شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بين النقد والجمال (1)
(6)
كان خليقاً بأن يسأل هذه الأسئلة ليعرف كيف يكون الضعف لغة القوة القاهرة وسبيلها الممهودة. فخليق بذلك أن ينتهي به إلى الطمأنينة على الجمال في نفوس عشاقه وأسراه!!
وحقائق الشعر بعد صور تشكل بها خوالج النفوس الهائمة، وتلبس منها كل يوم ثوباً معاراً تحسبه ثوبها الأصيل. والشاعر العاشق يكون حبيبه في عينه أحسن الناس وأعطفهم في يوم إقباله ومواتاته، واختلافهم من الفتنة والعطف في يوم إدباره. كما يكون الحب يوماً في منطق العاشق نعمة الحياة وشعاعها الضاحك ويوماً نقمة الحياة وظلمتها المطبقة، أو كما تكون الدنيا في عين الناهل المأخوذ بمحاسنها في يومي إقبالها وإدبارها.
والحب في معناه هو الحب في معنى نفس العاشق وولهه، ونشاطه وفتوره، وأمله ويأسه وفرحته وترحته.
والجمال في ذاته ما هو؟ أهو تجاوب القسمات واتساق الملامح، واكتمال الانسجام، أم هو معان مكنونة تعبر عنها ظواهره البادية؟
إن الجمال جمال بما تولد النفوس من معانيه، ونقيس من مشابهه ونتخيل من دلائله وإشاراته لا بما يلقاها به من حدود وزخرف، وإنما هو جمال بما يثير فيها من بهجة ويطلق من أصداء ويحبو من حرية وخصب، فهل تبقى معانيه حية، وتأثيره دائماً على تغير القسمات والملامح وخصب وانطفاء لمستها البهيجة؟
وماذا يبقى من الجمال بعد انقضاء تأثيره في النفس وإثارة كوامنها غير أن يستسلم الزمن المتحول فينطوي فيه كما ينطوي كل شيء فيه، وغير أن يبقى بين أطواء النفس ذكرى، أو معنى، أو رمزاً أو مقياساً، تلقى به جمالاً يخلقه سلطانه الجديد.
أم يريد الأستاذ الصديق أن تبقى كل صورة جميلة صورة جميلة يحبسها الزمن الساحر في حدود لا تخطوها ويقف عندها جامداً ليس به حراك.
أترى ماذا كان يكون نصيب الجمال من فهمنا وتقديرنا وإثارة كوامن صبواتنا لو سكت نداء الحياة في بواطن نفوسنا!؟ أما كان يكون شيئاً لا يختلف عن بقية أشياء الوجود الشاخصة؟ بل ما كانت تكون الحياة كلها لولا هذا النداء.
وهكذا نرى نصيب النفوس في تخيل معاني الجمال وفهمها، يكون على قدر نصيبها من سعة الإدراك، ومدى الحس، ونشاط الشعور، وعمق التصور وامتداد مذاهب الخيال والتوليد!
وقد قلنا في مقال سابق "من يظن أن فرحة الأديب والشاعر والفيلسوف بالجدول والحقل، كفرحة الرجل العادي؟ ومن يرى أن شعور العاشق بأنباء الحياة ومعانيها ونسيمها الخافت حوله وفي نفسه، في حالات سروره وحزنه، وبأسه وشقائه، كشعور الخالي اللاهي؟"
ولو قلنا ما معنى الحياة في ذاتها، لم يكن الجواب إلا أنه الزمن والحركة والتغير والتحول، وإلا لكانت متحفاً جامداً لا فرق بين الصور القائمة فيه والصخور القائمة فيه.
فما دام الزمن يسير بكل شيء. فالحياة تتغير. وما دامت الحياة تتغير أفيكون غريباً أن تردد النفس الإنسانية صدى هذا التغيير؟ وأن تسير في هذا الموكب الحافل تقوده ولا تتبعه؟؟
وقد قلنا "إن الزمن لو كان ربيعاً كله لم يكن للربيع معنى جدته وسحره وروائه" فالجمال هكذا، لم يكن الجمال إلا لأنه المتعة السائحة تهفو إليها النفس وتقبل عليها في لهفة الشاعر باحتمال الفجيعة فيها، فهي تسابق الزمن بشعورها المبهم أو بفهمها الواضح المبين.
وقلنا: هل يسعنا أن نتصور في الحياة جمالاً غير مسؤوم أو جمالاً لا تصرفنا عنه صوارف الفهم والاكتفاء وإدمان الذوق والمصاحبة الطويلة؟؟
قلنا هذا وأشباهه، وكان من حقنا بل من حق منطق الفكر والجدل على الأستاذ الناقد أن لا تصرفه قصيدتنا "لم أهواك؟" عن الإجابة والتدليل وإطالة الوقوف والتأمل عند هذه المعاني السافرة التي تلبي نداء كل داع.
إن بعض النفوس الشاعرة تنفذ إلى ما وراء السطور وتحس أخفى معانيها وتسمع أخفت همساتها بحيث لا يعدو بعضها حدود الجمال وخطوطه الواضحة فإن كان طول الفرحة أو دوامها والعكوف على تقديس الجمال وتذوقه إلى ما لا نهاية مما يدخل في إمكان النفس الإنسانية أو مما يضمنه الجمال وتحققه طبيعة الحياة نقول: الأشكال المحسة لا خفت الهمسات خليقة بهذا الدوام لما يتوفر لها من مجالات واسعة متعددة ولما يتهيأ لها من أسباب المقدرة على التنويع والإطلاق والتولد، وكانت النفس المحدودة أثمن بانتهاء الرغبة وسآمة الملل والزهد في الدوام.
وما نرانا بمستطيعين أن ننكر أن النفس المحدودة قد تكون أقدر على الاجترار لأنها نفس موصدة نائمة لدواعي ما تكون فيها فترات الصحو والانتباه إلا نادرة، فشعورها بما حولها من جمال شعور راكد بليد، ما ينتهي تذوقها لمعنى من معانيه إلا وقد بدأت نومتها الثقيلة وركودها العميق.
وبهذا المقياس تكون الحياة في عين الحيوان السارح، هي الحياة ما يتغير فيها شيء عن معناه، ولا ينحرف عن سبيله، في ما تحسه أو تدركه أو ترتاح إليه! وهكذا هي في عين المجنون، وهكذا هي في حياة الإنسان إلى الأبد.
أيدري الصديق الأستاذ الأديب الناقد ما هي الصورة الجميلة التي يبقى لها معناها طويلاً على مر الزمن الممعن؟ هي ذكرى الجمال، وخيال حياته المطوية في النفس، أو في ملعب الحياة والرغبات التي زايلته.
فالجميل المفقود يبقى جميلاً في النفس ولا يفقد سماته وتأثيره ومزاياه الفاتنة لأن الزمن لم يعد جزءاً من حقيقته الزائلة، والمؤلم تبقى صورته المحزنة أو المثيرة أثراً تتردد به صور أشباهه وبواعثه.
وحتى هذا لا يكون للبقاء الطويل له في سريرة النفس معنى دوامه واستمراره. ولذلك كانت أسرار النفس وتجاربها المطوية، بحاجة إلى ما ينشرها ويحيي ذكرها ولذلك كان لسوانح الحياة والجمال والمسرة والحزن والسعادة والشقاء، أثرها في إحياء ماضي النفوس والأفكار وبعث ذكرياتها الدفينة!
وقد كانت لكل عاشق أو ناظر وقفة تطول أو تقصر فيها النظرة إلى صورة جميلة ظن أن الحياة خليقة بأن لا يتم معناها بدونها فما فتئ بعدها تنتقل بها الحياة في متحفها الحافل لم ينقص من معناها شيء ولكن يزيد.
وإذا كان الجمود والاحترار من طبيعة بعض النفوس الموصدة، فالسأم والتنقل من طبيعة النفوس المشبوبة، أو لعل أقدر النفوس على استصفاء معاني الجمال هي أحسها بفتنته وأوفاها له وأقدرها على تنويع معانيه واستنطاقها.
وأراني بحاجة إلى أن أردد ما قلته في فاتحة مقالي المتتابع: "ترى أية حقيقة من حقائق النفس أو متعة من متعات الحس، أو طوبى من طوبيات الخيال الخلاب، يبقى لها جمالها على الزمن، أو يفض الختام كل يوم عن جمالها ومعانيه جديدة أخاذة؟".
فلم يسمعني الأستاذ الصديق جوابه على هذا السؤال إنما ذهب يتلمس إصابة مقنعي كما قال -بما حسبه تجريداً للجمال في قصيدتي "لم أهواك؟".
* * *
وصفوة القلب أن الحياة لا تعرف الجمود وهي أقدر على الابتكار والارتجال وليس ما يدعونا إلى أن نسيء الظن بها، لحسنه بطبيعة الأستاذ التي تخشى أن يفجعها التجريد، والاعتراف بسآمة النفس والفكر في الصور الجميلة.
وما أدري أية ضرورة تدعو الأستاذ إلى تحتم دوام التأثير للصورة الجميلة وبقاء معانيها؟ أهو الخوف من إفلاس الحياة، أم هو ضيق أمداء الجمال ومذاهبه فيها؟ أم عجزها عن الارتجال والإنتاج؟ أم الشعور بأن ما يفوت في الحياة هو خير ما يمكن فيها؟ أم وقفة اقتضاها الوفاء لصورة جميلة؟
للأستاذ العقاد كلمة لعلها تسهل لصديقي الناقد هضم فكرة طال بنا الطواف حولها وهي إن كانت تشير إلى غير ما نحن فيه لحرية بأن تهون عليه مبدأ الانطلاق بالنفس والفكر من أثر هذا الوفاء. قال "ليس أسأم العقل والنفس ولا أبطل لعملهما من حصر كل شيء في صورته وحبس كل شيء في ظاهره فإن الحقيقة التي لا جدال فيها أن العقل المطلق لا يرى وجهاً ما لتحتيم صورة من الصور من غيرها ولا يمنع أن تظهر الحياة -أي معانيها- في ألوف من الأشكال المختلفة غير أشكال الآدميين والأحياء المألوفة" فهذه نظرة إطلاق وحرية، تكره التحتيم والجمود. وأرى أنه لو كان الأستاذ عريف يعني بالصورة الجميلة المثل الأعلى لجمال الوجه، لكان في وسع الزمن أن يفجعه في تأثير معانيه بعد أن تطول الصحبة بينهما وبعد أن يستكنه كل معانيه وأسراره ويحولها إلى نفسه وفكره.
ألا وإن لكل جمال رسالة قصيرة كرسالة الربيع الطلق فهل يضمن لها الدوام منطق الأستاذ ومزاجه الوفي الصادق، كما ضمن القدر للسماء أن تبقى قائمة وللشمس أن تكون في كل مطلع وكل مغيب لها، هي الشمس التي يفصل بينها وبين الزمن اطراد العادة، وعمر الإنسان القصير، ربما تسنى لنا الوفاق لو استطاع الأستاذ الصديق أن يدلنا على حقيقة من حقائق النفس الإنسانية، أو من حقائق الحياة الماثلة، أو المتخيلة، أو من صور الجمال التي لا تمتد إليها يد السآمة ولا يتحول بها إدمان التذوق والاستصفاء، في فكر العاشق أو الشاعر أو الأديب أو الفيلسوف أو الإنسان الحي!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :605  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 41 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثاني - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج