شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة عن شوقي
عاش فقيد اللغة العربية الأكبر المرحوم (أحمد شوقي) طوال أيام حياته شاعراً مجيداً لا يبارى في ميدان الشعر حتى أُطلق عليه لقب (أمير الشعراء) تقديراً لمكانته السامية الرفيعة بين شعراء عصره، وتعبيراً عن معنى الإجلال والإكبار لنتاجه الخالد، وبيانه الذي سرى في النفوس سريان الكهرباء، وأصبح يجري مجرى الأمثال في الانتشار والذيوع.
ولئن كان هذا الشاعر الكبير في أوائل عهده مقلداً أكثر منه مجدداً، كما يرى ذلك بعض الناقدين من معاصريه، وكان -كما يقولون- ينظم أشعاره على نمط ما كان القدماء ينظمون، وينحو نحوهم في الأسلوب والطريقة وفي المعاني أحياناً، ويسير على سننهم في الموضات التي كان يطرقها، أقول: لئن كان شوقي كذلك، أو على الأصح، لئن اعتبره أولئك الناقدون مقلداً أكثر منه مجدداً للأسباب السالفة، فإن تقليده لم يكن ككل تقليد، كان تقليد شوقي جيداً ممتازاً، بل كان تقليد شوقي نوعاً جديداً يختلف ويسمو عن سواه، ولسنا إلاّ مصيبين إذا قلنا إن تقليد شوقي في حياته الشعرية الأولى إنما كان نوعاً من أنواع التجديد.
والآن فلننظر فيم وعلام يحاول بعض الناقدين إنزال شوقي من منزلته السامية التي وصل إليها باستحقاق وجدارة؟ ولماذا هم يصفونه بأنه لم يكن مجدداً في الشعر، وأنه لم يكن إلاّ مقلداً لا يختلف عن سواه من المقلدين؟ والجواب سهل وبسيط، لم ير هؤلاء لشوقي في أوائل حياته إلاّ مجموعة قصائد أكثرها يدور حول المدح والرثاء وما إليهما، وقليل منها في الغزل والاجتماع، فقالوا إنه مقلد وإنه لم يجدد شيئاً ولم يكتشف باباً جديداً فيه، ولم ينهج نهج شعراء الغرب في تأليف القصص والروايات إلى آخر ما يقولون.
ولقد يكون فيما يقوله هؤلاء جانب من الحق، لا يرتاب فيه مرتاب، ولكن كما أن فيه هذا الجانب الذي أشرنا إليه، فإن فيه أيضاً تعسفاً في الحكم وخطأً في الرأي، ومجانبة للإنصاف، نعم لم ينهج شوقي في عهده الأول نهج شعراء الغرب في تأليف الروايات والقصص، وهذا وحده هو الذي يصح أن يكون جانب الحق في اعتراضات المعترضين.
وفي جهرنا بهذا القول شيء كثير من التسامح لأن الفن الروائي في الشعر وفي النثر، إن صح أن يكون تجديداً لأنه أكثر التئاماً مع الذوق الأدبي اليوم، فإن الأديب إذا لم يكن له فيه نصيب، وإذا لم يجعل منه ميداناً ليراعه وتفكيره، فليس هذا بالذي يستحق أن يؤاخذه عليه الناقدون. إن القصص والروايات ليست مقياساً للحكم على الشعراء والكتّاب، إن جالت أقلامهم فيه استحقوا الإطراء والتقدير، وإذا لم يكتبوا أو ينظموا فيهما شيئاً أصبحوا هدفاً للنقد والانتقاص، كلا فإن كل كاتب أو شاعر إنما يكتب حسب النزعة التي ينزع إليها، والميدان الذي يختاره لنفسه والميول التي يتجه إليها، وما مقياس الحكم هنا إلاّ الفن والإجادة فيه، وإلاّ المعاني والأساليب يأتي بها كل من الكاتب والشاعر مائسة في حلة بديعة من حلل الروعة والإبداع (1) .
وشاعرنا شوقي وإن لم يكن في عهده السابق قد نظم قصصاً وروايات، فلم يكن هذا بضائره، وهو وإن كان قد سار على طرق القدماء ونحا نحوهم، إلاّ أنه كان المتفوق الممتاز كشاعر فنان، وكان في شعره عبقرية وحياة، وكانت شاعريته تلك الشاعرية الملهمة الفيّاضة بصنوف الجمال، والمتسمة بسمات صدق التعبير والإحساس وسمو العاطفة والروح، لقد اجتمعت في شعر شوقي كل العناصر الحية الصالحة، أجل لقد كان شوقي شاعراً عبقرياً وكفى! وكان شاعراً مجدداً يمثل الزمن الذي عاش فيه، وطبيعة العصر والبيئة والظروف التي مازجها ومازجته وكفى بكل ما ذكر دليلاً وبرهاناً على بطلان ما يزعمه ناقدوه.
وبعد فقد برهن شوقي أيضاً أنه السابق في الميدان الذي اختاروه له، أثبت هذا الشاعر العبقري أنه المجيد في حلبة البيان كشاعر روائي.. وهذه رواياته المبتكرة التي أنتجتها عبقريته في العهد الأخير براهين على ذلك.. قرأ الناس لشوقي رواياته وأقاصيصه الشعرية فأعجبوا بها كل الإعجاب وأكبروا ما فيها من آيات البيان والحكمة، وهنا قطعت جهيزة قول كل خطيب، وهنا لم يبق مقال لقائل، ولم يبق اعتراض لمعترض، أو مكابرة لمكابر. ففي (مصرع كليوباترة) و (مجنون ليلى) و (قمبيز) و (علي بك) و (عنترة) ثم (أميرة الأندلس)، أجل في هذه الروايات المبتكرة الطريفة، وجد أبناء العربية شاعرهم الفذ محلِّقاً في سماء العبقرية والنبوغ.. وجدوه لا يقل مكانةً عن أشهر شعراء أوروبا في العهد الحديث.. ولعمري لو أُتيح لشوقي أن يعيش أعواماً أخرى. إذن لكان له في هذا المجال جولات وجولات.. لقد كان هذا الشاعر العظيم -كما شهده الناس في السنوات الأخيرة- مهتماً بمواصلة الجهود، ومتابعة التأليف والنشر في عالم القصص الفنية نثراً ونظماً.. خطة شاء أن يرسمها لنفسه أخيراً، ولقد نجح فيما استطاع إبرازه للناس، وكان نجاحه -ولا جدال- عظيماً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :547  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 46 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.