شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بين النقد والجمال (1)
(5)
وأنا بعد أكثر الناس تقديراً لقيمة صديقي الأستاذ عريف ولعلي أول من أشاد بذكره وفرضه على الأفهام العديدة محتملاً فيه مشقة العتاب المر ممن يترصدون نشاطه اليوم بكثير من القلق والارتياب.
فإن كان هذا من طبيعة المن الذي اكتشفها الصديق فيّ فما كان سببها إلا التجني منه وأنا من عقباها بريء.
وقد اتهمني بالجرأة، ونفاها عن نفسه، فمالي لا أهتبل الفرصة -كما يقول الأستاذ السباعي (2) -لأرخي العنان لنفسي قليلاً وللقراء أن يفهموا عني ما تشاء لهم فنية الموقف وشعرية البواعث مثلاً؟
وما أخلقني بأن أدير رؤوس القراء بالسير في هذه السراديب كما أدار الأستاذ رأسي!! أو كما أدارني عليه!؟ وأنا كفيل بأن أردهم إلى الصواب متى استقبل الأستاذ الصديق من أمره ما أستدبر. وفي حديثي عن الفضائل والرذائل والرجولة والأخلاق فضول تضمن للمعركة وقوداً ما تخبو جذوته. ولا تنفذ ذخيرته إن شاء الأستاذ أو شاء غيره.
وأحمد الله على أن لي في كل رأي آراء أو نظرة أرسلها، فضل الناقل، وحسنه المقتفي، فما تضيق بي وجوه الاحتجاج إن ضاقت بغيري في هذه السبل وإن كنت قلت ما لا يقوله الناس في بلادنا، فقد قلت الصحيح الذي يقوله الناس في غيرها، والذي تقوله طبائع النفوس وغرائزها وميولها ومذاهبها. ولهذه الجريدة أن تستبشر بالرواج والإقبال. فيدفع موقفي منها اليوم. أقلاماً حبيبة طال بها عهد الانصراف السائم عن هذا المجال إلى الظهور والحركة والنشاط. وللجريدة أن تغتبط بمحصول لا يجشمها من المشقة، ويكلفها من الأجر والعناء حتى تظهر الارتياح المتردد. أو كلمة الثناء المغتصبة.
* * *
يقول الأستاذ "فإن صح أن ما سقته مساق التدليل من صور فكرية ولغوية وطبيعية ليس من طبيعته الإقناع، فما أحسبني فاقداً سبيله أن سخرت بعض آراء الأستاذ "يعينني -في تأييد نظرتي إلى الصورة الجميلة، ويزعم أنه رمى بسهم فأصاب مقنعي".
أيريد الأستاذ أن يفهم القراء عنه أنه يحتج بنظرة العاشق على نظرة الباحث إلا أنه قياس من أفشل المقاييس، وأدلها عن الإصفاء وأخلقها بأن يبقى معه الأستاذ دائراً حيث خلفه القراء يدور في مقاله الأول.
أين هو مما سقته في ثلاثين صحيفة تدليلاً على صحة نظرتي إلى الجمال وعمقها وعلاقاتها الوثيقة بواقع النفس ومنطق الفكر؟؟
أكل غايته أن يكون الصراع بيننا أسلوباً جديداً في العد ويمتحن به الصبر والجلد، ويكون سلاحه الساق والقدم، لا النفس والفكر! على أنني -كرياضي قديم- جدير بأن أشبع رغبة الأستاذ، فأغشى معه هذا المجال بساقين نشيطين، وقدمين قويتين.
والشوط ليس بعيداً، إن لم يستهوه القفز وتخطي الحواجز، فما لي عليها طاقة بعد أن أراحني الله من إلحاح النزوات العارضة.
ظن الأستاذ أن الفكرة الفنية في قصيدتي "لم أهواك" قائمة على تجريد الجمال من معانيه، وتضعيف أثره في واقع الحياة والنفوس وهي قائمة على تقديس الجمال وفهمه، والتغني به، وراء أشكاله الملموسة. وسماته الظاهرة. وقائمة على الإعلاء من شأنه وعلى تخيل معاني الحب السامية وتحليلها واستكناه أسرارها العميقة.
والنظرة في القصيدة نظرة عاشق تسلط عليه فكره المولع بتعليل أسباب الحب وتلمس العلاقة بينه وبين الجمال، والرغبة الملحة في فهم مجهولاته الخفية، وليست نظرة أفكار وتجريد واستلاب.
وأنا لم أقارن في القصيدة بين جمال ما في الحياة، وجمال الإنسان ولم أقل إن جمال الحجر، والأرض، والحيوان، والنبات، أخفى معنى من الجمال الإنساني، إنما كنت أتلمس أسباب الحب وبواعثه. أهي الحسن الظاهر الوضيء أم هي وقع الندى في النفس؟ أم هو الرواء الأخاذ؟ أم المعاني المعبرة أم الحس الرفاق المتوفز؟ أم الذكاء وقد يكون في المحبوب ضئيلاً؟ أم الفتون وقد لا يبل غليلاً؟ فإن كانت شيئاً من هذا. ففي البدر، والزهرة اليانعة وفي طلعة السماء البرزة، والأرض المجهودة ونأمة الطير المرسلة، ولفتة الظبي وفي همسة الجدول، وملتقى الزهور، صور حية يناجيك منها ألف وجه من كالح ووسيم، وفضاء لا يعرف الحد والقيد ولا وغزة الضني والسهوم، وهي في الأرض والسماء يتفشى هوى وينساب لمعاناً.
فالجمال هنا في نظر العاشق المفتون معنى وراء السمات والشكوك، معنى لا تحده النظرة، ولا تقيده الفكرة، إنما هو جمال مطلق شائع لا تكون الحياة بما فيها إلا لفظاً هو معناه.
وسر الحركة والسكون والنور والظلمة فيه فلا تكون دنيا عاشقة إذ غاب إلا دنيا سؤوم جم الكروب طليح، فإذا لاح أشرقت وتلقته بوجه طلق المحيا صبيح".
وهو بعد ذلك كله معنى النزاع بين النفس والفكر، لا يهتدي السائل عن حقيقته إلى غاية، ولا يظفر بجواب، وهو مجهول ما يتكشف عن معنى من معانيه، إلا ليغوص في لجة الغموض والخفاء. فلا جرم إن كان "جهاداً ضاقت به النفس ذرعاً وصعاباً موصولة بصعاب" ومجهولات من ورائها مجهولات، وأسباب تختفي فيها مسبباتها، فلا تكون أخيراً، إلا كما كانت أولاً، الجمال والحب.
والقصيدة بعد بوحدتها الموصولة الأجزاء دليل الاستغراق التام والوله العميق، يفتنه الحب والجمال، فالإنكار فيها تقرير، والنفي توكيد للإثبات فما فيها ما يصح أن يؤخذ دليلاً على تجريد الجمال من محاسنه ومعانيه.
وكان الأحرى بالأستاذ الأديب أن يسأل نفسه، أدامت لهذا الحب وقدته ولهذا الجمال معانيه؟ لتلقاه طبيعته لجواب الحق أو كان خليقاً بأن يسأل كيف يكون الجمال جمالاً وهو رمز النقص والفقدان والتحول على الزمن.
ثم كيف يخفق الجمال في فرض التحول على منطق العقل العنيد السافر فيفرضه على النفس المنتشية، والحس المفهوم، والقلب الغافل، فتتم له الغلبة بهذا الانقسام الذي هو مظهر سلطانه القاهر في حقيقة سلطانه القاهر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :513  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج