأنها انفرجت بموت هؤلاء جميعاً، ولكنه ظل طول حياته حبيساً فيها.. كأنهم أحياء!
وقد أحسن عمر في استشارة النصحاء ففي استشارتهم حصافة، وهداية.. فإن المرء مهما كان حصيفاً متمكناً فإنه إذا انفرد لذاته، وتعقب غاية منافعه ضلّ وافتضح، أو قصر فأخطأ.. وذلك لأن محبة الإنسان ذاته وتخوفه عليها من خطأ ينسب إليها يعرض له الدهشة والحيرة، وذلك إذا لم يمل مع الهوى.. فالرجل المميز الفاضل لا يأمن أن يكون رأيه لنفسه من قبيل الهوى، دون العقل، فيضطرب فكره، ولا يصح رأيه لنفسه، وأما إذا كان رأيه لغيره فهو سليم من الحالين معاً، فلذلك يأتي بالرأي الصحيح السليم..
وقرب عمر العلماء إليه، وأبعد غيرهم من الناس.. وحفلت سوق عمر بالمواعظ فأصبحت لا تحصى مواعظ العلماء والفقهاء والزهاد نثراً وشعراً..
ولم يأت عمر الخلافة غافلاً قد جهل الأمور، ولكنه أتاها على قدر ومعرفة.. قد خبرها عن قرب، وعرف كل أحوالها وأعد لكل داء دواء.. ولم يدع الأمور تجري على سجيتها.. وقد رأى منذ بدأ يحكم أن يستعين بصلحاء العمال، ويستمع لمشورة الناس فيهم، وكان لا يولي الرجل حتى يختبره ظاهراً وباطناً.. فإذا اطمأن له بعد الاختبار، ولاه عاملاً، أو على الخراج والصدقات، أو قاضياً أو قاصاً، أو صاحب بريد، أو حرسياً أو معلماً، أو قائداً، أو سيافاً، أو على الخاتم، أو كاتباً، وكل أولئك وغيرهم اختارهم عمر من أولي القسوة في العدالة، والرفق بالرعية، وهما أمران لا يتعارضان.. وقد ضمن باختبار الرجال، واختيارهم أن يضع الرجل في العمل الذي يصلح له، وينتفع الناس به..
وكان عمر غير خب، ولكن الخب لا يخدعه.. وكثيراً ما خاف أن يدخله الغش من مظاهر الرجال فجعل يتثبت ويدس على ذوي المظاهر من يأتيه بخاصة أخبارهم ليثق بهم، أو يزيفهم، وقد كان عمر أول من زيف بلال بن أبي بردة، وكشف خبيئه.. ثم طرده، ولم يستعن به ولا بأحد من أهله في عمل له..
وبلال بن أبي بردة الكوفي كان رجلاً داهية لقناً أريباً وكان كريم المظهر بادي التدين، هذا كان مظهره.. أما ما وراءه فنفس ذات ملق وطمع، وسرعة إلى الحمق والباطل.. وفد هذا الرجل على عمر بن عبد العزيز بخناصرة.. فهنأه بالخلافة قائلاً: من كانت الخلافة يا أمير المؤمنين شرفته فأنت شرفتها ومن كانت زانته فقد زنتها، وأنت والله كما قال مالك بن أسماء:
وتزيدين أطيب الطيب طيبا
أن تمسين.. أين مثلك أينا؟
وإذا الدر زان حسن وجوه
كان للدر حسن وجهك زينا!
فشكر له عمر، ثم خرج من عنده فلزم المسجد، ولصق بسارية منه فجعل يصلي إليها ويديم الصلاة.. فقال عمر للعلاء بن المغيرة بن البدار: أن يكن سر هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع.. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره.. فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فقال اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجة.. ففعل فقال له العلاء: قد عرفت حالي عند أمير المؤمنين فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي؟ قال بلال: لك عمالتي سنة -وكان مبلغها ألف ألف درهم- قال: فاكتب لي بذلك.. فانقلب بلال مسرعاً إلى منزله فأتى بدواة وصحيفة فكتب له بذلك.. فأتى العلاء بالكتاب إلى عمر فلما رآه كتب إلى واليه على الكوفة: "أما بعد فإن بلالاً غرنا بالله.. فكدنا نغتر فسبكناه فوجدناه خبثاً كله.. والسلام".
وقد أبى عمر أن تجوز عليه حيل الدجالين، وطرق المحتالين.. فجعل كلما بلغته حيلة دجال، وخرافة محتال، يتقصى أحواله لئلا يصاب الناس بجهالة.
لقد دل عمر عماله على الطريق، ومدهم برأيه، وترك لهم حرية الرأي متى وثقوا من أنفسهم فعدلوا.
أقل ما يحدث من العدالة أن يسعد الناس، أو يحسوا أنهم سعدوا، وأن يستتب الأمن في الأرض.. وقد حدث أن سادت العدالة في مدة عمر، وعم الأمن، وانقطعت ظهور الناس، ويئسوا من الظلم.. حتى أن الخوارج حين بلغتهم سيرة عمر وما رد من المظالم، اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.. وجاء عمر يسوس الناس عن علم وخبرة، وامتد بصره في نظرة طويلة وتدبير محكم، وجاءهم بعد الفكرة والنظر بعقيدة راسخة، ونية على العمل، واستجمع، وجمع من حوله المشيرين، والنصحاء، وراح يستنصح كل من ظن فيه خيراً، ولم يعف رجلاً في أقصى الأرض من الاستعانة به، واستهدائه متى ظن فيه الخير، وكان من بقية الناس.
تولى عمر الخلافة والناس على يأس من العدالة.. وما يستطيع سليب أن يطلب حقه، وكان السعيد الموفق من رد عن نفسه الظلم، أو تجنبه، وكان أسعد من هذا حظاً من غفل عنه السلطان واندرج في متاهة المغمورين، فلا تناله ظنة أو شبهة، فلما جاء عمر لم يكتف برد المظالم وإنما أخذ يضع عن الناس السخرة التي كانوا يسخرونها في المصالح العامة، لأن عمر رأى فيها أموراً ظالمة فحطها عن كواهل المسخرين..
ومر الزمن يمضي، وعمر يحن إلى المدينة.. قد علق قلبه بها. ولم يتحول.. وأوصى بها الولاة وفرق على أهلها حقوقهم، وما جاءه رجل منها إلاّ سأله عن أهلها كافة الأشراف والتجار والمساكين والرجال والنساء.. ولقد جاءه رجل مرة، فسأله عمر قائلاً: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ فقال الرجل: قد قاموا يا أمير المؤمنين، وأغناهم الله! وكان من أولئك المساكين من يبيع الخيط للمسافرين، فالتمس ذلك منهم بعد.. فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر..!
* * *
ولما رد عمر مظالم أهل مكة، وزارها، ثم خرج، مضى معه رجل مع من يشيعه، وكان أحد الولاة حبسه وأخذ ماله غصباً.. واستحلفه ألاّ يخاصمه أبداً.. فشكا الرجل إلى عمر قائلاً: ظلمت.. ولا أستطيع أن أتكلم! فأدرك عمر أنه أخذت عليه يمين، فجاء بالوالي ونكف بالخيزران بين عينيه في سجدته وقال له: هذه غرتني منك.. ثم قال للرجل: اذهب فقد رددت عليك مالك ولا حنث عليك..
كره عمر اللحن، ومجاوزة الحق في القول، وكره جفوة الكلام، ومن أجل اللحن كره الوليد، ومن مجاوزة الحق كره الحجاج بن يوسف، ومن الجفوة أخذ يؤدب الجافين، ولا يستكتب واحداً منهم.. وقد دق ذوق الرجل للكلام، لأنه حسب له حسابه في أمور السياسة، وأمور الاجتماع، وكان انكبابه على علوم الدين والحديث والقرآن سبيلاً لإرهاف حسه اللغوي، بين قوم من خالصة العرب كلهم مرهفون.
ولم يؤمن عمر بقول لا يحققه العمل، بل كان يرى القول والعمل شيئاً واحداً، وإنما أحدهما بعض الآخر.. ومن لم يجعل كلامه من عمله كان مذنباً كثير الذنوب..
أما الكلام الحق، فسماه عمر سحراً حلالاً.. وأما هو فقد صدر عن نية صارمة وقلب صادق حين تكلم ولذلك سمعت آذان الناس في مدته ومنه صوتاً صارخاً لم تسمعه من قبل إلاّ في صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه، وحتى العظة الخالصة وقراءة القرآن كانت منه تثير القلوب والأشجان.. وقد خطب مرة بالقرآن فقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (التكوير: 1) وكان يقرأها بصوت يبكي، ودمع يثور، فارتج المسجد كله بالبكاء حتى ظنت حيطان المسجد كأنما تبكي معه ومع الناس.
ولما استوى عمر خليفة، كان أول ما أمر به أن منع الناس عن سب علي في الخطبة على منابر البلدان، وأثبت عمر في مكان السب قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: 90).
واهتم عمر بنشر العلم فكتب إلى أهله أن ينشروه في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت، وخطب ذات مرة فقال: أيها الناس، إنما يراد الطبيب للوجع الشديد ألا فلا وجع أشد من الجهل، ولا داء أخبث من الذنوب.. ولا خوف أخوف من الموت..!
وكانت دفعة عظيمة في رسوخ أصول العلم حين خاف عمر غائلة النسيان فأوصى أن يقيد العلم بالكتابة مخافة الضياع، لذلك قيل إنه أول من دوّن الحديث..
* * *
وكما اهتم عمر بعلوم الدين.. اهتم بعلوم الدنيا -ولا سيما الطب- لحاجة الناس إليه في أول معاشهم.. وليس يخفف عن الناس أعباء الحياة إلاّ إذا سعدوا بالعدل، وتنوروا بالعلم، وفي صحة أبدان، وسلامة إيمان، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز أول من حارب "فقر الناس" و "جهلهم" و "أمراضهم" وحاربهم بقوة في مختلف بلاد المسلمين.. وكان عبد الله بن أبحر أو ابن بحر الكناني طبيباً عالماً ماهراً، وكان يتولى تدريس الطب بمدينة الإسكندرية، وصحبه عمر في شبابه واستطبه، وقد تأثر ابن أبحر بعمر فأسلم على يديه.. فلما صار عمر خليفة استعان بصاحبه واعتمد عليه في تفريق علم الطب وتدريسه بأنطاكية وحران وغيرهما من البلدان، فانتقلت بذلك صناعة الطب اليوناني إلى بلدان المسلمين وكانت لم تزل قوية زاهرة في الإسكندرية.
وأكرم العلماء وبحث عنهم في كل مواطن وجعلهم سنده وأعوانه في مجلسه وعلى عماله وقضاته وأرسل قوماً كثراً منهم لنشر الإسلام والعلم.. وجعل لمن انقطع إلى القرآن والحديث نصيباً من بيت المال وفرض لمن فرغوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا لكل منهم مائة دينار قبضاً عاجلاً.. وقد كتب إلى والي حمص ليغني أهل القرآن والحديث فلا يشغلون عنهما وأجرى عمر على المعلمين الأرزاق والأجور.. وتسارع الأغنياء يؤدون زكاتهم، ولم تكن همة عمر بعد رد المظالم إلاّ القسم في الناس.. أما الأغنياء فحين رأوه مهتماً بهذا القسم، فقد تسارعوا من أنفسهم يؤدون الزكاة والصدقات.. ومنذ جاء الأغنياء بهذه الزكاة أنفقت في وجوهها من غير بطء، فإنه لا نفع من زكاة ما لم تصل إلى أيدي الناس في حينها حتى يسدوا حاجاتهم وشيكاً..
ولم يكن أحب إلى عمر من أن يعم الإسلام بقاع الأرض، وأن يهتدي به الناس، مهما أصاب بيت المال من النقص والخسار، وكان ملحاً يطلب إلى عماله أن يدعوا أهل الذمة إلى الإسلام فإذا أسلموا وشكا العمال نضوب بيوت الأموال، كتب إليهم يلومهم على الشكوى. كتب عدي بن أرطأة إلى عمر: أما بعد فإن الناس قد كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج. فكتب إليه: فهمت كتابك ووالله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا.. وقد أخذ خراج مصر ينقص في عهده لإقبال القبط على الإسلام، وكان خراجها في عهد عثمان اثني عشر ألف ألف دينار وفي عهد معاوية خمسة آلاف ألف.. ثم نقص في مدة عمر فاقترح والي مصر عليه ألاّ يعفي الداخلين في الإسلام من المصريين من الجزية.. فأبى عمر وأرسل إليه يقول له قولته المشهورة:
"إن الله بعث محمداً هادياً.. ولم يبعثه جابياً!!"..
وكان هناك جماعة من البربر أسلموا من قبل على يد موسى بن نصير، وتعلموا القرآن والفقه من العرب الذين كانوا مع موسى.. فلما تولى إفريقية إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر سنة مائة وكان على حربها وخراجها وصدقاتها وكان حسن السيرة فيهم، أسلم البربر جميعاً ولم يبق أحد منهم إلاّ أسلم.. وكان حتماً مقضياً أن تدخل أفواج من الناس في دين الغزاة الفاتحين حتى عاملوا الناس بالحسنى.. وكذلك استجاب كثير من أمراء السند لدعوة عمر حين دعاهم إلى الإسلام وتسموا بأسماء العرب.. وأسلم ملك الهند نفسه سنة تسع وتسعين، وأهدى إلى عمر هدية من المسك والعنبر والكافور.. وفي ما وراء النهر دان كثير من الناس بالإسلام تلبية لدعوة عمر.
واستطرد بما عمل عمر اتساع رقعة الأرض التي ينتشر فيها الإسلام، واستمر الصلاح يتسرب إلى الأمة الإسلامية واتخذ العلم الديني والنبوي سبيله إلى الانتشار وسلمه إلى الارتقاء، وسلمت الأمة من داخلها، واستعدت نواتها للبقاء وللرقي، إذ خصب لها الزمان، وعمت العدالة وانطلقت أنفاس الحرية وأشعة الضياء.. ومات عمر في أخريات رجب لسنة إحدى ومائة ولخمس أو ست أو عشر بقين من الشهر.. وتقدم للصلاة عليه الخليفة من بعده "يزيد بن عبد الملك"..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :769  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .