شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
حضَارة بلا أخلاق
ما هي الحضارة أولاً؟
قد يقول قائل: إنها بلوغ الأمة مركزاً ممتازاً في التقدم العمراني والاقتصادي، وقد يضيف إلى ذلك، شيئاً، أو أشياء أخر.. كأن يقول مثلاً: وبلوغها أيضاً مركزاً شبيهاً بذاك في ميادين العلم والفن والثقافة والتفكير!
وظاهر أن هذا هو مبلغ فهم الكثرة الغالبة من الناس لمعنى الحضارة، فأية أمة من الأمم سارت فيها أمورها الاقتصادية والعمرانية على نسق تقدمي.. وقامت فيها دولة للعلم والأدب وارفة الظلال، وارتقى فيها التفكير وأصبح المتعلمون فيها هم السواد الأعظم.. صح أن يقال عن هذه الأمة: إنها أمة متحضرة، أو إنها في سبيل التحضر، ذلك لأن بناء حياتها الجماعية أو الفردية أصبح قائماً على دعائم ثابتة من جميع العناصر الأولية لكل حضارة من الحضارات.
والواقع أن العلم والأدب والثقافة والاقتصاد والعمران أصول لا شك فيها لكل حضارة قديمة أو حديثة، ومن العبث، ومن لغو الحديث أن يقال عن أمة ينقصها العلم، أو ينقصها الأدب: إنها أمة متحضرة، كما أنه باطل الأباطيل أن يقال عن أمة متأخرة في حياتها الاقتصادية، وليس لها أي نتاج قائم بذاته، وليس في بلادها أي مظهر من مظاهر العمران والتنسيق. إن هذه الأمة لها في الحضارة نصيب!
ولكن هل صحيح أن هذه وحدها، هي الأصول الأولى لكل حضارة؟ وهل صحيح أن مجرد كون الأمة أصبحت غنية مترفة سواء في حياتها المادية أو حياتها العقلية، يكفي -دون أي شيء آخر سواه..- لأن يعدها في مصاف المتحضرين؟!
إن الجواب على مثل هذا قد يكون عسيراً لدى أولئك الذين تعودوا -بدافع من سوء الفهم أو بدافع من التقليد- أن ينظروا إلى الحضارة على أنها مظهر مادي لا أكثر ولا أقل.. إن أولئك الذين يحملون مثل هذا التفكير الخاطئ، وأولئك الذين فتنتهم حضارة أوروبا الراهنة، بآلاتها الضخمة، ومظاهرها الساحرة الخلابة، وما يكمن وراء هذه المظاهر من إشباع لشتى أنواع الغرائز.. ثم أولئك الذين أُتيح لهم أن ينهلوا من معاهد الغرب، ويعيشوا بين ظهراني أهله زمناً طال أو قصر، أولئك جميعاً، ماذا يجيبون على مثل هذا السؤال؟
لا شك أن فريقاً متطرفاً منهم لا يتردد في أن يقول إن هذه الشروط الوحيدة لكل حضارة وهي تكفي لاكتمال معناها، وتثبيت كيانها، فلندع هذا الفريق وما يقول، فلا نظن مجرد الكلام يغني شيئاً، ولننظر إلى ما عسى أن يقوله الآخرون من أولئك الذين تعشقوا حضارة الغرب وآمنوا بمُثُلِها العليا، ولكنهم يختلفون عن الفريق الأول بالنظرة الوئيدة، وطول التفكير!
هذا الفريق المتسم بالتفكير المتشدد والأناة وعمق النظرة بالإضافة إلى سواه من رجال العلم والبحث والفكر، سواء كانوا قدامى أو محدثين، شرقيين أو غربيين، هؤلاء جميعاً يتفقون في أن الحضارة -ونحن نعني كل حضارة بالطبع- لا تكمل بتلك العناصر وحدها وإلاّ أصبح معنى الحضارة شيئاً قميناً بكل زراية.. لا بد للحضارة إذن من عنصر آخر يضم إلى كل هذه العناصر، بل الأحرى بهذا العنصر أن يكون بالنسبة إلى بقية العناصر: عنصرها الأساسي، لأنه العنصر الأقوى والأكمل والأهم.. ولأن وجوده بمثابة وجود الروح مع الجسد، لا بد إذن من وجود هذا العضو الأساسي، لكي يبعث فيها الحيوية، وينقّي فيها الدم، ويدعم فيها الأسس، ويركز فيها الجهود ويحقق من وجودها غاية الإنسان المثلى، وسعادة الفرد وسعادة الجماعة، وأهداف الحق والخير والجمال.
ونحن إذا قلنا إن "الأخلاق" هي العنصر الأساسي لكل حضارة عليها يجب أن تقوم، وعلى ضوئها يجب أن تسير، فإنما نقول هذا، ويقوله معظم الناس، لأن التاريخ وسنن الاجتماع قد أثبتا بصورة جلية أن كل حضارة من الحضارات القديمة، وفي طليعتها الحضارتان اليونانية والرومانية إنما كان أول عوامل انهيارها: "انهيار الأخلاق"!
وأول ما تتمثل الأخلاق في الصدق والشجاعة والصراحة والوفاء بالعهد ومراعاة حقوق الغير، واحترام الآخرين.
وما من شك في أننا إذا نظرنا بهذا المنظار إلى حضارة الإسلام في عصرها الذهبي، وجدنا أن هذه الأخلاق السامية جميعها هي ما كان يتسم به بناة هذه الحضارة في عصور ازدهارها، ثم إذا ارتقينا إلى عصر صدر الإسلام وجدنا هناك المثل الأعلى في التحلي بهذه الأخلاق! وفي تاريخ عصر النبوة، وعصر الخلفاء الراشدين أبلغ الشواهد على إثبات هذه الحقيقة الساطعة وهو ما لا يختلف فيه اثنان، أو يجادل فيه إنسان.
وثمة حضارات قديمة ووسيطة.. حضارات قضى عليها جميعها بلا شك فساد الأخلاق، بل حتى الحضارة الإسلامية نفسها ما خرجت عن هذا القانون، وإنه من المؤسف أن نقول: إن حضارة المسلمين قضى عليها الفساد الخلقي أيضاً، وهو ما كان نتيجة لضعف الروح الدينية، وتفشي الاختلاف والتفرق في أواخر عهود هذه الحضارة، ولكنا لا نبعد إذا قلنا إن قسطاً وفيراً من هذا الانحطاط وهذا الفساد في الأخلاق إنما يعود إلى العناصر الدخيلة على المسلمين، أو بعبارة أصح: العناصر الدخيلة على العرب الذين كانوا قبل اختلاطهم بتلك العناصر أقوى ما يكونون من ناحية الأخلاق!
والآن -ونحن نعيش في عصر الحضارة الغربية، وهي حضارة حازت أكبر تقدم في كافة ميادين العلم والفن والثقافة والاقتصاد، وهذا طبيعي كنتيجة للنهضة الفكرية الشاملة، وتطور الحياة والزمن- الآن ونحن نعيش في عصر حضارة أوروبا العلمية والصناعية، وقد شاهدنا كيف أنها بلغت الذروة في أساليبها التنظيمية، وفي مجدها العلمي، بعد أن تم لها أن تحطم الذرة.
الآن ونحن نعيش في عصر أحدث الحضارات -كما هو الواقع- وأرقاها كما يقولون.. فقد حق لنا أن نتساءل: ما هو نصيب الأخلاق من هذه الحضارة يا ترى؟!
إذا أردنا أن نستوحي الإجابة على هذا السؤال من أعمال أساتيذ الجامعات في أوروبا، وأمريكا، ومن سلوك وآداب كبار رجال الفكر فيها ومن غيرهم.. وغيرهم من الأحرار، ودعاة الإصلاح الاجتماعي، والسلام العالمي، وجدنا أن الأخلاق تحتل -ولا جدال- في هذه الحضارة مكانها الرحيب!
ولكنا إذا أردنا أن نستوحي نفس هذه الإجابة من سلوك رجال آخرين.. رجال يمثلون الأغلبية الساحقة في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، وحسبك أن في مقدمتهم بعض كبار الساسة والزعماء والحكّام العسكريين، وكبار أصحاب الشركات ورجال المال والاقتصاد، والكتاب والباحثين ومحرري الصحف، وأعضاء البرلمانات وغيرهم من أفراد الطبقات العليا والوسطى.. إذا أردنا أن نستوحي الإجابة على سؤالنا من أعمال كل هؤلاء، وجدنا -مع مزيد من الأسف- أن الأخلاق وبالأخص أنواعها التي أشرنا إليها آنفاً تكاد تكون مفقودة.. وأحسب أن هذا لم يعد أمراً مبهماً أو غامضاً، أو يحتاج إلى طول مراجعة، وطول تفكير!
إن العنصر الأخلاقي مفقود في حضارة اليوم، وهذا لم يعد فيه شك، وهذا ما أصبح يشكو منه عقلاء الأوروبيين والأمريكيين أنفسهم، ونحن نسأل: أليس هذا الفقدان جديراً بأن يكون في طليعة أسباب الحروب العالمية المتتابعة، وما يراه العالم على الدوام من تلبد الجو، وتوالي الأحداث والخطوب، ووقوع الأمم جميعاً فريسة لهذه الحروب وما يتبعها من ذيول؟!
أين العنصر الأخلاقي في هذه الحضارة، وقد أصبح الصدق معدوماً فيها، والوفاء بالعهود ليس له وجود، ومراعاة حقوق الإنسان أو مراعاة حقوق الشعوب في إعطائها حرياتها، أصبحت من الأمور المستحيلة.. ومن المخزي -ولا سيما وأنه لا يتفق مع الأخلاق- أن أكثر الشعوب تراعي حقوقها قولاً فقط.. وفي وقت الشدائد والأزمات.. حتى إذا جاء وقت الفعل والتنفيذ بعد أن تنقشع السحب، ويصفو الجو وتذهب الشدائد ويرتفع كابوس الأزمات.. إذا بكل ما قيل يصبح أسطورة.. وإذا بكل ما وعدت به الشعوب يتبخر مع الريح، كأن لا قيمة للأقوال مطلقاً، ولا قيمة للوعود والعهود مطلقاً، ولا قيمة لأي معنى من معاني الأخلاق!
أين العنصر الأخلاقي في حضارة اليوم، وهي لا تزال تئن في نفس مواطنها من جور تحكم الطبقات وطغيان الرأسمالية، ودسائس رجال الأحزاب، وألاعيب السياسيين المحترفين، ولا تنس بعد هذا ما عرف عن هذه الحضارة من إباحتها للإباحية.. واستهتارها بالاستهتار.. إلى آخر ما هنالك مما يجوز ذكره هنا وما لا يجوز..!
وقصة هذه الحضارة مع الشرق معروف أمرها.. إنها قصة الاستعمار بل هي قصة التحكم بالغصب، وإذلال الشرقيين، واستغلال خيرات بلدانهم، ولا تزال هذه القصة إلى الآن على المسرح، ولما ينته فصلها الأخير..!
أين العنصر الأخلاقي من حضارة اليوم، وقد رأى العالم في قضية فلسطين أشنع الأمثلة على التفسخ الأخلاقي "واللامبالاة" بأي حق أو أي إنصاف أو أي عرف أو أي قانون؟!
الحق أن حضارة اليوم قد أثبتت فعلاً تجردها التام من أهم العناصر الأساسية اللازمة لبناء كل حضارة في الوجود.. إنها حضارة بلا أخلاق.. ولسنا في هذا نتجنى عليها، فهل يعيد التاريخ نفسه، لكي يرى الناس مصيراً لهذه الحضارة شبيهاً بالمصير الذي آلت إليه كل حضارة من هذا النوع قضي عليها أن تنهار بأسباب فقرها إلى العنصر الأخلاقي؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :612  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 35 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج