شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(7)
فجر النبوة
كأنه بين عيني الآن..
ما أروع ما أرى!
ما أروع هذه الانطلاقة!
ما أروعها وهي تستصفيه صلوات الله وسلامه عليه، لتمعن به بعيداً عن زيف الحياة!
ما أروعها وهي تسمو به بعيداً عن مباذل قريش.. بعيداً عن ضلالها وعن ترهاتها وأوشابها!
ما أروعها وهي تحلق به في فضاء الله الواسع، وقد سجا الليل، ولمعت نجومه في وميض خافت لا يتبين فيه الطريق إلى حراء إلاّ بالكاد.
ها هو ذا.. وقد طواه الغار في إطراقة طويلة!! لم يطو إلاّ جسمه. أما روحه، وتأملاته التي لا تنتهي بنهاية، فقد انتقلت بعيداً عن الغار تعانق ما بين الأفق والأفق.
ترى فيم خلق كل هذا؟ وما حكمة صنعه؟ ترى أي سر يندلع في هذا الوهج الذي تشع به هذه الكواكب؟ وأي يد جبارة دحت هذه الغبراء، وبنت هذه السماء، ومدت بينهما في هذا الأفق الذي لا يتناهى؟
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ (آل عمران: 191).
هذه الانطلاقة في ملكوت الله الأعلى استصفته للحقائق العالية، وشغلته عن شهوات الحياة، وهدته إلى هدم عقائد أمته الضالة، وأعدته ليصنع من جديد تاريخ الحياة، بعد أن أضاء الإلهام ما بين جنبيه، وبدأت الرؤيا الصادقة تتبلج أمام ناظريه تبلج الشمس في عالية الضحى.
إذن ليبدأ خطوته الأولى، و ((ليصدع بما يؤمر ويعرض عن المشركين)).
وأي مشركين هم؟! لقد كانوا رغم نضج العقلية السائدة فيهم لا يحجرون على متعة، ولا ينكرون على مستبيح لذة.
كانت القيم الأخلاقية تزن الأشياء بمعايير خاصة. فليس من السمو الأخلاقي في مقاييسها أن تهادن في عصبية، أو تنحاز إلى غير قومك مهما كان ظلمهم، أو أن تنسى ثأرك مهما كان لونه، أو تسلم بقاعدة يكون الفخر فيها لغير بني أبيك.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما يؤمر في وسط يعتنق هذه المبادئ ويدين بها، كما يدين العابد بأقدس ما يعتقد، فلم يكن على النبي أن يقاوم ما عبدوا من أوثان أو نسكوا من منسك فقط، بل عليه أن يصمد لهذه القيم الأخلاقية التي تسود المجتمع حوله، والتي لا تستسيغ الوحدة تضيع فيها معالم القبلية.
أمر النبي أن يصدع بما يؤمر وهو رجل من بني هاشم. فأي دعوة هذه التي ينقاد لها بنو عبد مناف، وبنو زهرة، وبنو تميم، وبنو مخزوم، وبنو أسد، وسائر البطون من قريش، والفخوذ من كنانة، والقبائل من عدنان؟
إنها الاستهانة بكيان الأفخاذ وأمجادها في عرفهم وإنها الاستكانة لداعٍ سيحوز الفخر لبني هاشم دونهم!
فما بالهم لا يقاومون؟ ما بالهم لا يتكبرون على الدعوة، ويكابرون في الحق ضناً بكيان الفخذ وكرامة القبيلة؟ وما بالهم لا يجافون هذا الإعداد الذي يصهرهم غداً في بوتقة تنسيهم تراث آبائهم وتقضي على معالم كل ما ورثوا؟
لا تستغرب ما أقول.. وإذا بدا لك أن تتثبت، فالأمر لا يكلفك إلاّ أن تتبعني.
أترى هؤلاء المتجمهرين في فم شعب الهواشم؟ إنهم صفوة القوم من قريش يتهادى في طليعتهم عظيم مكة أبو سفيان.
أتسألني: فيما القوم؟
إنهم منذ الأمس في مرج عظيم، غصت دار الندوة بكبارهم، يبحثون الجلل، ويدرسون خطره الداهم، ويندبون في نهاية جلساتهم بعض صفوتهم، تحت إمرة أبي سفيان، ليتداركوا عند أبي طالب بعض ما أصابهم. دونك فانظر.. إنهم في هذا يتجمهرون في فم الشعب، فهلا تمض في ساقتهم، لعلّنا نتسقط بعض ما يدور.
أتسمع؟.. إنه صوت أبي سفيان: يا أبا طالب إن ابن أخيك سب آلهتنا فإما أن تكفه عنا، أو تخلّي بيننا وبينه.
ترى هل يكفه عنهم؟
لقد تسامعت قريش أن أبا طالب ردهم رداً جميلاً.. وأن أبا سفيان ما لبث أن أعاد الكرة في رهط من كبار قومه يستنجز الوعد: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا. وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا، لتكفه عنا أو ننازله، وإياك، حتى يهلك أحد الفريقين.
ترى هل نهاه عنهم؟
لقد تسامعت قريش أن أبا طالب مشى في نفر من أهله إلى بيت محمد صلى الله عليه وسلم، وقال له: ابن أخي ابق على نفسك وعليّ ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق!
قالها في نبرة معبرة ولهجة سافرة، ولكن محمداً عليه الصلاة والسلام، صانع التاريخ، لم يتلكأ ولم يدارِ، بل أرسلها قوية صارخة: ((والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته)).
قالها في حروف ناطقة وأسلوب صريح لا محل فيه للمواربة.
فما ملك العم الشيخ إلاّ أن جمع أطراف عباءته، وهو يشد على يده: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه.
وتمضي الأيام آخذة برقاب بعضها البعض، ويمضي معها محمد دائباً في دعوته كما تمضي قريش ممعنة في أذاه، حتى يقف به عتبة بن ربيعة، مندوباً من قريش، فيهيب بهذا الطود الشامخ: إنك منا يا ابن أخي حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً، لعلّك تقبل بعضها، إن كنت تريد تشريفاً سودناك علينا، فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.
أرأيت يا صاحبي كيف تساق العروض الهادئة، وكيف يوطأ لها بالفرش الوثير الناعم.
المال يا صاحبي.. زينة الحياة والجاه نهاية الرغائب فيها.
المال والجاه.. ما أكثر ما يبعث بهما همم، وما أكثر ما خفرت من أجلهما ذمم! وما أكثر ما نسبت في سبيلهما مبادئ، وضاعت بإغرائهما مذاهب وعقائد!
ولكن محمداً، رسول رب العالمين، يجيبه: ((دونك يا عتبة آيات من -التنزيل تحضرني الآن)).
ثم يتلو عليه سورة السجدة حتى نهايتها، فتأخذه روعة ما يسمع، ويترك فيه الإعجاز أفكاراً بالغة الأثر. فلا يلبث أن ينصرف إلى قومه، بغير ما توجه: أرى يا قوم أن تتركوا محمداً للعرب، فإن تغلبوا عليه استرحتم، وإن اتبعوه افتخرتم.
ألا تراها قولة حكيمة، ورأياً بالغ السداد؟ وأنه كان في مكنتهم أن -يتحاشوا الكثير، وأن يظفروا بما لا يحلمون.
* * *
أسمعك تسميه عناداً.. إيه يا صاحبي فهو عناد، وهو بعد العناد أو قبله إن شئت.. كفر وتضليل وحسد.
ما معنى أن يعترض الرسول الكريم علج من أعلاج البادية، فيسفي التراب على وجهه الشريف؟!
وما معنى أن يصادفه فدم من فساق العرب وهو يصلي، فيعمد إلى كرش يفرغ فرثه عليه في فظاعة لا تطاق؟!
أتحسبهم يرون أن قسوتهم ربما صرفته إلى طريقهم، أو فتت في عضده وقلت من عزيمته؟!
إن الحادثة التالية تنبئنا بم نجيب:
دخل مرة صلوات الله وسلامه عليه إلى مخدع فاطمة، ابنته، على أثر عدوان من هذا اللون المقيت. فما إن رأت فاطمة أثر العدوان على وجهه الشريف، حتى ذرفت دمعتها. فما زاد على أن ربت كتفها قائلاً: ((لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك))!
هذه نفوس كبيرة لا تقيس الكرامة بالمقاييس التي تعترض حياتنا العامة، وهذه أحاسيس لا يجرحها سفيه أو علج يعترضها، أو غوغاء يتألبون على أذاها. وهذا إخلاص من نوع خاص، لا يألم كما نألم في سبيل غاياتنا، ولا يثنيه ما يثنينا من مآربنا في الحياة.
أتدري؟
لقد مضت قريش أشد ما تكون عناداً، وأغلظ ما تستطيع قسوة، فلم يثنه كل ما فعلوا قيد شعرة عما أراد.
وقال قائل منهم ما يمنعنا أن نقاطعه وأصحابه فلا نخالطهم، ولا نؤاكلهم ولا نبايعهم، بل ولا نتحدث إليهم.
فعقدوا خناصرهم على هذا الرأي، وهم يرجون أن يدب اليأس فيهم فيتخاذلوا وما علموا أن للإيمان حصانة عديمة النظير.
عقدوا خناصرهم على ما رأوا واستوثقوا من أنفسهم بصك ضمنوه اتفاقهم، فانحاز محمد وأصحابه إلى أحد شعاب مكة يطوون أنفسهم على الحرمان والجوع، دون أن يبالوا بآلام ما انطووا عليه.
ظل محمد كما هو محمد، وظل أصحابه (أصحابه).. ليس منهم من لانت قناته، أو عجم عوده، أو تراخى تحت تأثير ما يقاسي.
وكان محمد مع هذا، ورغم هذا، ينسل من بين الفجاج الوعرة، كلما آذنت الأشهر الحرم إلى مواقف الحجيج، ليصرخ في روّاد مكة من حواشي الجزيرة قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: 108).
يا لجلال هذه العزيمة، ويا لقوة هذا الثبات النادر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :371  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج