شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شاعرنا طرفة بن العَبد
عشرون عاماً، أو عشرون عاماً فقط على أرجح الروايات.. عشرون عاماً يعيشها طرفة بن العبد، شاعرنا القديم النابه.. لهي والله مما يدعو إلى العجب عندما ننظر إلى ضخامة شعره.. ونقارن بينه وبين فحول شعراء عصره الجاهلي، ومن بينهم، وفي طليعتهم شعراء المعلقات.
بل أية ميزة يتميز بها شاعرنا طرفة بن العبد، أكثر من أنه -على قصر حياته- معدودٌ في الرعيل الأول بين شعراء المعلقات هؤلاء!
شاعرنا طرفة بن العبد شاعر متميز ولا ريب.. يلمس في شعره كل من يقرأه أو يستمع إليه، روعة تملك الشعور، وتهز النفس.. لسبب وحيد هو أنه من شعراء العبقرية وقد أرغمت هذه العبقرية عمالقة شعراء العصر الجاهلي وغيرهم من شعراء ما بعد ظهور الإسلام على أن يعترفوا بهذه الشاعرية المبدعة لهذا الشاعر الشاب، برغم اعتزازهم وما كانوا يحملونه في نفوسهم من تيه وعنجهية وغرور!
شيء آخر كان خليقاً بأن يلفت الأنظار إلى طرفة بن العبد.. ذلك هو ما اتسمت به حياته القصيرة من ميل إلى المغامرة.. لقد كان هذا الشاعر الشاب مغامراً جريئاً من الطراز الأول بل أكاد أقول ومتهوراً. وحسبنا أن نقرأ من نوادر قصصه أنه كان نقادة لا يعباً بإنسان.. كان يقول كلمته ويمشي غير هياب.
كان طرفة مولعاً بالسخرية أيضاً، بلغ من أمره في سخريته وجرأته تعرضه لشاعر كان ينشد شعراً في وصف الجمل، في مجلس ملك الحيرة "عمرو بن هند" فوصف الجمل بوصف من أوصاف النوق، فقال طرفة على الفور: "استنوق الجمل" وأصبحت هذه الكلمة مثلاً من الأمثال!
ويهجو طرفة زوج أخته "عبد عمرو" بن بشر بن مرثد، وكان كما يصفونه سيد أهل زمانه، ومن المقربين لدى عمرو بن هند يهجوه طرفة لا لأمر ذي بال وإنما لأن أخته شكت إليه شيئاً من أمر زوجها، فقال يهجوه:
لقد علم الأقوام أنا بنجوة
علت شرفاً من أن تُضام وتُشتما
لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها
ويأوي إليها المستجير فيعصما
وأرعن مثل الليل مجر يقوده
أريب إذا ما ساور الأمر أبرما
شديد القوى ضخم الدسيعة مقول
أبى إذا ما هم بالأمر الحما
فأي خميس لا أبانا نهابه
وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
أبي أنزل الجبار عامل رمحه
وعمي الذي أردى الرئيس المعمَّما
فواعجباً من عبد عمرو وبغيه
لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما
ولا عيب فيه، غير أن له غنًى
وأن له كشحاً إذا قام أهضما
وأن نساء الحي يعكفن حوله
يقلن: عسيب من سرارة ملهما
فأي هجاء مقذع هذا؟ وأي اعتداد بالذات تقمصه هذا الفتى؟ إنه يبدأ أولاً بالإشادة بنفسه وبقومه، وبأبيه الذي أنزل الجبار عامل رمحه، وبعمه الذي أردى الرئيس المعمَّما، ثم يهوي إلى مهجوِّه في عنف وفي قوة، وفي سخرية وتهكم يكفي أن يجعله ملهاة لنساء الحي يعكفن حوله، ويعبثن به، ويقلن عنه.. ويقلن..
وقد رأيت أن عبد عمرو هذا كان من الخلصاء المقربين لدى ملك الحيرة عمرو بن هند وقد عرف هذا الموتور كيف ينتقم، خرج يوماً للصيد في معية عمرو بن هند، وأمعن عمرو بن هند في الطلب فانقطع بنفر من أصحابه حتى أصاب حماراً وحشياً فعقره وقال لعبد عمرو: انزل إليه فنزل فأعياه فضحك عمرو بن هند ثم قال لأصحابه: اجمعوا حطباً وأوقدوا، فأوقدوا ناراً وشوى، فبينما عمرو بن هند يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم إليه إذ نظر إلى قميصه متخرقاً، فأبصر كشحه فقال له لقد أبصر طرفة حُسن كشحك حين قال:
ولا عيب فيه غير أن له غنى
وأن له كشحاً إذا قام أهضما
فغضب عبد عمرو من ذلك، وأنف وقال له: أبيت اللعن، لقد قال فيك ما هو شر من ذلك وأقبح، قال عمرو بن هند: أو قد بلغ من أمره هذا؟
قال نعم! قال فما قال؟ فأسمعه ما قال فيه طرفة من الهجاء، وفيه يقول:
لعمرك إن قابوس بن هند
ليخلط ملكه نوك كبير
إلى أن يقول:
فلما أن أنخت على مليكٍ
مساكنه الخورنق والسدير
لينجزني مواعد كاذبات
بطي صحيفة فيها غرور
فأوعدني وأخلف ثم ظني
وبئس خليقة الملك الفجورُ
وكان من سوء حظ طرفة أن هجاءه لعمرو بن هند ملك الحيرة هو الذي قاده إلى حتفه في نهاية المطاف.
فعندما جاء المتلمس الشاعر، خال طرفة، إلى عمرو بن هند وكان معه طرفة يلتمسان رفده، وكان المتلمس قد هجا عمراً أيضاً. فما كان من ابن هند إلاّ أن كتب لهما كتاباً إلى عامله في البحرين وقال لهما: انطلقا فخذا جوائزكما منه.. فخرجا!
وأحسَّ المتلمس أن في هذا الكتاب أو في هذه الصحيفة شيئاً، فينصح طرفة في حديث طويل يقول فيه: إنه من الخير أن ننظر في كتبنا هذه، فإن يكن رأي ملك الحيرة قد أمر لنا بخير مضينا، وإن تكن الأخرى لم تهلك أنفسنا.
فهل يستمع طرفة إلى هذا النصح؟ كلا إنه يركب رأسه.. ويرفض النظر في كتاب الملك، ويذهب المتلمس لينظر في صحيفته -وقد ذهبت فيما بعد مثلاً.. فإذا الذي يجد فيها: "باسمك اللَّهم، من عمرو بن هند إلى المكعبر، إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يده ورجله وادفنه حياً!".
ولا يتردد المتلمس بعد ذاك في أن يخبر ابن أخته بالذي ورد في الكتاب. ثم ينهاه عن الذهاب إلى عامل البحرين، فيقول طرفة هو وهو -إن صحت الرواية- يدل على منتهى الغرور.. يقول طرفة لخاله المتلمس: إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي.. فلما غلب المتلمس على أمره ألقى بصحيفته في نهر الحيرة ثم خرج هارباً إلى الشام.
ويذهب طرفة إلى عامل البحرين، وينفذ فيه القتل.. ويؤرخ المؤرخون موت هذا الشاعر في أواسط القرن السادس للميلاد.
أمر طبيعي -إذن- أن تكون هذه هي نهاية شاعرنا الفتى بعد أن صدر منه ما صدر من هجائه المقذع لعمرو بن هند، غير ما سبق أن قاله من هجائيات لأشخاص كل منهم يرى أنه السيد المرموق!
وكان بإمكانه أن ينجو من هذا القتل بعد أن أتاح له خاله المتلمس أسباب النجاء -كما رأيت- لولا غروره واعتداده بذاته، واعتقاده الواهم أن أحداً لا يمكن أن يناله بسوء.
نعم مات طرفة بن العبد في سن العشرين -على الأرجح- ولكن بعد أن ترك ثروةً من الشعر العالي الرصين، ولا ريب أنه ترك من هذا الشعر ما لم يتركه معظم من تقدمت بهم السن من شعراء الجاهلية الفحول.
وكان طرفة شاعراً مقلاً بطبيعة الحال بحكم حياته القصيرة، غير أن إقلاله لم يخفض من مكانته -كما رأينا- بل رفعه إلى مكان البارزين من شعراء المعلقات.
وحسب طرفة أن يشهد له أفصح الخلق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وذلك عندما سمع هذا البيت من شعر طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال صلوات الله وسلامه عليه: "هو من كلام النبوة".
والحق أن من ميزات شعر طرفة شيوع الحكمة في أغلب شعره، بل إن الحكمة في شعره تكاد تكون سمته الواضحة بالرغم من أن حياته كانت تتسم بالعبث والانطلاق!
ومن أمثلة شعره في الحكمة قوله:
الخير أبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقوله:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى
ولا زاجرات الطير ما اللَّه فاعل
وقوله وهو في السجن:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقوله:
أسلمني قومي ولم يغضبوا
لسوأة حلت بهم فادحه
وكلهم أروغُ من ثعلب
ما أشبه الليلة بالبارحه!
ومن شعره هذه الأبيات المتداولة: وهي مما قاله في صغره:
يا لك من قبُّرةٍ بمعمرٍ
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقِّري ما شئتِ أن تنقِّري
قد ذهب الصياد عنك فابشري
ورفع الفخ فماذا تحذري
لا بد يوماً أن تصادي فاصبري!
ويقول طرفة أيضاً وهو مما يدل أبلغ دلالة على مدى تعمقه في فهم الحياة والأحياء.
وأعلم علماً ليس بالظن أنه
إذا ذل مولى المرء فهو ذليل!
وأن لسان المرء ما لم تكن له
حصاة على عوراته لدليل!
على أن أخلد روائع شعر شاعرنا طرفة بن العبد دون جدال هي معلقته الشهيرة، وكان سبب نظمه لها أن أخاه معبداً كانت له إبل ضلَّت فأَراد طرفة أن يستعين بابن عمه "مالك" في طلبها، فلما ذهب إليه أعرض عنه مالك وقال له: "فرطت فيها ثم أقبلت تتعب في طلبها" فقال معلقته وفيها يعاتب أعمامه لأنهم كانوا ظلموه ومنعوا عنه حقه، وأبو إعطاءه إرثه من أبيه.
وما أشك في أن حياة طرفة بن العبد المضطربة، وكانت أشبه بحياة التشرد، إنما كانت نتيجة ما لحقه من ظلم أعمامه وظلم ابن عمه مالك هذا.. وأكاد أقول إنه ظلم البيئة التي عاش فيها، وكان حتماً في بيئة كهذه أن يظل طرفة وهو الشاعر المرهف الحس، يحيا حياته المضطربة هذه.. وأن يتبلور شعوره بهذا الظلم يلحقه من ذوي قرابته، وإنك لتجد صدى شعوره هذا الأليم في قوله:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ
واستمع إليه يقول في معلقته واصفاً نفسه مفتخراً بها:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيتُ فلم أكسل ولم أتبلَّدِ
ولست بحلال التلال مخافة
ولكن من يسترفد القوم يرفدِ
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطدِ
وإن يلتقي الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الشريف المصَّمدِ
إلى أن يقول:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
ولا أهل هذاك الطراف الممدَّد
ألاّ أيهذا الزاجري احضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ومنها في الحكمة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدِّد
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلةٍ
وما تنقص الأيام والدهر ينفدِ
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخي وثنياه باليد
متى ما يشأ يوماً يقده لحتفه
ومن يك في حبل المنية ينقدِ
فمالي أراني وابن عمي مالكاً
متى ادن منه ينأ عني ويبعدِ
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ
وأخيراً:
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني
منيعاً إذا بلت بقائمه يدي
فإن مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبدِ
ولا تجعليني كامريء ليس همه
كهمي، ولا يغني غنائي ومشهدي
فلو كنت وغلاً في الرجال لضرَّني
عداوة ذي الأصحاب والمتوحد
ولكن نفى عني الرجال جراءتي
عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي
لعمرك ما أمري عليَّ بغمة
نهاري، ولا ليلي عليّ بسرمدِ
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى
بعيداً غداً.. ما أقرب اليوم من غدِ
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
تباتاً ولم تضرب له وقت موعدِ
وبعد فهل هذا شعر يقوله شاعر في سن العشرين؟
ولم لا؟ إنها العبقرية، ما في ذلك شك! ولا شيء غير هذه العبقرية.
وليس هذا بالأمر الغريب، فقد شهدت العصور، وشهد عصرنا هذا الذي نعيش فيه أمثلةً حيةً من شعراء عاشوا في عمر الزهور، وكان شعرهم مثلاً حياً من شعر الحكمة، والتفرد والعبقرية.. ولنذكر هنا على سيبل المثال: "فوزي المعلوف" و "أبا القاسم الشابي" و "إبراهيم طوقان" و "التيجاني يوسف بشير".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1011  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 47 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج