شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العَرب: تَارِيخ موجَز
مزايا ثلاث تبدو واضحةً كل الوضوح في هذا الكتاب، وقد وضعه باللغة الإنكليزية أولاً مؤلفه العلامة الدكتور فيليب حتي، أستاذ آداب اللغات السامية ورئيس دائرة العلوم الشرقية بجامعة برنستون بأمريكا ونقله أخيراً إلى اللغة العربية بمعاونة نفر من رفاقه الفضلاء، وهم بدورهم استعانوا -كما يقول المؤلف في المقدمة- بترجمة كتابه المطول في هذا الموضوع..
أولى هذه المزايا، الشمول، فقد أوفى على الغاية في تدوينه لأهم الأحداث البارزة ذات الأثر في نشوء وتطور الحياة العربية، والحضارة الإسلامية، وبخاصة ما كان منها متصلاً بالنواحي الاجتماعية والثقافية.
ثم أسلوبه العلمي والأدبي معاً.. وأخيراً روح الإنصاف المتجلية في معظم ما يسوقه المؤلف من آراء خلال سرده للحوادث وتحليله للرجال!
وقد وضع هذا الكتاب في الأصل في لغته الإنكليزية بقصد إطلاع القرّاء الأمريكيين والأوروبيين على حقائق التاريخ العربي. ومن هنا تأتي فائدته. خصوصاً في هذا العهد الأخير بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية... وأبانت الحوادث السياسية في معظم المواقف... أن أكثر من وضع لهم هذا الكتاب -إن لم نقل كلهم- كانوا بعيدين كل البعد عن معرفة أي حقيقة تاريخية أو اجتماعية أو سيكلوجية عن الأمة العربية!
ثم إن قيمة هذا الكتاب من الوجهة العلمية، ومكانة مؤلفه المرموقة في العالم العربي، وفي العالم الجديد ونصاعة آرائه وأحكامه التاريخية، لا شك أنها تزيد من فائدة الكتاب لمن يقرؤنه من أبناء الشعوب.
ولعلّ من أمتع ما نراه ماثلاً في هذا الكتاب مواقف المؤلف وهو يتحدث إليك عن مجالي العظمة والعبقرية والفخار في عصور العرب الذهبية مُشيداً بجلائل أعمالهم في عبارات موجزة مشرقة إن دلت على شيء، فعلى روح الإنصاف التي أشرنا إليها. ثم على هذا الشعور العربي الأصيل... وليس هذا الشعور الأصيل غريباً من المؤلف العربي الكبير.
فانظر إليه في الفصل الذي عقده عن مكانة العرب في التاريخ، يتحدث إليك عن تراث العرب الثقافي والعمراني في هذه العبارات:
".. ولم يقتصر ما خلده العرب في تاريخ العصور على إنشاء دولة بل تعدى ذلك إلى الثقافة والعمران، فقد ورث العرب المدنيات القديمة التي ارتفعت معالمها، على شواطئ الرافدين وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية، وفي وادي النيل، واقتبسوا عن الإغريق والرومان القيِّم من آثارهم ثم أضافوا إليه كثيراً مما ابتدعوه، ومن ثم نقلوه إلى أوروبا في عصورها المظلمة ونشروه فيها فكان من جراء ذلك أن بزغ في أوروبا فجر تلك اليقظة العلمية التي لم يزل العالم الغربي -ومنه أمريكا- يتمتع حتى اليوم بحسناتها...".
"وليس من شعب آخر قام في القرون الوسطى بما قام به العرب في سبيل تقدم البشرية فبينما كان فلاسفة العرب مكبين على دراسة تأليف أرسطو كان شرلمان ورجال بطانته يحاولون إتقان كتابة أسمائهم.
وبينما كان علماء العرب في قرطبة يترددون على خزائن كتبهم السبع عشرة، وفيها خزانة حوت 4,000,000 مجلد ويعودون إلى بيوتهم فيتنعمون بالاستحمام في حمامات بلغت الغاية في النظافة والأناقة كان الأساتذة والتلامذة في جامعة أكسفورد يستنكرون الاستحمام، ويحسبونه من ملذات العيش الشهوانية التي يجب الترفع عنها...".
وفي فصل "العلوم والآداب" يتحدث إليك عن أثر العرب في نقل الفلسفة والأدب والعلوم وعن تكييفهم لها وتجديدهم فيها وتحويرهم إياها إلى ما يوافق حاجاتهم الخاصة وطرق تفكيرهم فيجيئ قوله فصل الخطاب في القضية... يقول:
"لم يكتف العرب بالنقل والتقليد بل تعدوهما إلى التكييف والتجديد فهم لم يكتفوا باستيعاب تراث الفرس الفني وتراث اليونان العلمي على ما كان عليه بل حوروا التراثين بموجب حاجاتهم الخاصة وطرق تفكيرهم".
وهذا الذي يقوله الدكتور حتي، معروف ومسلّم به، غير أنّا لا نزال نشاهد من بعض متعصبة المستشرقين من يصرون على أن العرب لم يكونوا سوى مجرد ناقلين للفلسفة والعلوم وأنه لم يكن لهم أي ابتكار في هذا الميدان..
والدكتور حتي، لا نظن أنه يتهم بالتحيُّز، على كل حال!
ويحضرنا بهذه المناسبة ما قرأناه للأستاذ عباس العقاد في هذا الصدد في كتابه "أثر العرب في الحضارة الأوروبية".
إذ يقول:
"ويخطئ من يرى أن كل ما تركه فلاسفة المسلمين قد نقلوه قبل ذلك بحروفه عن فلاسفة اليونان، فقد وجد من الفلاسفة الإسلاميين من تصرف واستقل برأيه كما وجد منهم من وقف عند النقل والتفسير، وأكثرهم قد تلقوا مذاهب الأولين على أنها عمل قابل للتعديل والتفنين، وليس على أنها قضية مسلمة لا يأتيها الباطل بحال".
ويقول المؤلف عند كلامه عن الطب: "وخطأ العرب في هذا العصر -يقصد العصر الذي يبتدأ من النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي- خطوات واسعة في الاستدواء بشتى العقاقير فهم أول من أوجد حوانيت لبيع الأدوية، وأقدم من أسَّس مدرسة للصيدلة، وصنف في الأقرباذين رسائل؛ وكان يفرض على الصيادلة والأطباء منذ زمن المأمون والمعتصم اجتياز امتحان خاص، وعلى أثر سوء تصرف جرى من أحد الأطباء أوعز الخليفة عام 931م إلى سنان بن ثابت بن قرة وهو طبيب مشهور أن يمتحن كل الأطباء ويعطي الإجازات الطبية لمن توفرت فيهم الأهلية فقط فاجتاز الامتحان في بغداد ما ينيف على ثمانمائة وستين وبذلك تخلصت العاصمة من الدجالين... ومما يدل على العناية بصحة أهل الريف ما أمر به علي بن عيسى الوزير في عهد المقتدر من إرسال بعثات من الأطباء تحمل الأدوية وتطوف أنحاء البلاد تعالج المرضى والمعوزين، وكانت بعثة من الأطباء تتفقد السجون يومياً فمن هذه الحقائق يظهر لنا اهتمام أولياء الأمر بالصحة العامة وهو أمر لم يكن مألوفاً في باقي أقطار العالم آنذاك...".
ويتجلى إنصاف المؤلف رائعاً حينما يعرج إلى قصة إحراق مكتبة الإسكندرية التي يتداولها بعضهم ناسبين أمر إحراقها إلى عمر بن الخطاب... يقول الدكتور حتي عن هذه القصة: "إن مصدرها الخيال لا الحقيقة".. إلى أن يقول: "والواقع أن مكتبة البطالسة أحرقها يوليوس قيصر سنة 48 ق.م. وأن مكتبة أخرى نشأت من بعد ما يشار إليها باسم المكتبة الصغرى دمرت سنة 389م على أثر أمر أصدره الإمبراطور الروماني ثيودوثيوس. وإذن فلم تكن هنالك مكتبة تستحق الذكر عند الفتح العربي.
وقد أشار المؤلف إشارة الباحث المستقصي ناقداً ما كان من أمر الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك مع قائده "موسى بن نصير" فاتح الأندلس؛ انظر إليه يقول: "وحلَّ بموسى ما حلَّ بكثير غيره من قواد العرب البارزين؛ فقد أذلّه الخليفة سليمان وعاقبه بالوقوف يوماً كاملاً في حرارة الشمس حتى وقع مغشياً عليه؛ وصادر أمواله؛ وجرّده من كل سلطة، وآخر عهد لنا بموسى فاتح إفريقيا وإسبانيا مستعطياً في قرية نائية بالحجاز وهو طاعن في السن...".
* * *
ولم يخل كتاب الدكتور فيليب حتي -كأي كتاب غيره- من بعض المآخذ.. فهو يقول عند كلامه عن ولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "ولقد دعته أمه باسم قد يظل مجهولاً، أما الاسم الذي به في القرآن فهو محمد...".
هكذا يقول.. مع أن الثابت في جميع المصادر العربية أن الرسول سُمي محمداً منذ الولادة.. سمّاه بذلك جده عبد المطلب.
وعندما يتحدث الدكتور عن قضية اعتزال الحسن رضوان الله عليه للخلافة ومبايعته لمعاوية يقول:
"... ولكن الحسن الذي كان يميل إلى الترف والبذخ لا إلى الحكم والإدارة، لم يكن رجل الموقف... -كذا!- فانزوى عن الخلافة مكتفياً بهبة سنوية منحه إياها معاوية..".
وأظنُّ أننا لسنا في حاجة إلى أن نقول إن هذا التعليل لموقف الحسن؛ ليس هو التعليل الصحيح!
فلم يكن تنازل الحسن عن الخلافة ومبايعته بها لمعاوية ناجماً عما سماه المؤلف "ميل الحسن إلى الترف والبذخ".. ومعروف أنه قد سبق إلى مثل هذا القول بعض المستشرقين.. فمن أين لهم هذا؟
ونحن لا نحب أن نطيل في هذا الموضوع؛ وإنما نقول في إيجاز -ولسنا في هذا الذي نقوله نأتي بجديد! -: إن موقف الحسن من قضية الخلافة إنما كان الموقف الحكيم.. الموقف الذي أملاه على الحسن خوفه أن تسفك دماء المسلمين؛ ولا شيء غير ذلك.. ومن المفهوم أن الناس قد بايعوا الحسن؛ بعد مقتل أبيه الإمام.. والتف حوله الجيش وعاهده أربعون ألفاً أو يزيدون على أن يموتوا دونه.. فيأبى أَن يقاتل.. لماذا؟ لأنه رأى -وما أصح ما رأى أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى فيضن بدماء المسلمين أن تسفك... بل هو يقول في ذلك فيما بعد لمن لامه على موقفه هذا: "كرهت أن أقتلكم على الملك"!
أفيصح أن يقال بعد هذا إن موقف الحسن عليه السلام من قضية الخلافة كان باعثه ميله إلى الترف والبذخ إلى آخر ما قاله الأستاذ فيليب حتي متابعاً في قوله بعض المستشرقين؟!
ثم يشير المؤلف إلى عصر الأمين بن الرشيد بكلمات لا نرى من المناسب إيرادها هنا... إنها كلمات تدعو إلى التقزز.. كلمات ما كان أغناه عنها! وما كان أغنى قراءة الأمريكيين عنها! ونحن الذين لا نرى في الأمين ما يقربه أية خطوة من أبيه الرشيد؛ أو من أخيه المأمون؛ لا نستطيع أن نقول "لا" حينما نرى بعض المؤرخين يوجهون مثل هذه الاتهامات... ولكننا حريون أن نقابلها -على الأقل- بالكثير من الشك... فالواقع أن شيئاً غير قليل مما نُسبَ إلى الأمين كان من صنع الدعاوى.. وهذا ما يحتم أن تكون الإشارة إلى ما ساقه المؤرخون من أمثال هذه الاتهامات في أناة واحتياط.
ويظهر أن المؤلف الفاضل ممن يرجحون أقوال بعض المستشرقين أيضاً! ممن يزعمون -وما أكثر ما يزعمون!- أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالقانون الروماني واليوناني إلى آخره.. فهو يقول بصراحة: "ولم يكن في القرون الوسطى بعد الرومان أحد غير العرب عني بعلم الشريعة فأنشأ لها نظاماً مستقلاً؛ والفقه عندهم مبني في الدرجة الأولى على القرآن والسنَّة ولا شك في أنه تأثّر بالنظام اليوناني والروماني...".
والادعاء بأن فقه المسلمين قد تأثر بالأنظمة الرومانية واليونانية.. ادعاء باطل بلا شك.. وقد ظل هذا الادعاء -مع الأسف- سائداً بعض الوقت، غير أن البحوث الأخيرة أوضحت بطلانه بما لا يدع مجالاً لأي شك.. وأذكر أن في طليعة من أشاروا إلى هذا الموضوع، داحضين هذا الزعم؛ الأستاذ فارس الخوري، العالم القانوني، والزعيم العربي المعروف.
* * *
على كل حال.. لا بد لنا من أن نقول ونحن نختم هذا البحث: إن ما نأخذه على الدكتور فيليب حتي في كتابه القيم هذا؛ لا يمكن أن يطامن من قيمة هذا الكتاب؛ فما من شك في طرافته، بل وأهميته لدى قرّاء العربية والإنكليزية على السواء..
ثم إن أي كتاب؛ وخاصة عندما يتناول بالنقد بعض القضايا الهامة سواء أكانت تاريخية أم غير تاريخية، يمكن أن يخلو من بعض المآخذ؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :526  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج