شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من شعرائنا في الجيل الماضي:
عبد الواحد الجوهري الأشرم (1)
1278-1311هـ
-1-
كان -بلا شك- من أشهر الشعراء الحجازيين في عصره الذي عاش فيه.
ولم يكن معظم الشعر في الحجاز، في ذلك العصر؛ شعراً، أو شبيهاً بالشعر... بل كان نظماً وكفى. وليته كان مع هذا كله نظماً في درجة النظم السائغ المقبول.
إنما كان الشعر في ذلك العصر؛ عبارة عن كلمات منظومة مقفاة.. أما أن هذه الكلمات من الجيد الممتاز؛ وأما أن هذه القوافي محكمة الوضع؛ منتقاة التركيب؛ فذلك كله مما لم يكن يُعنى به؛ أو يلتفت إليه؛ أو يحس بأهميته شاعر؛ أو سامع؛ أو قارئ؛ لماذا؟ لأن هذا الإحساس كان قد وصل من الفتور إلى درجة الصفر... فأما كيف كان ذلك؟ فلأن الطبع الشعري؛ والطاقة الشعرية كان قد أخنى عليهما الدهر؛ ونالت منهما الأحداث والخطوب في هذه البلاد خاصة -وهي منشأ البلاغة والفصاحة والشعر- بما لم تنله منهما في أي بلد آخر من بلاد الله.
كان العصر الذي عاش فيه هذا الشاعر عصراً راكداً بكل معنى الركود؛ ولم تكن هذه جناية العصر؛ أو أهل العصر؛ وإنما كانت جناية ألف عام أو تزيد.
ولد الشاعر، أبو الحسن عبد الواحد الجوهري؛ أو عبد الواحد الأشرم؛ كما كان هذا اللقب يغلب عليه -في مكة في العقد الثامن من القرن الثالث عشر الهجري؛ أو إذا أردت الدقة كانت ولادته في عام 1278هـ.
في عصر من عصور الاضطراب وعدم الاستقرار إذاً ولد الشاعر الأشرم؛ وفي عصر لم تكن فيه مدارس للتعليم؛ وجد نفسه يسعى لتلقي مبادئ علوم الدين على بعض المشائخ والعلماء.
ويظهر أن الميل إلى الشعر كان عنده أقوى من ميله إلى العلوم الأخرى لذلك سرعان ما رأى نفسه ينصرف عن المتون، وينصرف عن شروح هذه المتون؛ وحواشي هذه المتون، إلى شيء آخر؛ ملأ منه جوانب النفس.. ذلك هو الشعر!
انصرف الأشرم إلى قراءة الشعر أولاً؛ ولكن أي شعر؟ إنه الشعر الشائع في ذلك الحين؛ إنه الكلام المنظوم المقفى؛ أو النظم الموروث عن عصور المتأخرين.
أنا لا أشك مطلقاً في أنه لو أتيح للأشرم -على ما منحه الله من موهبة شعرية أصيلة- لو أُتيح له أن يدرس الأدب كما يجب أن يدرس الأديب؛ ولو أُتيح له أن يقرأ الجاحظ، ويقرأ المتنبي، ويقرأ البحتري، ويقرأ أبا تمام؛ إلى جانب المختار من عيون الشعر العربي في قديمه الزاهر.. لا أشك مطلقاً في أنه لو أُتيح له ذلك؛ أو شيء من ذلك.. لما كنا نقرأ له الآن إلاّ شعراً من طراز آخر.. شعراً يختلف كل الاختلاف عن شعره الذي وصل إلينا؛ شعراً لا يبعد أن يصل إلى قريب من مستوى شعر البارودي في أسلوبه وألفاظه، ولا أقول في أغراضه ومعانيه؛ وقد كان البارودي يعيش في وطنه؛ ويغني ويُغرِّد؛ في نفس العصر الذي فيه عبد الواحد الأشرم.
ولكن أين؟ أين يمكن لمثل الأشرم في ذلك العصر المضطرب؛ أو في ذلك العصر غير المستقر؛ أو في ذلك العصر الراكد ركوداً ما بعده ركود.. أن يصل إلى الجاحظ، أو البحتري، وأبي تمام، أو غير هؤلاء من رجال هذا الرعيل؟
وإذن فلا عتب على الشاعر المطبوع ولا ملام إذا لم يستطع أن يقرأ إلاّ ما أمكنه أن يصل إليه... وقد كان أكثر ما أمكنه أن يصل إليه شعراً لا حياة فيه.. كان نظماً بارداً متكلفاً؛ كان غزلاً أو تغزلاً حسياً غير صادر عن طبع، وغير ناشئ عن عاطفة حب، كما يجب للشعر الغزلي أن يكون.
وإذا أردت مزيداً فاعلم أن الكثرة الغالبة من هذا الشعر الواهن المصنوع إنما هي تشاطير، وتخاميس، وتطاريز...
في ذلك الجو الخانق؛ لسوء حظ الشعر؛ أو لسوء حظ شعراء ذلك الزمن؛ في ذلك الجو عاش الشاعر الأشرم. فأي شعر تراه ينظم؟ وأية أفكار تراها تجول في رأسه؟ وأي الأغراض والموضوعات يمكن أن تشغل منه أعماق الشعور؟
أهو الشعر السياسي؟ أو الشعر الاجتماعي؟ الواقع أننا نظلم الأشرم، أو غير الأشرم، من شعراء تلك الفترة إذا رجونا أن نقرأ لهم شعراً من هذا القبيل!
ذلك لأن العصر لم يكن عصر يقظة فكرية، إنما كان عصراً ساد فيه الحكم العثماني، وساد فيه مع الحكم العثماني فقدان التعليم العام والجمود الفكري!
إلى جانب ذلك ظلت أغراض الشعر، أو موضوعاته ومعانيه طيلة ألف عام أو تزيد حبيسةً في هذه البلاد داخل سور من حديد... وإذن فطبيعي أن لا يغلب على هذه الأغراض والموضوعات إلاّ المديح والرثاء والهجاء تارة... وإلاّ شعر التصوف تارة أخرى... وإلاّ هذا الشعر الغزلي المتكلف في معظم الأحيان.
فأية هذه الأغراض والموضوعات، كانت من نصيب الأشرم؟ إن المجموعة التي أمامي من شعر هذا الشاعر، لا أجد فيها أي قصيدة في المديح، أو أية قصيدة في الرثاء، ولكني أجد فيها قصيدة واحدة هجائية، يهجو بها شاعراً من معاصريه.
فإن كانت هذه المجموعة هي كل ما نظمه الأشرم -وأنا أستبعد ذلك- كان لنا أن نستنتج أن انصرافه عن المديح والرثاء انصرافاً تاماً، في عصر كان لا بد فيه لكل شاعر مشهور أن يمدح أو يرثي إنما هو دليل على روح إنطوائية في هذا الشاعر العاطفي الحساس.
ويبدو لي أن الميل إلى الهجاء هو الآخر لم يكن من طبيعة هذا الشاعر أيضاً.. لأن قصيدته الهجائية الوحيدة في هذه المجموعة إنما كانت رداً منه على زميله ومعاصره "السيد حسين صحرة" فقد كان هذا الشاعر هو الذي بدأه بالهجاء.. فأراد الأشرم أن يرد.. ولكن بقصيدة لعلّها هي وقصيدة حسين صحرة معاً من أمسخ وأحط ما نظمه شاعر هجاء!
والواقع أن قصيدة الأشرم الهجائية تدل بنفسها على ضعف ملكته في الهجاء... وإذن فلم يكن الأشرم شاعراً هجّاءً إلى جانب أنه لم يكن من شعراء المديح والرثاء؛ أو شعراء الفرح والترح.. كما يقول الناقد المعروف "مارون عبود".
-2-
... وإنما قدر للأشرم أن يصوغ القول -على طريقة عصره- في ناحية وحيدة، لعلّها أسمى أنواع القول في ميدان الشعر؛ وأقربها إلى النفس الإنسانية، وهي ناحية الغزل والتشبيب.
الأشرم شاعر غزل؛ وإذا قلت إنه غزل، فلست أعني بالطبع أنه شاعر يجري مع "عمر بن أبي ربيعة" أو "كثير عزة" أو "جميل بثينة" أو مع غيرهم وغيرهم من شعراء وهبوا للحب كل ما صاغوه من شعر.. وفي الوقت نفسه أجادوا وأبدعوا في شعرهم بمقدار ما كانوا يصدرون في هذا الشعر عن صدق في العاطفة، وصدق في التعبير.
فما هو مكان الأشرم -وقد رأينا جل ما وصل إلينا من شعره يدور حول الغزل- ما هو مكانه -يا ترى- بين أولئك الشعراء الغزليين؟ الواقع إننا نتجنى على الحق، رغم تقديرنا لأصالة هذا الشاعر -إذا قلنا أنه، في هذا الميدان شاعر ممتاز، أو شبه ممتاز.. كلا، لم يكن الأشرم شاعراً غزلاً ممتازاً إذا أردنا من الامتياز أنه أجاد كما أجاد أولئك الشعراء القدامى، أو أنه أجاد كما يجيد اليوم الشعراء المعاصرون!
وإنما كان الأشرم شاعراً غزلاً وكفى... أولاً لأنه خصص نفسه وأفرد شاعريته لهذا النوع من الشعر المرموق.. وثانياً لأنه تفوّق في هذا النوع على أكثر معاصريه وأخيراً لأن شعره في الغزل كان حظه من السيرورة في الجيل الماضي القريب أكثر بكثير مما ناله أي شعر آخر من شعر الشعراء الحجازيين.
وحسبك أن تسمع أنه كان "متنبي زمانه!" و "وحيد أوانه!" في نظر معاصريه لكي تعلم إلى أي حد استطاع هذا الشاعر أن يملأ دنيا الحجاز في ذلك الزمن وأن يكون وحده بين الشعراء الآخرين "الطائر المحكي" والآخرون "الصدى".
ولست أعجب من أن يبالغ معاصرو الأشرم، أو مَن جاء بعدهم في وصفه بكل هذه النعوت -لأننا نحن اليوم لا نستسيغ أمثال هذه المبالغات، فمن يدري؟ فلعلّ لأولئك المعاصرين عذراً في ذلك ونحن نلوم!
وانظر إلى علاَّمة محقق دقيق فيما يقوله ويرويه وهو الشيخ عبد الله أبو الخير صاحب الكتاب القيّم المخطوط: "نشر النور والزهر" إذ يترجم للأشرم ترجمة موجزة جداً يقول فيها: "ونظم الشعر الحسن الرائق الكثير الفائق واشتهر شهرة تامة في الحجاز ولأهله على شعره تهافت الخ".
* * *
لقد كان الأشرم في الفترة التي عاش فيها أشهر شاعر حجازي غنائي -كما يبدو- ولكنه على الرغم من هذه الشهرة ما استطاع أن يكون، سواء في أسلوبه أو موضوعه -ذلك الشاعر الممتاز.. والسبب أنه ما استطاع أن يفلت من تأثير بيئته الحجازية في حياتها الفكرية والاجتماعية التي تحياها.. وليت شعري أيستطيع إنسان أن يفلت من تأثير البيئة إلاّ إذا كان "عبقرياً فذاً" من أولئك الذين قلما يأتون إلى العالم في أدوار ركود الأمم؟!
وحقاً ما كان للأشرم ولغير الأشرم أن يخرج على قواعد عصره العتيقة الموروثة عن عصور التأخر والانحلال، فهو قد تغزل ولكنه لم يتغزل إلاّ التغزل التقليدي المعروف.. وهو قد وصف ولكنه لم يصف إلاّ الوصف الحسي المألوف، وهو في تغزله ووصفه لم يتجاوز مجموعة الألفاظ الدارجة على الألسن إذْ ذاك.. وسواء كان من نظم شعره فيهم أشخاصاً حقيقيين أم خياليين وسواء كان وصفه إياهم صادقاً أم متصنعاً فقد لا يعنينا هذا كله بقدر ما يعنينا في المكان الأول "أداء الشاعر" وطريقته في هذا الأداء.
وجد الأشرم نفسه في بيئة لا يستأثر بإعجابها واهتمامها من الشعر إلاّ ما كان على هذا الغرار... وفي بيئة ما أمكنها أن تحظى بأي معهد للتعليم والتثقيف، وفي بيئة أكبر الظن أنه لم يكن قد وصل إليها بعد ما نشرته مطابع بيروت ومصر لأول عهدها من كتب الأدب العالي والشعر الرصين... أفيمكن لمثل هذه البيئة أن يخرج على قواعدها شاعر مهما كان على جانب موفور من موهبة الشعر والبيان؟!
المزية الأولى التي رأيتها في شاعرنا الأشرم هي أنه شاعر مطبوع على الشعر -ما في ذلك شك- أما ميزته الثانية فهي أنه استطاع كما سبق أن نوهت أن يستأثر من إعجاب معاصريه وتهافتهم على شعره بأكبر نصيب لأنه استطاع أن يغني على أوتارهم... واستطاع أن يحلق قليلاً أكثر مما استطاع أن يحلق في ذلك الزمن أي شاعر حجازي سواه!
فالأشرم هو ناسج برد تلك القصيدة المشهورة:
على جيد هذا الظبي فلينظم الدر
وإلاّ فما للدر قدر ولا فخر!
والتي يقول فيها:
بدا فأضاء الجو حتى كأنما
بليلة نصف الشهر لم يطلع البدر
فهذه القصيدة الغنائية كانت في زمانها طائرة الصيت وأنت لن تجد أكثر أبياتها إلاّ على هذا النمط سوى قليل من الإسفاف والركاكة في بعض هذه الأبيات.
وأنا أستميح القارئ الأديب عذراً إذا تعمدت هنا أن لا أسترسل في إيراد بقية أبيات هذه القصيدة... وإنما حسبي أن أشير إلى أنها كانت إلى عهد قريب أحب إلى أصحاب الغناء وغير أصحاب الغناء من كثير من فرائد الشعر الغزلي المشهور!
فإذا أردنا أن ننظر إلى هذه القصيدة في ضوء مقاييس الشعر الحديثة فلن تكون النتيجة إلاّ أنها قصيدة دون الوسط... ولكننا حريون أن ننظر إليها في ضوء مقاييس عصرها، أو على الأقل في ضوء شعر الحجازيين خاصة في ذلك العصر، وإذن فلا أظنك تقول إلاّ أنها قصيدة ممتازة ولا مراء، بالقياس إلى منظومات أولئك الشعراء!
وشيء آخر فأنا أزعم أنها قصيدة يصح أن توصف بأنه لا بأس بها إذا نظرنا إلى مجموع الشعر الرائج في مصر والشام والعراق في ذلك العصر بعد أن نستثني -بطبيعة الحال- شعر البارودي ومن سار في خطاه...
وانظر إلى هذه الأبيات من قصيدة غزلية أطال فيها -على خلاف عادته- حتى بلغت أبياتها ثلاثة وثلاثين بيتاً إذ يقول في أولها:
حمامة هذي الدار، ذكرتني سلمى
سلمت! فإن الذكر قد كان لي سلمى
إلى أن يقول:
هواها الذي أغرى الهوان به وما
تذكرها إلاّ وذاب به هيما
ولولا قديم العهد ما كنت ثاوياً
على حفظ عهد... بين عهد طغى ظلما
عهدت زماني كان بالعهد وافياً
ولما وفيت العهد لمْ الأسى لما
ألا أيهذا الدهر -والنقض سيء-
أسأت.. وهل في النقض نلتِ المنى، أم ما؟
وإني وأيم اللَّه والدهر خائن
لآمن من رام الوفاء، ومن أما
وأنت تجد وسط هذه القصيدة وفي آخرها لوناً من الحوار المكرر الطريف يجري بين الشاعر وسلماه على نمط ما نقرأ في شعر "عمر بن أبي ربيعة" لولا أن القياس هنا سواء في الروح أو الأسلوب إنما هو قياس مع الفارق الكبير!
وللأشرم قصيدة غزلية أخرى يقول فيها:
في آي طه معان، هن معناها
حوراء ترمي فؤاد الصب عيناها
ما كنت أحسب أن الورد يُغرس في
روض من الثلج حتى بان خداها
ما الدر والماس والياقوت تذكرها
إلاّ بمبسمها المعسول نلقاها!
كأنما خصرها الميزان إذ خطرت
وكفتاه -كما ينبيك- ردفاها
تجر بالتيه أذيالاً ومذ سفرت
تقنّع الليل في أضوا محياها
باتت تدير علينا كأس صافية
حمراء بالريق مزجاً قد شربناها
كأنما الكأس إذ لاحت على يدها
طلوع شمس عمود الصبح حاذاها
وناولتني صرفاً وهي باسمة
قالت: اشرب! فما أحلى، وأحلاها!
تشابه الكأس والصهبا ومبسمها
وشابه الحَبَب الأسنى ثناياها
والقلب قد حار أن يختار أيهما
وكان أشهى من الاثنين لي، فاها
فأنت لا شك ستجد في هذه الأبيات وهي من قصيدة تبلغ أربعة عشر بيتاً، ما يدلك على مثال من صدق عاطفة الأشرم وولهه بالجمال... ثم على براعته في التصوير الشعري، تصويراً إن لم يخرج عن طريقة ذلك العصر إلاّ أنه تميز عنها واستطاع به أن يرتفع -إلى حد ما- عن ذلك المجال الضيق حيث كان معاصروه من الشعراء لا يكادون ينظمون في غير التشاطير والتخاميس والتطاريز، وفي إطار محدود من الألفاظ الشائعة والكلمات المكرورة إلى جانب خيال مكدود، ومعانٍ ليس فيها أية جدَّة أو حيوية وابتكار.
وأنت لا شك ستجد أيضاً في هذه الأبيات نموذجاً مما كان معهوداً في ذلك العصر وغير ذلك العصر من الميل إلى الوصف الحسي، وحقاً إن كثيراً من الوصف الحسي مما لا يستسيغه الذوق الرفيع ولكنا حرّيون بأن نأتي بكل ما يدل على شعر الشاعر من ملامح وسمات، ما دامت مهمتنا، أن نؤرخ لهذا الشاعر تاريخاً صادقاً أو بعبارة أخرى تاريخاً أقرب إلى الصدق بقدر الإمكان منه إلى أي شيء آخر.
ولعلّ شاعرنا الأشرم قد أغرق في الخيال، فراح يتصور كما هي عادة من عرفنا من شعراء الخمريات، راح الأشرم يتصور "كاس صافية حمراء" كما ترى في البيت السادس، ثم يوالي هذه الإشارة إلى الكأس في البيت الذي يليه ثم يلتفت، وكأنما أحسْ أن مثل هذا التصنيع الشعري، أو مثل هذه اللاواقعية في الشعر لا بد أن تبدو... فراح أيضاً، يؤكد، ويؤكد في بيتين آخرين.. ما أميل كل الميل إلى عدم قبوله إلاّ على أساس أنه شعر تقليدي رأى الشاعر أن يساير فيه نزعة الزمن، وأن يبدو في شعره متظرفاً.. فيضيف إلى ما بدا في هذا الشعر من صدق العاطفة: شيئاً من كذب الخيال!
ولعلّ من التظرف أن يقول الأشرم في شخص قيل إن اسمه صالح:
رنا، فسألته عن سهم لحظٍ
أيصلح للقتال؟ فقال: صالح!
وقال به أميت الصب عمداً
فقلت: وكيف ذاك؟ وأنت صالح؟
ومن هذا القبيل قوله:
وذات تدلل طافت مساءً
وقد كشف الهوا عنها رداء
فقلت: وقد أبان الساق منها
جزى اللَّه الهوا عنا جزاء
وللأشرم شعر قليل جداً قاله في بعض المناسبات، من ذلك ما نظمه إجابة لطلب من أستاذه الشاعر الحجازي المشهور الشيخ عبد الجليل برادة فقد كان الشاعر وأستاذه في محل اسمه "دشم" في المدينة المنورة وكان يقرأ لأستاذه في كتاب "الريحانة" لابن خفاجة فمرت بها فتاة من فتيات البادية وجلست بالقرب منهما مصغية للقراءة.. فما كان من الشاعر إلاَّ أن يجيب الطلب ويرتجل هذه الأبيات:
إلى "دشم" لما أتينا عشية
وما "دشم" إلاّ رياض من الأنس
كأن ثراها، والزروع مراهق
على خده شعر سليم من اللمس
شربنا على كأس الهناء مدامة
وكان لها الساقي نديم بلا حس
ومرت بنا هيفاء تحت قناعها
كصهباء تجلوها العيون من الكأس
وأصغت لما نروي عن "ابن خفاجة"
وما انتخبت إلاّ الجلوس على الدهش
ومهما يكن من القول في هذه الأبيات، وما قد تراه فيها من التكلف الظاهر كأكثر ما نراه في شعر المناسبات أو الشعر الذي يقال إجابة للطلب.. فإنها لم تخل من روح الأشرم -على كل حال- وهي روح ميالة إلى الظرف، كما رأينا، وليس غريباً أن توجد في الأشرم هذه الروح.. أليس الظرف هو السمة الغالبة قديماً وحديثاً في معظم ما أُثر من شعر الحجازيين؟
على أن في البيت الرابع من هذه المقطوعة من دقة للتشبيه وجماله ما لا يخفى..
انظر إليه كيف يصف تلك الفتاة وهي تبدو من وراء قناعها، مشبهاً إياها بماذا؟ بصهباء ترنو إليها من خلال زجاج الكأس، أعين الناظرين.
وقد نظم الأشرم أبياناً يذكر فيها أيامه في المدينة المنورة، وهي أبيات تدل على عمق الوفاء، ورقة الشعور، وعلى أنه خلق ألوفاً كما قال المتنبي:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وهذا ما يقوله الأشرم:
رعى اللَّه أياماً تقضت بطيبة
وسارت قصاراً، والفؤاد بها مغرى
بأنس وإسعاد ووصل ونزهة
وطيب ليالٍ ما عرفت لها قدرا
ليالي وصال لو تباع شريتها
وأبذلت -مهما رام بائعها- مهرا
ولك أن تتجاوز هنا عن قول الشاعر "أبذلت" بدلاً من "بذلت" فقد تكون ضرورة الوزن هي المسؤولة عن هذا الخطأ، وإن كنت ألاحظ في أكثر ما قرأته من شعر الأشرم أنه قليل الاحتفال في شعره بقواعد النحو والتصريف.
وقد كان التشطير والتخميس والتطريز -كما علمنا- طابع العصر الموروث وإذن فلا بد للأشرم أن يشارك في هذا الميدان أيضاً، متأثراً بعقلية تلك البيئة ما دام تأثره هذا يفرضه قانون الحياة في كل زمان ومكان.
فإن أردت أمثلة من تشطير الأشرم وتخميسه بعد أن رأيت مثالاً من تطريزه، في الأبيات التي أوردناها من قصيدته: "على جيد هذا الظبي" إن أردت هذه الأمثلة للدلالة على أسلوب الشاعر في هذا النوع من الشعر الصناعي الصرف فإني أورد لك مثالاً من تشطيره ومثالاً آخر من تخميسه أما الأول فهو:
"سألتها عن فؤادي: أين مسكنه"
وقد سبته بما أبدى محياها
ولست أدري محلاً أنزلته به
"لأنه ضلّ عني، عند مسراها"
"قالت: لدي قلوب جمة جمعت"
وليس يُعلم عندي أين مثواها
منها السعيد ومنها ما أعذبه
"فأيها أنت تعني؟ قلت: أشقاها"
وأما المثال الثاني وقد لا تجد فيه اختلافاً عن المثال الأول إلاّ من ناحيته الشكلية فهو هذا التخميس:
ما احتيالي ولم أجد في زماني
من معانٍ أجاد بالإمعان (2)
يا طبيباً بطبه قد أتاني
"مرضي من مريضة الأجفان"
"وشفاني في وصلها والتداني"
ذاب قلبي من بُعدها ونواها
ليت شعري ومهجتي مأواها
هل أراها وليس دائي سواها
"يا خليلي ولائمي في هواها"
"عللاني في حبها عللاني"
* * *
وبعد فأرجو أن أكون بهذا البحث الوجيز قد استطعت أن أرسم للقارئ الأديب صورة عن الشاعر الأشرم، إن لم تكن شاملة كل الشمول بسبب قلة ما وصل إلينا من شعره وسيرة حياته فحسبها الآن أنها تلقي شيئاً من الضوء عن شاعر حجازي كان من أشهر شعراء الحجاز في عهد من عهوده القريبة، وقد كان هذا الشاعر مطبوعاً على الشعر، ثم هو يمثل عصره أصدق تمثيل فإذا عرفنا إلى جانب ذلك أنه مات في شرخ شبابه حيث لم يجاوز 33 عاماً إذ توفي في عام 1311 أدركنا إلى أي حد لو كتب له أن يعيش طويلاً يبدو مُتَفوقاً ويزداد نضجاً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :798  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج