شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((الحوار مع المحتفى به))
الأستاذة نازك الإمام: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم. أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، السيدات والسادة، الحضور الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: 28)، يشرفنا الليلة عالم موسوعي، يعتبر بحق موسوعة علمية تمشي على قدمين. جمع بين العقل والنقل في تفسيراته، وتحليلاته.. طلابه الذين أشرف عليهم في رسائل الماجستير والدكتوراه، يملأون الأرض علماً، بصماته واضحة، ومؤلفاته متعددة في شتى فروع المعارف والعلوم الإسلامية. لديه همة لا تفتر، وعزيمة لا تضجر، حتى صدق فيه قول القائل:
متوقر منه الزمان وربما
كان الزمان لآخرين بريدا
كيف لا وهو يتعامل مع أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. أشرقت شمسه، وعلا نجمه في السماء بين كبار العلماء المتخصصين، عشنا مع فضيلته ليلة إيمانية دينية برؤية عصرية، قرب إلينا ما غاب عنا، ووضح لنا ما لا نعرفه.. إنه فضيلة الشيخ الدكتور فاروق حمادة، المستشار بديوان سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بالإمارات العربية المتحدة، وأستاذ السنة وعلومها، فأهلاً ومرحباً به معنا في هذه الليلة وفي هذه الاثنينية، ونبدأ في طرح الأسئلة.
الإعلامية منى مراد: السلام عليكم فضيلة الدكتور فاروق حماده، تسأل:
لقد قامت اللجنة المنظمة لجائزة دبي للقرآن الكريم الدولية بمشروعها الرائد، بطباعة وتوزيع الكتب التي تتناول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. ما رأيكم في ذلك، وهل من المفيد أن يدرس هذا الإعجاز في المدارس حتى يستشعر الناشئة عظمة القرآن والسنة؟ وشكراً.
الدكتور فاروق حمادة: الأخت السائلة لا شك في أن القرآن الكريم معجز، لا خلاف في هذه المسألة، لأن النص القرآني والتحدي قائم به، لكن علماء الإسلام عبر العصور كانوا يتلمسون مواطن الإعجاز كما تعلمون، ولا شك كذلك في أن القرآن الكريم يساير العصور، بل هو المهيمن على معرفة العصور، وعلى الكون في حقائقه، ونواميسه، وقوانينه بالقطع واليقين، لا يتعارض مع كتاب الله المنصور، مع القرآن الكريم.. لا يتعارض إطلاقاً، فإذا ما جاء بعض العلماء والتمسوا منه بعض القضايا العلمية: كقضايا الطب، والزراعة، وقضايا البحار والماء، وقضايا البيئة، وكانت قطعية، وأصبحت مسلمات متفقاً عليها، وحاولوا مقارنتها بالقرآن الكريم، فإن هذا لا يضر القرآن في شيء، لأنه كلفظ محفوظ، وعطاؤه لا ينقطع، متجدد في كل صباح وفي كل مساء.. هذا يقوي بعض الناس من الناحية الإيمانية، ويقوي لفت النظر إلى القرآن الكريم من قبل غير المسلمين، هذا مفيد، وقد لا يحتاج بعض الناس، كمثل السائل الذي قال: أنا عندي مئة دليل على وجود الله، فأجيب: إذاً عندك مئة شك. بعض الناس لا يحتاجون إلى الإعجاز، وبعضهم يحتاج إليه، والأمة خضم واسع، والبشرية خضم واسع، لها أذواق مختلفة، ولها رغبات في المعرفة متعددة، ولهذا فإن تعددية المعرفة هذه من قدرة الله تبارك وتعالى، كذلك تعدد اللغات، تعدد الألوان، تعدد الأحجام والأشكال، تعدد الرغبة في المعارف؛ بعضهم يرغب في الدراسات الفلسفية، بعضهم في الدراسات الأدبية، بعضهم في الطب، وهذا من قدرة الله تبارك وتعالى في خلقه، وحكمته في خلقه. فما سبيل هذا الإعجاز؟ فمن مال إليه واستند إلى مسلمات علمية قطعية فلا حرج في ذلك، أما إذا كان في إطار الظنيات، وأكد وحاول أنها ظنيات، فإن هذا لا يضر القرآن في شيء، أما أن تُعطى هذه الدراسات أولوية الآن في عصرنا، وأنها كل شيء، فأنا لست من أصحاب هذا الرأي، مع احترامي للرأي الآخر. فهذا لون جديد يوضع في إطار الخريطة المعرفية البشرية إن شاء الله.
العلامة محمد علي الصابوني يسأل:
الحمد لله، والصلاة والسلام على من بعثه رحمة للعالمين. فضيلة أخينا العزيز، الدكتور فاروق حمادة، لقد شرّقت بنا وغرّبت بعلمك الواسع، من دمشق إلى الرباط، إلى الحجاز، إلى دولة الإمارات، إلى غيرها من البلدان، ثم توسعت بنا بهذه المعلومات، فنحن اليوم كلنا تلامذة لك، وهذا شرف لنا أن نستقبل هذا الضيف الكريم، أنت الآن بحق شيخ مخضرم، جمعت بين علوم الشريعة، وعلوم الطبيعة، وبين شتى المعارف، والأمور. سؤالي لفضيلتكم: لقد ظهر في هذا العصر والزمان، جماعة جهلة، يزعمون أنهم عباقرة، جهابذة فطاحل في العلم، يقولون نكتفي بالقرآن الكريم، ولا حاجة لنا إلى السنة، فالقرآن وصل إلينا متواتراً مقطوعاً به، أما السنة فالأحاديث فيها ضعيفة، فلنهجر هذا ونكتفي بالقرآن الكريم. باعتبار دراستكم الواسعة في خدمة السنة النبوية المطهرة، أرجو أن تفيدونا لتوسعوا معالمنا ومداركنا حول هذا الموضوع، وجزاكم الله خير الجزاء.. وأختم بحديث شريف، رواه لنا الإمام البخاري في صحيحه: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، لكنه يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا . هذا عصرنا، ونحب أن تحدثنا كيف نرد على أولئك الجهلة الذين يقولون نكتفي بالقرآن؟
الدكتور فاروق حمادة: فضيلة العلامة الشيخ محمد الصابوني، جزاك الله خيراً على هذا السؤال المهم والدقيق. أولاً لا يخفى عليكم أن كل واحد يدعي أنه عبقري الزمان في جميع العصور، لكن قضية فصل القرآن الكريم عن السنة، فهذه شنشنة قديمة نعرفها من قدم، فهي ليست جديدة، وليست حديثة، وبكل أسف فإن الشبهات والاعتراضات على السنة نفسها تتكرر، ويا ليت المعاصرين الذين يأتون بهذا يأتون بشيء جديد، بل يأخذون كلام الأقدمين ويعيدونه بحرفيته، مع التلوين في العبارة فقط. أما واقع السنة النبوية، فهي ممتزجة بالأمة امتزاج الدم بالجسد، لا يمكن فصل السنة عن حياة الأمة، ويبقى هؤلاء هامشاً بسيطاً يذكرون علماء الأمة بمسؤولياتهم، فينهضون للدفاع عن السنة، وهذا الذي كان. ثقوا تماماً، أنه لولا أن قام المستشرقون في أوائل القرن الماضي، بل في منتصف القرن التاسع عشر (1860م)، وبدأوا يلقون الشبه على المسلمين في الهند حول السنة النبوية، لما وجدنا هذا التألق وهذا السمو في السنة النبوية في عصرنا اليوم؛ في دراساتها، في الأبحاث التي أقيمت حولها، في طبع مصادرها، في المؤسسات والمراكز التي ترعاها، في الجامعات التي تجعل كراسي خاصة لها. فلا بد أن يتناوش الخير والشر عبر العصور، ليعرف الخير ما عنده، فيهب للحفاظ على مسيرته، ولتقويم الثاني.. هؤلاء لا نتشاءم منهم، لكنهم يذكروننا بواجبنا نحو السنة، ويذكرون علماء الأمة، والأمة كلها، بواجبها نحو السنة، فيهبون للدفاع، ويجددون السنة في حياتهم، ويجددون الحضور النبوي المصطفوي في مشاعر الأمة وفكرها، وحياتها.
الطالبة آلاء عبد المجيد الزهراء، طالبة جامعية. بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سؤالي للضيف الكريم:
كيف يمكننا أن نصل إلى مرحلة التعايش والتفاهم والتعاون بين المسلمين وأصحاب الديانات المختلفة؟
الدكتور فاروق حمادة: كثر الحديث عن حوار الأديان، وانفتاح الأديان، بالنسبة لنا نحن معشر المسلمين، لم يكن تاريخ الإسلام منذ العهد النبوي تاريخ صدام، بل إن مجتمع المسلمين كان يقطن فيه اليهود والنصارى، وقد شرع علماء الإسلام أخذ الجزية من مجوس كانوا يعيشون بينهم كذلك، فلم ينقطع التعايش بين المسلمين، وبين غيرهم من الأديان يوماً واحداً، والذي وضع أساس هذا التعايش هو سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد عاينت هذه المسألة في كتاب مطبوع ومنشور أسميته: "العلاقات الإسلامية -النصرانية في العهد النبوي"، وآيات القرآن الكريم واضحة، فالتأصيل النظري موجود في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وحياة النبي عليه الصلاة والسلام في السيرة النبوية، وكامتداد عبر العصور، كانوا دائماً موجودين، سنعيش معهم، وعشنا معهم سابقاً، لا حرج في هذا التعايش فهو موجود، والسلام والأمن بيننا موجود، لا حرج في هذا إطلاقاً. أما هذه النغمة التي نسمعها، فالإسلام منها بريء، والمسلمون كذلك، بل إنه مر معي في تاريخ المسلمين، أن كثيراً ما كان غير المسلمين يتعرضون لحيف وجنف، فكان المسلمون يهبون لحمايتهم ونجدتهم، والحفاظ عليهم، وعلى أموالهم وممتلكاتهم.. لهذا أقول نحن نعتز بهذا ونرفع رأسنا عالياً، حتى إن المفكرين الغربيين أنفسهم قد نظروا إلى هذه المسألة وفي جملتهم كانوا منصفين، ورأوا أن اليهود قد عاشوا في كنف المسلمين أسعد أيامهم، وأحلى أيامهم. وأذكر هنا بقضية في غاية الخطورة، فقد كان كبير أحبار اليهود موسى بن ميمون، يدرّس في المدرسة اليهودية، وقد وضع كتباً كانت تتناول في حلقات الدرس الإسلام، منها كتابه "دلالة الحائرين" وهو كتاب مطبوع. لقد تلقى موسى بن ميمون العلم على يد علماء الإسلام في الأندلس، وكتابه "دلالة الحائرين"، هو كتاب في التوحيد يشترك مع علماء العقيدة الإسلامية في قسط كبير منه، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على هذا التعايش والقبول، وهو أمر لا أظن أن فيه بالنسبة إلينا أي إشكال، لكني أريد منا نحن -معشر المسلمين- وعلى الخصوص أهل الفكر وأرباب الفكر، وأرباب القلم، أن نطرح هذه القضية على غيرنا: كيف يمكن أن نتعايش اليوم على أسس جديدة، والبشرية كلها قد أصبحت أسرة واحدة؟ إلى يومنا هذا لم توضع الأسس الصحيحة بعد، ولهذا تعاني البشرية ما تعانيه في أديانها، واختلاف مواطنها، فالأصول الشرعية لدينا موجودة والتطبيق موجود، يبقى أن ندعو الناس إليها: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (آل عمران: 64). هذه دعوتنا جميعنا، وهذا تعايشنا، وهذا الذي نريده، وهكذا يكون مستقبل البشرية إن شاء الله، يعم الأمن والأمان، وتنزل السكينة والطمأنينة إن شاء الله على القلوب، هذا ما نريد.
الأستاذ عادل المداح: الحقيقة فضيلة الدكتور أن الخلاف بين الشيعة والسنة قديم، لكنه يحتدّ في فترات..
مداخلة الشيخ عبد المقصود خوجه: يا أستاذ أنا أحجب السؤال لأننا لا نتكلم في المذاهب إطلاقاً. السؤال محجوب مع الشكر.
الأستاذة دينا أسعد، من القنصلية اللبنانية: بداية نرحب بالضيف الكريم، ونشكر صاحب هذا المنزل المضياف، ونسأل سعادتكم هذا السؤال:
نرجو أن يكون في كتبكم أو دراستكم، تبسيط التعليم الإسلامي لطلاب المدارس، وجمعه في كتاب واحد وموحد، وشكراً.
الدكتور فاروق حمادة: هذه الأخت الفاضلة تسأل تبسيط التعليم الإسلامي.. طبعاً التعليم الإسلامي ليس مستوى واحداً، إن التعليم في أي نوع من أنواع المعرفة درجات، فإذا بسطنا جميع الدرجات فإن المعرفة لا تتقدم، ولهذا يكون في مرحلة من مراحله بسيطاً، ثم يرتقي ليكون أشد، ثم يرتقي ليكون أعقد، لكن المطلوب من الباحثين في الدراسات الإسلامية، أن يلبوا رغبات جميع المستويات، وخصوصاً عامة الناس والناشئة، وذلك بتوفير كتاب لكل تخصص، مثلاً كتاب في السيرة النبوية، كتاب في الفقه الإسلامي، كتاب في تفسير القرآن الكريم، كتاب في الحديث النبوي الشريف، أي أن يوفروا وييسروا كتباً تناسب الأعمار كلها، على أن تقرّ هذه الكتب أكاديميات عليا تضبط المعرفة، وهنا حقيقة يكمن القصور؛ فالأكاديمية الفرنسية على سبيل المثال، لا بد أن تطلع على جميع الكتب تعليم اللغة، وتجيزها، فتقول هذا معتمد من قبل الأكاديمية الفرنسية ويصلح للتعليم. هكذا تفعل الأمم التي تريد أن تأخذ قضية التعليم، مأخذ الجد. فنتمنى لو كانت لدينا هناك أكاديميات، أو مراكز بحث محل ثقة، تبسط لكافة الناس غير المختصين، وحتى للمختصين، وتكون هذه الكتب معتمدة من قبل هذه الأكاديميات، لتحصل بها الثقة، ولتكون فعلاً تلبي الرغبة، وبهذا تطوي الأمة سراباً. الأمة الآن، المسلمون الآن، الأوطان الآن، أجيالها الصاعدة، تخب في سراب، وقد قرأت لأكثر من كاتب، ولأكثر من غيور، وهذا قد عشته كذلك بنفسي، وعاشه إخواني معي، وكنا نتحدث في الأمر: إذا أردنا أن نقدم هذا العلم، كيف نقدمه للناس صحيحاً، سليماً مركزاً، بعدة درجات، بعضها فوق بعض، لننتقل من هذه الفوضى، هذه هي المسائل الملحة المستعجلة.. أنا أحيي الأخت التي طرحت هذا السؤال، لأنه فعلاً مسؤولية الباحثين. لقد رأيت بعض الكتب في عدد من التخصصات الإسلامية تصدر لكن بها بعض الشوائب، لا نقول ليس فيها فائدة، فلا يخلو كتاب من فائدة، لكنها لو قوّمت تحت إشراف مختصين، لكان دورها أعظم، وتأثيرها أحسن، وللأمة وللناس أفيد، وهذا هو المطلوب، ولهذا إخواني، أؤكد لكم، أنني تأملت طويلاً، طويلاً، ووجدت أن قضية العلم والإيمان قضيتان الآن مستعجلتان، بل هما جوهر القضايا ويجب علينا جميعاً أن نقف أمامهما: قضية العلم، ثم قضية الإيمان؛ لأن العلم هو الذي يقود إلى الإيمان، الإمام الحارث المحاسي ترك كلمته المشهورة، التي كررها ورائه الإمام الغزالي، وكررها علماء الإسلام عبر العصور، قالوا: "طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله".. العلم هو الذي يقود إلى الإيمان، الإيمان بغير علم عجز، والعلم بغير إيمان تدمير، والبشرية عانت وتعاني اليوم من العجز والتدمير، العجز في جانب، والتدمير في جانب آخر، ولكي ننتقل من هذه الوهدة، لا بد أن نقف أمام جوهر القضايا، وأولها العلم. إن الناس اليوم ينفقون الملايين من الأموال في قضايا جانبية، محدودة الفائدة، لكن القضية الجوهرية: قضية المعرفة، ومعها قضية الإيمان.. ومن أراد أن يقدم قضية الإيمان له ذلك، لا نختلف، لكنها قضيتان متلازمتان، قضيتان مستعجلتان الآن يجب علينا أن نضعهما في إطارهما الصحيح، ونعطيهما ما يستحقان من أهمية بالغة.
الدكتور يوسف العارف، يسأل:
أستاذنا الكريم الخطاب الاستشراقي، وما كتبه المستشرقون عن السنة النبوية، ما هو دوره الحقيقي، إيجابياته وسلبياته؟ وشكراً.
الدكتور فاروق حمادة: الأخ الكريم، والإخوة الكرام، المستشرقون بدأوا منذ قرون، وقد أحصيت شخصياً ما أودعه المستشرق -الذي وضع نفسه في عداد المستشرقين- نجيب العقيقي، في كتابه المشهور والمتداول "المستشرقون"، وقرأت ما كتبه المستشرقون عن الإسلام، فوجدت أن النسبة العظمى قد كتبوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في السيرة النبوية، وقد لاحظت أن كتابات المستشرقين الأوائل -لأن العالم الإسلامي لم يكن له اتصال بالعالم الغربي- كانت مغرقة في الخيال، ثم بدأ هذا الخيال ينقص شيئاً فشيئاً، حتى بدأت تعتدل هذه الأيام، لأنهم بدأوا يحتكون بالعالم الإسلامي، وبالمصادر الإسلامية المعروفة الصحيحة والمتداولة، لأن المسلمين يعيشون بينهم، فلو كتبوا خيالات، لا المسلمون يقبلونها، ولا الأوروبيون يقبلونها، لأنهم بدأوا يعيشون مع المسلمين. إن ما كتبوه عن السنة النبوية، لا شك فيه أخطاء، ولا شك أنه لا يخلو من فائدة كذلك، فالآن ليس بالضرورة أن نضع هذا نصب أعيننا، وليس بالضرورة كذلك أن نتجاهله تجاهلاً تاماً. وكنت قد اقترحت في مناسبة سابقة -وأخي الشريف السيد عبد الله فراج كان حاضراً معنا في جميع ما اقترحت- أن يجمع كل أثير حول السنة النبوية من شبهات -سواء كان من المسلمين، أو كان من غير المسلمين ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي، أي العرب الذين لسانهم عربي، أو كان من المستشرقين- ويُصنَّف تصنيفاً علمياً، الأقدم فالأقدم، لنرى من هو فعلاً صاحب الشبهة ومن هو المكرر، فإذا ما جمعناها كلها تصل إلينا في كمية محدودة، فينبري لها أصحاب الاختصاص، فيردون عليها ردوداً علمية كاملة، تشفي وتكفي، كما صنع الإمام فخر الرازي عندما كان يأخذ أفكار المخالفين، ثم يكر عليها بالرد، وإن كان بعض الأحيان يضعف عن الرد، لكنه يأخذها بأمانة ويصنفها. نحن نحتاج في دراسات السنة الآن سواء كان الدارسون من المستشرقين، أو من المسلمين، أو المستعربين، أن تصنف الأقدم فالأقدم ثم تؤخذ فتدرس درساً علمياً، فما وجدنا فيه فائدة يعمّم، وما وجدنا فيه أخطاء يقوم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم، المطلوب أن يصنف كل ما أثير حول القرآن الكريم. وهنا أشير إلى مسألتين عمليتين في غاية الخطورة بالنسبة للسنة النبوية والقرآن الكريم: إن القرآن الكريم الآن يقارب مع الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل، وباعتبار أن التوراة والإنجيل ليست لهما أرضية صلبة يقفان عليها في التواتر والوصول إلى المصادر، فأولئك أخذوا من صار معهم، وبدأوا يشككون في الحلقات الأولى من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية كذلك، ولا زال للأسف يتردد، أن السنة لم تدون إلا في القرن الثالث، وهذا ينكره حتى صغار الدارسين للسنة، ويقولون إنه خطأ، لكننا محتاجون في هذه الحلقة الخطيرة -بالنسبة للقرآن الكريم، والسنة النبوية- إلى ثبوتهما من المصدر إلى التدوين في القرن الثالث الهجري، وذلك عبر التدوين المنهجي.. أرجو من الباحثين التركيز على هذه المرحلة، تركيزاً لا مزيد عليه، وبذلك ينتقلون إلى مرحلة أخرى، لأنني أرى التشكيك في هذا الظرف الذي نحن فيه حول ثبوت القرآن الكريم، أما بعد ثبوته إلى مصدره هل هو رباني أم لا، فتلك مسألة أقيمت عليها الأدلة، لكن الحلقة الأولى بين جبريل والنبي عليه السلام، وبين النبي والصحابة، وبين الصحابة والتدوين، هذه الحلقة القصيرة، تثار اليوم حولها الشكوك في مراكز في العالم الإسلامي والعربي، وفي هولندا، وفي أمريكا، وقد كان هذا محور نقاشي مع بعض الأساتذة في الجامعات الأمريكية، لكنهم لا يعرفون عن هذا الكثير، فمطلوب منا أن نبيّن هذه الحلقة بالنسبة للقرآن والسنّة بأشد ما نستطيع من الوضوح والصفاء، وأن نقدمها بجميع اللغات، فإذا ثبتت لنا مصدرية القرآن الكريم، وأنه لا انقطاع فيها، ولا زيادة ولا نقصان، فقولوا ما شئتم بعد ذلك، فأصول الإسلام ثابتة راسخة والحمد لله.
الأستاذ خالد المحاميد، يسأل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شيخنا الفاضل، أراك مهتماً بالعلاقة بين النظرية والتطبيق، وما نراه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هو انفصال بين النظرية الإسلامية لبناء الحياة في جميع مستوياتها، الأخلاقية والسياسية والاقتصادية، وبين ممارسات هذه المجتمعات على المستوى الواقعي. متى بدأ هذا الانفصال؟ وكيف؟ وكيف يمكن ردم الفجوة بين النظرية والسلوك؟ وشكراً.
الدكتور فاروق حمادة: جزاك الله خيراً أيها الأخ الكريم، واسمحوا لي أن أكون جريئاً نوعاً ما، لأنني لا أنظر إلى الماضي نظرة قدسية، بكل ما فيه. لقد مر على تاريخنا الإسلامي، وأقولها بكل غيرة، مراحل حالكة؛ فمسيرة المسلمين طوال أربعة عشر قرناً ليست كلها مضيئة قط، يعني فمثلاً عندما أقرأ في التاريخ، أن مجتهد قرنه، ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702هـ، يحمل حملاً، ويأتي بكيفية مهانة إلى كذا وكذا، ويدفع دفعاً، يعني أقول هذه المرحلة مظلمة.. وهناك قضايا كثيرة، اجتماعية وفكرية، ما أريد قوله، أن الانفصال حصل عبر مراحل طويلة، ولم يحصل خلال قرن واحد، الانفصال حصل عبر قرون ومراحل طويلة، لكن الإسلام بقوته، وبحفظ الله لأصوله: القرآن والسنة، كان دائماً حاضراً، كفكر وأصول وكمنطلق للاستنباط.. علماء المسلمين كانوا حاضرين دائماً، لكن تأثيرهم في الحياة كان مرة يضيق ومرة يتسع. إن هذه المسألة في غاية الأهمية، القرآن والسنة دائماً حاضران، كأصل وتأصيل، علماء الإسلام مرة يكثرون، ومرة يقلون، مرة يؤثرون، ومرة يضعف تأثيرهم، لكنهم حاضرون على الدوام. الآن في عصرنا هذا، يقولون إن علماء الإسلام لا يجتهدون، علماء الإسلام غائبون، بالله عليكم أعطوني مسألة تقع كل صباح في الدنيا، ولا يتكلم فيها علماء الإسلام! كل القضايا يتكلمون فيها، سواء أكانوا أحسنوا الكلام أم لم يحسنوه، وتلك مسألة أخرى. إذاً أستطيع القول إخواني أن الانفصال بين الإسلام بكليته، وبعض هذا الإسلام قد حصل عبر عصور، لكن الشيء المؤكد أن الإسلام لم ينزع بكليته عن الحياة الإسلامية، بكليته ما حصل أن نزع قط، بل هو حاضر في القلوب وفي الممارسة على مستوى الأفراد، أو نطاق ضيق، ولكنه حاضر مستمر، وهذا تؤكده النصوص، ومنها الحديث الشريف: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله، وهم على ذلك، لكن ترى فئة تدعو للخير، تنعم الأمة، وتعيش بهدوء، وتبدع، فالأمة لا تقدم إبداعات إلا عندما يسود الأمن، ولا يسود الأمن إلا عندما تسود العدالة، ولا تسود العدالة إلا عندما ينتشر العلم، وعندما ينتشر العلم، يضيء نور الإيمان، فعندئذ يحصل الإبداع، وشواهد التاريخ القريب والبعيد تؤكد لي هذا، والحديث في هذا طويل.
راعي الأمسية: شكراً جزيلاً فضيلة الدكتور، والآن ختام هذه الندوة من قسم السيدات، وختامها مسك.
الأخت غالية بانافع، تقول:
السلام عليكم، ما حكم التذبذب بين المذاهب الأربعة، والانتقاء من كل مذهب حسب الأهواء والأمزجة؟ وشكراً.
الدكتور فاروق حمادة: هذا الواقع على جميع مشايخ الدنيا، إذ يظهرون في الفضائيات، وفي الجامعات، وحتى في دروسهم، ويسألون سؤالاً، فيقولون: قال الإمام كذا، وقال الإمام كذا.. ويترك السائل حائراً، وينتقي السائل لا شعورياً ما يناسبه، وهذا من الخطر الكبير الذي حل بنا في هذا العصر.. حتى في الجامعات كما قلت قبل قليل، يدرسون المذاهب كلها، فأخرجنا نحن مشاغلين، ولم نخرج فقهاء راسخين، أو علماء ربانيين، فأصبح السائل ينتقي ما يريد، وما يناسبه، ويعلق قضيته، وهذه القضية لها ضوابط شرعية، المطلوب من كل مسلم أن يبحث عن حكم الله، عن مراد الله، فإذا اطمئن قلبه أن هذا مراد الله، سواء كان يناسبه، أو لا يناسبه، يطلب أن يعمل به، أما أن يبحث عن الأسهل، فلا؛ فالتيسير سمة الشريعة، صحيح، رفع الحرج سمة الشريعة صحيح، لكن ليس بهذا الإطلاق، وبدون ضابط، على الإطلاق، ولهذا أقول لهؤلاء الإخوان والأخوات، والمسلمين الذين يبحثون: لا بد لكم من الالتزام بضوابط الفقه والأصول التي وضعها علماء الإسلام، ولهذا قال الأقدمون: "إذا أخذت عن أهل المدينة إباحتهم الغناء، وإذا أخذت عن أهل الكوفة إباحة النبيذ، وإذا أخذت عن أهل الشام طاعة الخلفاء، وإذا أخذت عن أهل مكة المتعة، وجمعتهم كلهم، من هذا رخصة، ومن هذا رخصة، خرجت بلا دين، واجتمع فيك كل شر".. نسأل الله السلامة، نعوذ بالله من الشر، ونسأل الله عز وجل أن يسددنا على الطريق المستقيم، على الكتاب والسنة، وما قرره علماء الإسلام الأعلام بمناهج محددة، الأئمة الأعلام: مالك، الشافعي، أبو حنيفة، أحمد بن حنبل، الإمام الأوزاعي.. حتى قضية المذاهب المندثرة -سجلوها علي- إنها تسير الآن على غير هدى، وكان لعلمائنا الأقدمين موقف منها؛ من الذي قال بأن هذا مذهب الأوزاعي، تقول نقلها في الكتب، أقل لك تثبت لي من هذا النقل، واطمئن، لأننا وجدنا ضمن المذهب الواحد أشياء غير صحيحة تنقل، فما بالك عن مذاهب مندثرة؟ هذه المسألة توضع في إطارها الصحيح، وإلى ساعتي هذه علمي محدود. طبعاً لا أعلم أن أحداً قد وضعها في إطارها الصحيح، وعلمي محدود، أتمنى إن شاء الله أن تكون وضعت، لكن لا أعلم ذلك.. المذاهب المندثرة: الأوزاعي، الثوري، أبو ثور، ابن عيينة، محكول، هؤلاء أعلام كبار.. الطبري، داود الظاهري، هؤلاء لا بد من أن توضع قضيتهم في إطار علمي منهجي، وهذا عمل الأكاديميات، وإلى الآن لم تقم به على حد علمي، وفوق كل ذي علم عليم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :427  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 199
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج