شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ الدكتور فاروق بن محمود حمادة))
اللهم إنا نحمدك فأنت أهل الحمد، ونثني عليك الخير كله، حمداً وثناءً يليقان بجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلي وأسلم على خيرتك من خلقك إمام الهدى وسيد الورى، محمد بن عبد الله وعلى آله الأبرار وصحابته الأخيار، ومن سار على دربهم ما توالى الليل والنهار.
أما بعد، أيها الأحبة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما كنت أعتقد في نفسي يوماً ما أن أجلس هذا المجلس الكريم، وأحظى بهذا الشرف العظيم، الذي توالى عليه سادة نجب، رواد مبدعون، أثروا حياة الأمة بعطاءاتهم، وأثروا فيها بسديد آرائهم وهديهم، وإني بعد الحمد والثناء برب الأرض والسماء، لأجزي الشكر والتقدير، وصالح الدعاء لصدر هذا المجلس المهيب، وتاجه الألمعي الأريب، معالي الأخ الشيخ عبد المقصود خوجه، الذي أحسن بي الظن، ووشحني هذا التشريف الكبير، وضمني إلى سلك النخبة الأجلة الفضلاء، وأحاطني بسابغ أريحيته ونبله، فجزاه الله عني خير الجزاء، وأفاض عليه في الدنيا القبول والنعماء، هذا وإني لسعيد بذلك، لأن هذا المجلس الأغر، مجلس الاثنينية، مجلس المجالس الفكرية العربية، ونادي النوادي العلمية الثقافية، وملتقى مبدعي الأمة ومفكريها، وهداتها وروادها؛ فالأمة كلها حاضرة فيه، لأنه ضم جميع التوجهات والتخصصات، ونوه بكل الكفاءات والعبقريات، وسما بها فوق الجزئيات لتدرك أنها تمتح من معين واحد، وتروم هدفاً نبيلاً واحداً، فهي كل لا يتجزأ ورباط لا ينفصل، وهذا المعنى قد قاربت الأمة الوصول إليه، ولما تصل بعد، فهي الآن على ضفافه، فلله أنت معالي الشيخ عبد المقصود، قبس من الحكمة، وتوفيق من الله، لاستشراف الآفاق وبعد النظر، وإني لأرى من حولي وجوهاً كريمة، يعكس أثرها على النفس الصفاء، وعلى الفكر الإشعاع والعطاء، وعلى البدن الهمة والمضاء، وهذا ما يدعوني إلى حديث موجز عن تجربة محدودة، أثمرت رؤية قد يفيد منها بعض الناس، في جانب من جوانب الحياة، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لها القبول فتؤثر في النفوس والعقول، وأقول متحدثاً بنعمة الله، وأنا العاجز الفاني.
أيها الإخوة الكرام، في دراستي الابتدائية -وكان ذلك في قدر الله، كان ذلك في الكتاب مسطوراً- هيئ لي أن أجمع بين الدراسة التقليدية والعصرية، فكنت ملزماً بالحضور في المدرسة الرسمية الابتدائية، لم يكن في أيامنا رياض أطفال، كانت المدرسة الابتدائية يدخلها أبناء السابعة أو نحوها، فكنت ملزماً بحضور المدرسة الابتدائية، وعندما ينتهي الدوام كنت ملزماً بالحضور في الكتاب القرآني، وكثير من أمثالي لهم ذكريات مع شيخ الكتاب، رحم الله ذلك الزمان، وأثاب مشايخ الكتاتيب.. ثم انتقلت للمرحلة الإعدادية في المدرسة الرسمية، والثانوية كذلك، لكن تحولاً حصل في حياتي، وذلك أنني ذقت حلاوة المعرفة، فأقبلت على قراءة الكتب، إقبالاً كان يلفت الأساتذة والمشرفين على المكتبة، وكنت في ذلك الوقت أقرأ كتب الأدب، وكتب الشعر.. المعلقات حفظت ما حفظت منها، والشعر القديم حفظت ما حفظت منه. وتلك المرحلة الثانوية قد أثرت في حياتي أشد تأثير، فكنت أجلس بين يدي العلماء -وخاصة العلامة الكبير الشيخ محمد علي مشعل، حفظه الله ورعاه- مواظباً على حضور حلقاته في الزاوية، وفي النهار وقت الدراسة، أحضر الدروس في المدرسة، في الإعدادي والثانوي حتى تخرجت في الثانوية، ثم التحقت بالجامعة، وكانت الاختيارات أمامي مفتوحة، إذ كان معدل العلامات يحدد الالتحاق بالجامعة، فاخترت كلية الشريعة بإرادة ورغبة لم يوافقني عليها سوى اثنين من عائلتي: والدي وجدي، رحمهما الله تعالى، لأن الزمان في الستينات كان زمن إدبار عن الشريعة، ثم انتقلت إلى الجامعة بهذا التخصص، ولم أكتفِ، بل كنت أحضر عند العلماء في حلقاتهم، بتعدد مشاربهم، وتعدد اختصاصاتهم، فكانت نفسي تائقة إلى المعرفة، وما كنت أسمع كلام بعضهم لبعض، بل كان هدفي أن أتلقى المعرفة والعلم، وأحب مشايخي وأقدرهم، ولا أزال على هذا العهد، رحم الله من مضى منهم، وحفظ من بقي. ثم هذه المحطة الأولى انتهت عندما نلت الإجازة أو البكالوريوس في الشريعة الإسلامية، وانتقلت إلى محطة أخرى دخلت من خلالها الحياة العملية، والتحقت بالماجستير، وبدأت حياتي الحقيقية بالفعل، عندما استدعاني جلالة الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه وأنا في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين لأكون محاضراً أمامه مع كبار علماء العالم الإسلامي، فكانت نقلة متميزة في حياتي، وقد شجعني على إثر ذلك تشجيعاً كبيراً، وأُعجب بما ألقيته.. وكان يرى قبل ذلك أحاديث لي في التلفزيون، مرة بعد مرة، وكانت ارتجالاً، وكانت لحيتي سوداء، وكنت لا أزال شاباً صغيراً في مقتبل العمر، ولعل هذا هو الذي دعاه إلى استدعائي، أو كلف من يستدعيني للمشاركة في إلقاء الدروس في حضرته، فرحمة الله عليه، شجعني كثيراً على المضي في طريق العلم، ولم أكن قد حصلت على الماجستير بعد، فمضيت في هذا الطريق بتشجيع من جلالة الملك الذي أمر بتعييني في الحال في الوظيفة التي أريد، فاخترت التعليم لدى وزارة التعليم، رغم أن الاختيارات كانت متعددة أمامي. هنا بدأت مرحلة أخرى، ألا وهي حياتي العلمية، وقد استمرت هذه المحطة من 1974م (وكنت قبلها أدرّس في مدرسة حرة)، إلى 2008م، عندما استدعيت من طرف سمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، لأكون مستشاراً له في ديوانه رعاه الله، وألح عليّ في هذا، جزاه الله كل خير، وأدركت أنه رجل دولة كبير، فقبلت طبعاً، وكان عملي الأعمال العلمية، وهنا بدأت مرحلة أخرى لاسيما بعد أن تقاعدت من عملي في الإدارة المغربية، حيث أمضيت في التعليم الجامعي خمسة وثلاثين عاماً. أنا الآن في المحطة الأخيرة، أسأل الله عز وجل أن يختم لنا بالحسنى وبالخير.. بالعودة إلى المحطة العلمية، فقد دخلت الجامعة سنة 1976م كأستاذ، دخلت الدرس فعلاً، وبفضل من الله سبحانه وتعالى كانت حياتي -حيث كنت، ولا أزال ضنيناً بالوقت- مقسمة أربعة أنحاء: الأولى لدروسي ومحاضراتي وما يتعلق بها، والثانية لأبحاثي ومؤلفاتي وما يتصل بذلك من مكتبة وكتب، والناحية الثالثة للأعمال الاجتماعية، إذ كنت أرى ضرورة الانغماس والسعي فيها، أما الناحية الرابعة وهي أقلها فقد خصصتها لأسرتي وأولادي، الذين كانوا يكبرون بين يدي يوماً بعد يوم، وما كنت خارج الدراسة لأسلمهم لأحد، بل كنت أسهر عليهم بنفسي، حتى إني كنت أحفظهم القرآن بنفسي.
انطلقت بالدراسة العليا منذ 1984م، فكنت مسؤولاً إدارياً عن الدراسات العليا كما سمعتم وأستاذاً كذلك، وقد تخرج بفضل الله من عندي نحو مئة أستاذ من حملة شهادة الدكتوراه كنت أشرف عليهم، وآخرين ناقشتهم كثيراً، وفي الماجستير تقريباً ضعف هذا العدد وهم من بلاد شتى.. النقطة التي أريد أن أنبه إخواني معشر الشباب والباحثين في هذا الأمر، إليها، كنت أراها في غاية من الأهمية، وتأكدت لي أهميتها اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأنني كنت أتوقع ذلك؛ فاعتباراً من العام 1986م، لم أعد أدرّس في البكالوريوس، بل اقتصرت على الماجستير وتكوين طلبة الدكتوراه، وقد مرّ عليّ عدد هائل من الطلاب كنت في غالب الوقت أنتقيهم بنفسي، وهذا الانتقاء لم يكن لتوجه دون آخر، بل مر علي جميع الأصناف؛ منهم السلفي، ومنهم الصوفي، ومنهم من له نزعة سياسية، ومنهم من له نزعة علمية بحتة... مر علي كل الأصناف، لكن هاجساً واحداً كان يشغلني: أن يكون لدى من يدرس عندي رغبة أكيدة في العلم، وخدمة المعرفة. هذا هو الذي كان يدعوني لانتقاء الطلبة، وأضع هذا في حسابي أولاً، فكنت أحدّ من غلواء هذا أثناء الدروس، وأرفع همة هذا الصنف، وألفت نظر ذلك الصنف إلى واقع الحياة ليرتبط بها، وأذكر الآخر بمسؤوليتي تجاه المعرفة. كنت أريد أن أصنع منهجاً وسطاً يلتقي عليه الجميع، ألا وهو حب العلم وخدمة الشريعة، بل وخدمة الإنسانية، لذا فإن كل هذه الأطياف التي مرت علي، كنت ولا أزال أرتبط بهم جميعاً والحمد لله، على تعدد مشاربهم واختلاف دولهم، من ماليزيا حتى أمريكا مروراً بالعالم الإسلامي، كان هاجسي وهدفي أن نخدم العلم والمعرفة، ولهذا فإن البحث الذي أشار أخي العلامة الدكتور أبو سليمان إليه: "منهج البحث في الدراسات الإسلامية"، وقد أهديته إلى المتبتلين في محاريب العلم والمعرفة، لأنني أريد هذا الصنف، وتأكد لدي أن هذا الصنف هو ما تحتاجه الحياة، فكنت أحترم كل هذه التيارات، ولي مع كل واحد من مريديها قصة وخبر، وحديث وأثر، والحمد لله فنحن لا يجمعنا إلا الحب والوفاء بالجملة، هذه هي النقطة التي تستحق أن أقف معكم عندها، أذكر بهذا الأمر أن حب المعرفة كان هاجسي، أن أبرزه للطلبة، وقد أثمر هذا أننا كنا في الجامعة المغربية نخبة الباحثين الجامعيين، في دائرة علمية تتابع الأبحاث والدراسات التي تجد في المجتمع، وأسميناها دائرة الرباط العلمية للبحث في الدراسات الإسلامية، اخترت لها النابهين ممن مروا حولي في الجامعة المغربية، وأثمرت هذه الدائرة أن عدداً منهم، وأؤكد لكم وهذا أمر يوثق علي، هم الآن نجوم المغرب في العلم، لأنني بقيت معهم خمسة عشر عاماً نتعلم معاً المنهج، والبحث والدراسة، وحوار الأفكار، وناقشنا كثيراً من قضايا الحياة العلمية والاجتماعية، وأثمرت هذه الدائرة بعد ذلك مجلة شاهدة علينا اسمها "بصائر الرباط"، وكانت بإلحاح منهم، لكي تأخذ هذه المجلة بعض أبحاثهم وتنشر آراءهم وأفكارهم، وقد صدرت منها عدة أعداد، ولهذا لم تكن في يوم من الأيام محل اعتراض من أحد، بل كانت والحمد لله محل التقدير والاهتمام. الأمر الثاني في حياتي العلمية، أنه كانت هناك محاضرات كثيرة جداً عليّ أن ألقيها، وخطب جمعة، كنت خطيباً رسمياً كذلك، ثم بعد ذلك طلبت مني الإذاعة المغربية أن أنجز لهم برنامجاً، ولعله البرنامج المتميز الذي بقي يكرر ويعاد لسنوات، بعد أن أوقفت التسجيل، ثم أوقف البرنامج آخر 2009م، ريثما يعاد النظر، ويعيدون كما أخبروني بث حلقاته التي سجلت، وما هذا بعد فضل الله، إلا لحرصي على أن تكون الكلمة هادية من دون أي شيء آخر. الجانب الآخر الذي يمكن أن أذكر به، أن هذه المؤلفات التي تفضل إخواني صاحب هذه الاثنينية، والعلامة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وأخي الشريف عبد الله فراج وأتوا على ذكرها، لم تُكتب والحمد لله عن إرادة إطلاقاً، بل كانت توفيقاً من الله تبارك وتعالى، لكني أستطيع أن ألخصها وهذا ما يهم الباحثين في قسمين: قسم مؤلفات، وعددها نحو اثنين وعشرين مؤلفاً؛ وقسم محققات. أما ما يتعلق بالتحقيق، فكنت أختار الأصول، أصول المعرفة الإسلامية، وهذه وتلك جلها في السنّة، لكن هذه السنّة التي منّ الله علي بالانتساب إلى حظيرتها، أربطها كلها بواقع الحياة؛ فالكتب التي أحققها كانت من الكتب الأصول التي هي أسس لا يستغنى عنها، وكانت مصادر عبر العصور في دراسات السنة، أما المؤلفة، فكانت صدى للواقع الذي نعيشه. كنت في وقت من الأوقات أتساءل: لماذا أنا دخلت كلية الحقوق، ودرست في كلية الحقوق وأنا متخرج من الشريعة؟ ودخلت كذلك ودرست في كلية التربية وعلم النفس؟ لماذا كل هذا؟ أقول إذا بقيت أجيب عن نفسي، وتدور الأفكار في خلدي، لو أني كنت مقتصراً على صناعة الأسانيد، والمتون، والتصحيح والتضعيف، لو بقيت على هذا، سيكون ارتباطي بواقع الحياة محدوداً، لكني وسعت هذه الدائرة، لأربط هذه السنّة بواقع الحياة، وها بفضل الله تعالى قد كان، فكانت أكثر مؤلفاتي صدى للواقع الثقافي الذي نعيشه، ويفرض نفسه علي مرة بعد مرة، فهي متنوعة لكنها صدى للواقع، لكل كتاب موقع في مرحلة ما من مراحل حياتنا الثقافية التي عشتها، وقد عشت مراحل متعددة، موجات من الثقافة: الموجة القومية، الموجة الاشتراكية، الموجة الرأسمالية، موجة العولمة، موجة الدعوة إلى الإسلام الشمولي.. خمس موجات فكرية على الأقل عشتها في حياتي الشخصية، وتعاملت مع مؤلفاتها، ومع كتبها، ومع مؤلفيها، وقرأت لهم، واطلعت على ما يقولون بشتى تصنيفاتهم وآرائهم، وأفكارهم، فكانت هذه الكتب مستندة فعلاً إلى القرآن، ومربوطة بالقرآن والسنة، لكنها صدى للواقع الثقافي الذي كنا نمر فيه ولا زلنا نمر فيه. أعتقد أن أكثر كتبي رواجاً كما أشار إخواني جزاهم الله عني كل خير، هو "مصادر السيرة النبوية"، والحق أن هذا الكتاب قد وُلدت شرارته الأولى أو ومضته الأولى في رحاب المدينة المنورة عندما دعيت كضيف للدولة سنة 1979م، ونزلت ضيفاً على النادي الأدبي بالمدينة المنورة، وطلبوا مني محاضرة عامة يحضرها الأساتذة والمثقفون والباحثون، فخلوت بنفسي في الفندق، وكان اسمه حسبما أظن فندق الفتح، وكان مقابلاً للحرم، فخلوت بنفسي، وقلت: أنا أخدم العلم الشريف، وأخدم السنة النبوية، فماذا سأحدث إخواني؟ ففتح الله علي بومضة هذا الكتاب، وألقيته محاضرة مرتجلة، ولما عدت إلى المغرب، كان الكتاب جاهزاً خلال عام، وأنجزت طبعاته الأولى إلى عام 1400هـ. وأقول تحدثاً بنعمة الله كما أشار لذلك إخواني، أنه لم يكتب أحد كتاباً في السيرة النبوية بعد صدور هذا الكتاب، إلا وتأثر به، واقتبس منه واهتدى به، لكن الذي أريد أن أضيفه، أن المشروع الذي وضعته فيه لمّا ينضج بعد، ولهذا أحث الباحثين الشباب، وأطلب من الباحثين الجادين أن ينظروا إلى مشروع هذا الكتاب؛ إن الإسلام اليوم -أؤكد لكم- قد أصبح مطلب الدنيا. لقد هوجم الإسلام قديماً وحواجز الهجوم على الإسلام لا تزال قائمة؛ فالإسلام لم يهاجم من خلال التفاسير ولم يهاجم من خلال الأسانيد إلا القليل، لم يهاجم من خلال العقائد إلا قليلاً، هوجم الإسلام من خلال حياة محمد عليه الصلاة والسلام، فكانوا يضعون حياة محمد حاجزاً بين الإسلام وبين الشعوب، ونحن نريد اليوم أن تكون حياة محمد عليه الصلاة والسلام، نبراساً للإنسانية، ضمن مشروع وضعته في كتابي "مصادر السيرة النبوية"، ولم يكتمل بعد. وهناك الكتاب الآخر الذي أذكر الباحثين به، لضرورته وحاجته، ألا وهو "كتاب الإقناع في مسائل الإجماع"؛ فما يجمع الأمة أكثر بكثير مما يفرقها، وقد تعددت الآن الفتوى ومشاكلها، والجنح عليها، والحيف عليها، والزيف بها، لكن هناك قضايا لا يمكن تخطيها مطلقاً، ألا وهي الإجماع، فكان هذا الكتاب، وقد بلغت فيه مسائل الإجماع نحو عشرة آلاف مسألة، أما بحسب الترقيم الذي وضعته بخطوط عريضة فقد بلغت أكثر من أربعة آلاف، ولو شققت ووزعت كل مسألة على حدة، لجاءت أكثر من عشرة آلاف، وهذا ما قرره الأقدمون كالإمام ابن سريج. فعلى هذا نجد أن ما يجمع الأمة وما تتفق عليه في مذاهبها كثير جداً، وهذا لا يمكن لأحد أن يتخطاه، فكان هذا الكتاب لفظ الاجتماع ودليله من القرآن، ودليله من السنة، محرر تحريراً بالغاً، من دون اعتداء على أحد، ومن دون إساءة إلى أحد، ما أراه صحيحاً أصححه، ولو خالفني الناس فيه، وما أراه ضعيفاً أضعفه، ويتضمن الكتاب كذلك رؤية العلماء للآيات وتفسيرهم لها. هذا كتاب الأمة اليوم، بكل أسف لم ينتشر كثيراً، لأنني من طبيعتي لا أعرّف بكتبي، حتى إني أعلنها اليوم.. عدد كبير من الباحثين الدارسين الذين مروا، كانوا يطلبون مني أن يعرّفوا بكتبي ويكتبوا عنها مقالات، فكنت أقول لهم دعونا من هذا، ما كان لله يستمر وينتشر، وما كان لغير ذلك ولو عرفت به الدنيا، سيطوى، والدليل على ذلك فكر المعتزلة؛ المعتزلة حكموا العالم الإسلامي سنين طويلة، أين فكرهم اليوم؟ لولا أن الربانيين من أهل السنة نقلوا بعض فكرهم، لما بقي لهم أي شيء. فكانت لدي قناعة بهذا، إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن ينشر كتاباً سينشره، إذا أراد أن ينشر فكرة سينشرها. كان بعضهم بإلحاح أحياناً يعرّف بعض الكتب هكذا، لكن دون إرادة مني، ودون رغبة، والله يعلم، ولعل بعضهم يسمع ما أقول، ويدرك أن ما أقول قد مر علي. هذا في ما يتعلق بالجانب العلمي. أما الجانب الاجتماعي والجمعيات، فإنني أحمد الله أنني رعيت جمعية لخدمة القرآن الكريم. هذه الجمعية بدأت من لا شيء، حتى إنني لما طلب مني شراء أرض بمبلغ كبير، احترت ماذا أصنع، لكن اعتقاداً وثقة مني بأن بيت الله يجب أن يكمل، فقد تعرفت بأعيان مدينة القنيطرة في المغرب، وقلت لهم موعدنا غداً بعد صلاة العصر، تأتون عندي وتشربون كأساً من الشاي. لم يعرفوا لمَ سيأتون، ولبوا الدعوة جزاهم الله خيراً -وأكثرهم لا يزال حياً يرزق، وجاءني في ذلك اليوم على غير موعد، أخي الدكتور أحمد الريسوني، فرأى الناس يتقاطرون علي فقلت له عندنا أمر ما، وجلس في الغرفة المقابلة، لأنه جاءني لأمر آخر، فعندما اجتمعوا، استأذنته، وقلت لهم: نحن نريد تأسيس جمعية لخدمة القرآن الكريم، ونحتاج مبلغاً من المال قدره كذا وكذا. فما كان من الناس إلا أن أخرجوا ما في جعبتهم، فمنهم من أخرج شيكاً، ومنهم من أخرج نقداً، ومنهم من قال: يا فلان سجل اسمي أنا أتكفل بكذا وكذا.. وفي ساعة واحدة جمعت ضعف المبلغ المطلوب، فالتفتّ إلى أحد الحاضرين، وقلت له: يا فلان، تولَّ أنت جمع هذا المال لأنني لا بيدي أمس مالاً غير مالي، وستكون مؤتمناً عليه تحت إشرافي. وهكذا بدأت الجمعية، وإذ بهذه الجمعية اليوم تحتضن مئات النساء، إضافة إلى المئات اللواتي تخرجن منها حافظات والحمد لله، إضافة إلى مئات الأطفال، وتمتلك هذه الجمعية اليوم خمسة مقرات كبيرة بفضل الله تعالى.. لا أريد أن أتحدث عن هذا الجانب، لكني أريد أن أنظر معكم في دقائق معدودات إلى المستقبل.. إخواني الكرام بعد هذا العمر، أسأل الله أن يختم لي ولكم وللمسلمين جميعاً بالحسنى وبصالح العمل.. لقد خلصت إلى نتائج، هي خلاصة العمر من عملي في الجامعة: نقول إن العالم اليوم يتغير؛ العالم يتغير اقتصادياً، وأنتم ترونه.. يتغير فكرياً، حقوق الإنسان، الديمقراطية، حقوق الطفل، حقوق المرأة.. هذه واجهة لخلفية أخرى من ورائها عالم فكرياً يتغير، سياسياً يتغير، من الناحية الدينية يتغير، السنون العشر القادمة ستكون حاسمة، كما كانت السنوات العشر الماضية مؤثرة. السنوات العشرون هذه من 2000 إلى 2020 ستكون حاسمة في تاريخ البشرية. لقد تأملت طويلاً في ماهية الشيء الذي يؤثر في تغيير البشر، ومستقبل البشر، فما وجدت شيئاً مؤثراً أعظم من العلم، بشهادة جميع الأديان والألوان، والثقافات، وقد قرأت هذا للغربيين والشرقيين، والمسلمين. إن المعرفة هي التي تغير وجه العالم وتجعله حسناً أو قبيحاً، وتجعل مستقبله منيراً أو مظلماً. إلا أننا نعيش اليوم في العالم الإسلامي مشاكل علمية؛ فالجامعات قد هبط مستواها وأقول هذا بشهادة الدنيا، وكنت قد كتبت بحثاً مطولاً حول هذا الموضوع منذ سنوات وأثار علي ما أثار من البعض، لكنهم عادوا عن كلامهم، وقالوا فلان يقول الحق. إن مراكز العلم والمعرفة تغير وجه العالم، والجامعات هبط مستواها، وروح العلم والجامعات هي الدراسات الإسلامية والشرعية، فإذاً نحن الآن بين فريقين: فريق يريد الحفاظ على ما نحن فيه، ويعتز بالانتماء إلى المدرسة التقليدية؛ وفريق يريد الانسلاخ.. لكن نحن الآن مطلوب منا أخذ زمام المبادرة في الجامعات، وأن ننتقل إلى جامعات واسمحوا لي بهذا التعبير -لا نريد فتح دكاكين تعطي شهادات قد تكون بأثمان غالية، وقد تكون رخيصة، وهذا أصبح منتشراً. نريد الآن في الدراسات الإسلامية، صناعة جامعات تقود البشرية، تتوفر فيها الثلاثية التالية: طالب متفوق، وأستاذ راسخ، ومنهج لا ينظر إلى الماضي، الماضي المحدود، بل يرى المستقبل ويطل على الواقع، وهذا طبعاً يحتاج إلى جهود، لأن التغيرات في حياة الأمم لا تكون سريعة، ولا تكون سهلة، ولهذا ترى الصعود الحضاري الآن والهبوط، وترى ضحاياه كثيرة. نريد الآن نموذجاً جديداً للدراسات الإسلامية والشرعية يجمع هذه الثلاثية، وهذه الثلاثية كما قلت يحتاج تحقيقها إلى أساتذة مبرزين في شيئين اثنين: في العلم وفي السلوك، مع ضرورة الجمع بينهما على غرار الأقدمين، وأضيف إليهما شيئاً ثالثاً، ألا وهو التخصص. إن حضارتنا في القرون الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس للهجرة قامت على علماء ومتخصصين، فيما أمتنا اليوم لا تفرق بين الواعظ، والأكاديمي الباحث، وبين المحدث، والمفسر، ولا تفرق بين اللغوي والمؤرخ، وتجمعهم كلهم في ميدان واحد. فتعال يا حضرة المؤرخ، ويا حضرة الأديب والشاعر، وتكلم للناس وللدنيا عن الإسلام. نحن لا نستهين بالناس أبداً، نحترم جميع التخصصات، لكن إذا ما ضبط الإنسان في غير فنه وتخصصه، كما قال علماؤنا، وأتى بالعجائب، فنحن اليوم في ميدان المعرفة نخبط خبطاً، طبعاً هذا كلام عام مجمل له استثناءات، نتكلم في العموميات، نريد أساتذة ومبرزين في السلوك، وراسخين في العلم، وكذلك متعمقين في التخصص، هذا الذي يحتاجه اليوم العالم العربي، والعالم الإسلامي، وتحتاجه الإنسانية.. أقول لكم لأنه خلال رحلتي السنة الماضية لأمريكا، زرت عدداً من الجامعات، والتقيت مع كبار العقول التي قدموها لنا، بل إنهم عرفوني ببعضهم، ممن لهم مساس كبير بالعالم الإسلامي، والمناهج العلمية والجامعات الإسلامية كذلك، فوجدت أن الغرب والجامعات الغربية، مثلها مثل الجامعات الإسلامية، تحتاج الدراسات الإسلامية فيها إلى شيء جديد، إلى شيء أساسي اليوم، لغة عالمية في عالمنا العربي، كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وعندهم تحتاج إلى اللغة العربية، لأنها عن الإسلام، الذي لا ينفصل عن العربية. إذاً هناك يحتاجون إلى العربية، ونحن في عالمنا نحتاج إلى اللغة العالمية، وتكوين هذا لا يكفي لسنة أو سنتين، نحتاج إلى تكوين جيل من المرحلة الثانوية، بمناهج معينة، بلغة إضافية، ليكون له المستقبل. أذكر حينما دخلنا كلية الشريعة في الستينيات دخلناها على استحياء، وسرنا فيها، وعشنا فيها بمشقة وعناء، وتخرجنا منها والحمد لله وهاماتنا مرفوعة شماء. والبشرية اليوم تنظر إلينا، وتطلب منا الرفد والعطاء، فما نريده أن يجدد حملة الشريعة مناهجهم، ويجددوا معارفهم، وأعتقد أن هذه الإطلالة سوف تفتح الأفق، ويدعم هذا أن تكون في الجامعات في غربها وشرقها، مراكز متخصصة في القرآن الكريم، وتكون هناك مراكز متخصصة في السنة، ومراكز متخصصة في الفقه، ومراكز متخصصة في الأصول، ومراكز متخصصة في التاريخ الإسلامي، وفي مقدمته السيرة النبوية، يشرف عليها متخصصون ينشرون أبحاثهم أكاديمياً.
إخواني نحن اليوم نعاني من مزج حاصل لدينا؛ إذ لم نعد نفرق بين الجامعة والجامع. فالجامع بيت الله نعتز أن ندخله، ونشرف بدخوله لأنه منسوب إلى الله، لكن العلم في الجامع لعامة الناس، وهو غير التعليم في الجامعة، لأن الجامعة لها مستوى أكاديمي، فيما الجامع وعظي. ومن الأسباب التي سطحت المعرفة الإسلامية اليوم، أننا خلطنا بين الجامعة والجامع -وأحذر الشباب الصاعد الناهض من هذا الأمر الخطير- فكثير من الشباب الجامعي يطمح لأن يكون واعظاً في المسجد، فدرس الجامعة الأكاديمي الذي يجب أن يناقش فيه دقائق المعرفة في عليائها وقمتها، وينير الآفاق، ويستنبط فيها، يأتي ليحوله إلى درس وعظي في المسجد، ويسمع الأميين قصصاً، ونكاتاً، وطرفاً.. وهذا ما أساء إلى التعليم الإسلامي المعاصر إساءة بالغة، حيث إننا لم نميز بين حاجة الجامع، وحاجة الجامعة، وهذا من الأمور الخطيرة التي ينبغي أن نتنبّه لها ونسعى إلى وضع كل واحد في مكانه.. فلماذا هذه الظاهرة؟ طبعاً هناك أسباب نفسية، أسباب اجتماعية، أسباب فكرية، ولهذا قد نتج عنها أشياء كثيرة نعاني الآن منها، وما قضية الفتاوى وتسريبها إلا جزئية من الجزئيات التي نتجت عن خلط الجامعة بالجامع.
أستطيع في ختام هذه الدقائق التي أتيح لي الكلام فيها، أن أقول إن الأمم إذا كان حالها لا يتغير إلا بالعلم والمعرفة، فالمعرفة الإنسانية اليوم في مأزق، أما العلم الشرعي فليس في مأزق، بل المأزق في أصحابه، أي أصحاب العلم الشرعي في مأزق، والعلم الكوني في مأزق اليوم، العلوم التطبيقية أمامها مأزق أخلاقي، كذلك العلوم التطبيقية الزراعية (الجينيتيك)، والطب فيما هو بصدده، وإلى آخره.. إذاً العلوم التطبيقية في مأزق أخلاقي، والعلوم النظرية في مأزق مرجعي، لأنها لم تحقق الغرض منها في عالم الواقع كونها تفتقد إلى المرجعية، فإلامَ يُسند الفلاسفة الحق والواجب في يومنا هذا؟ لم يجدوا شيئاً يسندوهما إليه. كذلك القانون والتجارة، ليس لهما مرجعية يستندان إليها.. العلم الشرعي اليوم هو العلم الوحيد الذي ليس أمامه مأزق يصادفه أو سد في الطريق يمانعه، بل إن الطرقات اليوم مفتوحة لأصحاب العلم الشرعي. ما أريده من هؤلاء الدارسين هو الاهتمام بالاجتهاد، فأصبح ضرورة، لكن الاجتهاد يتطلب إيجاد مجتهدين، وهذا يرتبط بالظاهرة الاجتماعية، وفي تقديري يحتاج إلى زمن.. الآن وفي جميع مرافق الحياة، الشريعة مطلوبة، وكذلك المعرفة سوق، إذا حملت إليها نوعاً من التخصصات وأنفقت فيها، أقبل الناس عليها. إن الشريعة اليوم، تحتاج إلى ثلاثة أجيال لإيجاد مجتهدين، وليبدأ بالأخطاء التي مرت على أصحاب الدراسات الشرعية، إذ تعمد الجامعات في مرحلة البكالوريوس وفي أنحاء العالم الإسلامي من المغرب حتى ماليزيا، إلى خلط المذاهب كلها بعضها ببعض، فيقرأ طالب الدراسات الشرعية المذهب المالكي مع المذهب الشافعي مع المذهب الحنفي مع المذاهب المندثرة، ومع المذاهب التي لا أصل لها، وسموها مذاهب، ولا تستند إلى قاعدة علمية، فمزجوا كل هذه المذاهب مع بعضها البعض، وهذا ما أورث مشاغبين، ولم يعط علماء. نحن بحاجة إلى إيجاد مجتهدين، البشرية تبحث عنهم وتطلبهم، وليكن ذلك خلال ثلاثة أجيال، ستين إلى مئة عام.. نحن مطلوب منا أن ندرس في المستوى الأول المذهب الواحد، أصولاً وفروعاً، فإذا ما رسخ طالب العلم في المذهب الواحد، وعرف التطرف في مذهبه، والمذاهب الإسلامية السنية كلها تقوم على أصول، وعلى أدلة، فيها القاسم المشترك الأعظم الذي يجمع الكل عليه، وإذا ما سلكنا هذا الطريق، سيأتي بعد ذلك الحوار، الذي يسمى عندنا علماء المغرب الخلاف العالي، والخلاف العالي هذا لنخبة العلماء المؤهلين للاجتهاد، ولهذا أرى من الضرورة الملحة أن نعمل على هذا، ويكفيني أنني طرحت هذه الأفكار لكي يحملها إخواني الشباب ومن لهم غيرة على الدين، والمعرفة. ولعل المعركة العلمية القادمة ستكون سريعة وحاسمة، وإن أمثال هذا المجلس الكريم، لهو خطوة عظيمة في طريق العلم، يقدم للأمة ولعقلائها وفضلائها العناية بالأفكار النيرة، فأسأل الله تبارك وتعالى، أن يجعل حسنات هذا المجلس، حسنات ناميات في صحائف القبول لمن كان السبب في لقائنا هذا، وصحائف من ساعده، وأيده وعضده، وكما قال الشاعر الحكيم المتنبي: "فإن الخوافي قوة للقوادم".. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا المجلس دائماً ممتداً للخير، وأن يجمعنا مع الحبيب المصطفى في عرفات الجنان يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً، وسددنا وأيدنا يا الله، ووفقنا لما تحبه وترضاه، من القول والعمل، والشكر لراعي هذا المجلس، ولدرته وتاجه أولاً وأخيراً، ولأخي العلامة الكبير، الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وللإخوة الفضلاء النبلاء الذين آنسوني في هذه الليلة، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
راعي الحفل: شكراً جزيلاً، فضيلة الدكتور فاروق حمادة، على هذه التجربة الثرية، التي لا شك أن هذا الجمع، وفيهم المربون وفيهم القيادات الفكرية، سيستفيدون من كل هذه التجارب العملية. السادة الأفاضل، ينتقل الميكروفون والمداخلة لحضرات السيدات، لنسمع ما لديهن من أسئلة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :542  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 82 من 199
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج