شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هل الحروب تطوي الحضارات
لعلّ لهذا الاستفتاء (1) الذي شاءت مجلة المنهل أن توجهه إلى الأدباء، في هذه الأيام مغزاه الخاص الذي إن دلّ على شيء فإنما يدل على فدَاحة ما يحسه الناس من خطر الحرب العظيم. وعلى أهمية ما يقدرونه لنتائجها من تأثير حاسم في سير الحضارات وفي مقدرات الشعوب.
وما من شك في أن للحروب كائنة ما كانت تأثيرها لا بالنسبة إلى الجموع المتقابلة في الجبهات والميادين فحسب وإنما بالنسبة إلى من سواهم أيضاً وأعني أولئك الذين يسمونهم في لغة هذا العصر "السكان المدنيين" ومن الواضح الذي لا يحتاج إلى دليل أن الغالب والمغلوب متساويان أمام هذا التأثير!
أول ظاهرة من ظاهرات هذا التأثير وأهمها، هو ما يتكبده كل من الفريقين المتحاربين من خسارة مؤلمة في الأرواح، فمهما كانت الحرب المشتبكة بين فريقين من الناس بسيطة جداً، أو مهما كانت (بدائية).
فالذي لا شك فيه أن خسارة الأرواح فيها محققة.
الحرب شيء بغيض كل البغض لدى النفوس!
حتى أولئك السابقون في ميادينها.. حتى أولئك الذين إذا ما حمي الوطيس يظهرون ما يظهرون من بسالة وإقدام، ومن تضحية بالنفس، وإقبال على الموت حتى أولئك الأبطال بحق إنما يخوضون غمار الوغى اضطراراً لا اختياراً... وإنما يقدمون إلى الحرب في شجاعة ورغبة وحماس، لا حباً في الحرب، وإنما لأن السبب أو الفكرة أو بعبارة أخرى: الإيمان الذي يدفعهم إليها يحتم عليهم هذا الإقدام وهذه الرغبة وهذا الحماس... أمَّا شعور البغض للحرب من حيث هي فأحسب أنه ما يزال كامناً في نفوسهم كمونه الذي لا يمكن أن يحول... ذلك لأن نفوسهم لم تخرج عن كونها نفوساً إنسانية لديها من الإحساس بحب الحياة... ما يركز فيها هذا الشعور، وسرعان ما ينتهي ما يخوضون غماره من حرب، وتنتهي دوافع ذلك ودواعيه حتى ينكشف وجه الحق، ويتجلى للعيان هذا البغض الغريزي المكبوت ويطفو من عقل الإنسان الباطن، إلى عقله الواعي، هذا العقل الذي تعوَّد دائماً أن ينظر إلى الأشياء كما هي، على ضوء من التأمل والتفكير.
الحرب شيء بغيض كل البغض لدى كل النفوس!
قال عنها أشهر قواد الحروب في العصور الحديثة نابليون بونابرت: "إنها عمل بربري وحشي" وقال عنها قائد شهير آخر: "لو شهدت يوماً من أيام الحرب لتوسلت إلى الله أن لا يريك يوماً ثانياً منها" وقال عنها هذا القائد أيضاً: "ليس أفظع من الانكسار في المعركة إلاّ الانتصار فيها"، وقال عنها لويس نابليون: "ما الحرب إلاّ أعمال بربرية منظمة وهي من بقايا الهمجية مهما اختلفت مظاهرها وأشكالها".
الحرب شيء بغيض كل البغض لدى كل النفوس!
ولكنها ماذا...؟
إنها الشر الذي لا بد منه في هذه الحياة.. وقد شاء الله بحكمته السامية أن تكون الحياة ميداناً للنقائض والأضداد، ليتحقق فيها التوازن ويعمل عمله ناموس التنازع على البقاء، ويتم التمايز بين الشيء ونقيضه، بين الخير والشر، بين الكمال والنقص، بين القوة والضعف، بين الفضيلة والرذيلة، بين الأمن والخوف، بين الشدة والرخاء، إلى آخر ما هنالك من الأضداد والنقائض!
لا بد من وجود الحرب إذن بالرغم من شعور البغض العميق بإزائها، وبالرغم من تحديها لهذا الإنسان في أسمى ما يقدسه ويحرص عليه، من مثل عليا، ومن أفكار وفلسفات.. ومن حضارة وعمران، وعلوم وفنون.
ولكنا نسأل هنا، متابعين في هذا السؤال مجلة المنهل الغرّاء: ما هو مدى تأثير الحروب في الحضارة يا ترى؟!
وهل صحيح أن الحروب تطوي الحضارات، أم أن الأمر على النقيض؟
أما أن يكون الرد هنا إيجابياً، فقد لا يعدم الباحث في هذا الصدد، أدلة من التاريخ يستخرجها "لأول وهلة" من هنا ومن هناك، لإثبات الدعوى، وكسب القضية!
هو ذا تاريخ الحروب جميعها في كافة العصور القديمة والوسيطة والحديثة، وفي الشرق وفي الغرب ماثل أمامنا هو ذا تاريخ الأمم المتحضرة التي خلدها التاريخ من يونانية ورومانية وفينيقية وقرطاجنية وإسلامية وسواها، فماذا -ليت شعري- سيجد الباحث في هذا التاريخ من أدلة إفناء الحروب للحضارات؟
الواقع أن تاريخ كل هذه الشعوب الشهيرة مملوء بالحروب وبالدماء، والواقع أن بعضاً من هذه الشعوب "فينيقيا" و "قرطاجنة" قد كان من نتائج الحروب المتتابعة عليها إن قضت عليها القضاء الأخير وطوت حياتها طياً من هذا الوجود..
ولكن أحقاً أن ما دوّنه التاريخ من أصول الحضارتين الفينيقية والقرطاجينية قد قضى عليه أيضاً وطوته تلك الحروب طياً، وأصبح في خبر كان؟
وهل حقاً أن حضارة اليونان القديمة قد طويت من الوجود منذ اليوم الذي غلب فيه اليونانيون على أمرهم، ودخلوا تحت سلطة روما بعد أن أنهكتهم حروبهم المتوالية مع الرومانيين؟
وحضارة الرومان، وحضارة مصر في العصر القديم، ثم حضارة الإسلام في العصر الوسيط كل هذه الحضارات العظيمة قد أصيبت بأضرار من الحروب، ولكن هل طوت كل هذه الحروب كل تلك الحضارات؟!
لقد أضرت الحروب حقاً بكل تلك الأمم، وألحقت بها من فادح النكبات ما قضى على البعض منها نهائياً، وما قضى على البعض الآخر منها بعض الشيء، وليس من شك في أن أعظم ما أُصيبت به هذه الشعوب الأخيرة جميعاً، هو أن الحروب التي نكبت بها قضت في طليعة ما قضت عليه؛ على أهم آثار حضارتها ومظاهر عمرانها؛ وهذا هو وحده ما عنيناه حينما قلنا إن الباحث قد لا يعدم دليلاً من التاريخ على إثبات الدعوى التي تقول بأن الحروب لا بد أن تطوي الحضارات.
ولكننا بعد أن نفكر قليلاً سنرى أن القضاء على آثار حضارة ما، ليس معناه القضاء الأبدي على أصول تلك الحضارة. إن حضارة أي شعب لا بد أن تنتقل إلى الشعوب الأخرى، سواء أظل هذا الشعب عائشاً في الوجود أو أصبح من تلك الشعوب التي طواها التاريخ، إن حضارات مصر وفينيقيا وقرطاجنة واليونان والرومان، ثم حضارة الإسلام في عصره الذهبي، ما زالت أصولها قائمة إلى يومنا هذا، وهل حضارة أوروبا الراهنة إلاّ مزيج من كل تلك الحضارات؟!
قد تختلف حضارة اليوم عن كل ما تقدمها من الحضارات، وقد تمتاز عليها بشتى المظاهر والعلوم والفنون، ولكنها قد ضمَّت ولا جدال بين شتى مظاهرها وعلومها وفنونها خلاصة من كل حضارة سابقة، وقد يكون هذا وحده هو سر تفوقها المشاهد الملموس!
وقد تطوي الحروب أمماً وشعوباً، وقد تطوي مع تلك الشعوب والأمم، ما قد يكون في أوطانها من مظاهر حضارتها في الوقت الذي تكون الإنسانية قد هضمت فيه أصول تلك الحضارة، وأخذت منها عنصرها الجوهري، وفي الوقت الذي تغدو فيه تلك الحضارة ميراثاً للعالم أجمع وملكاً لكل أمة في الوجود.
وكما أن الحروب لا يمكن أن تطوي الحضارات فهي أيضاً لا يمكن أن تعوق سيرها واستمرارها وتقدمها، بل أنه في كثير من الظروف تكون الحروب أكبر معوان لانتشار الحضارة.. إن الحاجة أم الاختراع كما يقولون؛ والحروب بطبيعتها تشجع نواحي الاختراع والابتكار في كل شيء. الحروب تدعو بطبيعتها إلى تقدم الصناعات الحربية على اختلاف أنواعها، وإلى التفنن والإكثار فيها من كل جديد، وتقدم هذه الصناعات يدعو بطبيعة الحال إلى تقدم سائر فروع الصناعات الأخرى.
والحروب بطبيعتها أكبر مساعد على تقدم الزراعة وانتشارها، لأن الأمة المحاربة أو المستعدة للحروب تحاول دائماً بكل الوسائل أن تزرع أكبر مساحة ممكنة من أراضيها لكي لا تبقى إذا جَدّ الجد.. عالةً على سواها ولكي تغدو قادرة على تموين بلادها، وعلى الصمود أمام أي حصار يوجهه إليها الأعداء!
وكلما استمر تقدم الفنون الصناعية والزراعية استمر تقدم العلم الذي هو العنصر الهام لدى كل الحضارات!
والحروب أيضاً تساعد بطبيعتها على سرعة انتقال الحضارة من بلاد إلى بلاد.. ذلك لأن اختلاط كل فريق من المتحاربين في الميادين أو في بلاد الفريق الآخر يدعو إلى هذا الانتقال..
وفي تاريخ الحروب الإسلامية الأولى؛ ثم في تاريخ الحروب الصليبية المشهورة، أعظم الشواهد على هذا الذي نقول...
حروب الإسلام وفتوحاته الأولى ساعدت من غير شك على اقتباس الحضارات التي كانت قائمة في البلدان التي غزاها المسلمون، ومن هذا الاقتباس ومن هذا الامتزاج والتصاقب بين عناصر تلك الحضارات وبين الروح الإسلامية والتعاليم الإسلامية العظيمة التي شعّ نورها في العالم ظهرت الحضارة الإسلامية في صورتها المتميّزة في وقت كانت فيه سائر الممالك الأخرى تتخبط في ليل دامس من الجهل والاضمحلال..
والحروب الصليبية ساعدت ولا جدال على اقتباس أوروبا لأصول الحضارة الإسلامية. إن تلك الحروب الطاحنة المدمرة، تلك الحروب التي كانت في بداياتها بلاءاً على الشرق وعلى العرب وعلى الإسلام كانت في الوقت نفسه أول عوامل انتقال الحضارة من الشرق إلى الغرب، وكانت السبب المباشر لكل ما نشاهده اليوم من مظاهر الحضارة العصرية وتقدمها واتساعها.
* * *
وبعد فهذا هو تأثير الحروب في الحضارات!
لا يمكن أن تعوق أولاهما أخراها من البقاء والاستمرار؛ وفوق هذا جميعه نستطيع أن نزعم أن في بقاء الحروب واستمرارها بقاءاً واستمراراً لكل الحضارات!
وهذه هي الحقيقة المرة، مع الأسف الشديد!!
أو هذه هي المشكلة.. كما يقول شاعر الإنكليز الأكبر شكسبير!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :491  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج