شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(8)
عزم وثبات
أوعجبت أن يصمد محمد لكل ما حدثتك من ألوان الأذى؟ إذن فاسمع: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (الفرقان: 27-29).
ذلك هو عقبة ابن أبي معيط تبع النبي صلوات الله عليه وسلم فيما أمره به، فاستاء صديقه بن خلف، فحلف ألاّ يكلمه، فارتد عقبة، وشرع يؤذي النبي ليثبت أنه على دين آبائه، ويرضي فلاناً خليله.
وأحسبني لست في حاجة لأن أصور لك مبلغ الأذى وقد طالعتك نماذجه، لا ولست في حاجة لأن أحدثك عن مدى ما توسعت قريش في نطاقه، فأنت -ولا أشك- قد قرأت قصص أصحابه الضعفاء، وما نالهم من ألوان التعذيب في أساليب يشيب لهولها الولدان.
ألم يأتك الذين كانوا يجرجرون إلى البيوت ليجلدوا بالسياط حتى يغيب صوابهم؟
ألم يأتك نبأ الذين يصفّدون بالحديد ويعذّبون بالكيّ؟.
ألم يأتك نبأ المرأة التي جالدت تحت مطارق التعذيب حتى أسلمت لله روحها؟
ألم يأتك نبأ بلال وما قاساه من ثقل الصخر فوق صدره وما عاناه من جمارة القيظ في جسده العاري؟
ألم يأتك نبأ أبي بكر وما كان يحز في نفسه وهو يشهد تعذيب الموالي فلا يملك إلاّ أن يغري سادته بالمال ليشتريهم فيعتقهم؟
أولئك صفوة سمت أرواحهم وفنت حقائقهم في ملكوت أعلى مما نتخيل.
والآن.. هل لك أن أمضي وإياك لنتابع بعض مباذل قريش السفيهة.
ولعلّك تسألني إلى أين؟
سوف لا أكلفك عنتاً، فهذه دائرة الوليد بن المغيرة المخزومي على كتف هذه الثنية الصاعدة أمامنا إلى مطالع قعيقعان.
أترى هذا الجمع الحاشد من صناديد قريش يترجل على بابه؟!
إنهم ولا ريب في أمر جلل، فقد بات يقض مضاجعهم أمر محمد، وباتوا ولا حديث لهم إلاّ أن يبتّوا في شأنه بأمر حاسم، وإلاّ ضاعوا وضاعت آلهتهم.
لا، لا تتلكأ.. وهلمّ لنختلط بهم من حيث لا يشعرون، فدارة الوليد مفتوحة لكل طارئ، ومجلسه لا يفرق بين غريب أو قريب.
ما بالك تتردد.. هذه الأريكة الدنيا.. تعال نقتعدها، ودونك فاسمع ما يتحاورون:
- يا ابن المغيرة ما يمنعنا أن نذيع أن محمداً كاهن.
- لست أرى هذا فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.. أفلا ترى هذا يا كعب؟
- أرى ما تقوله حقاً، فدعونا نذع أن محمداً مجنون.
- لا.. ولا هذا، فقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنسه ولا سوسته. هات ما عندك يا أبا مودة.
- عندي أن نقول هو شاعر.
- لا.. ولا هذا، فقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، لا.. إنه ليس بشاعر. فما تقول أنت يا مناذر؟
- أرى أن نشيع أنه ساحر.
- مهيم.. ما هو والسحر؟ لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم.. وهل عندك ما تقوله يا حازم؟
- أرى أن أقرب القول ما قاله مناذر فأشيعوا أن ما يقوله هو السحر يفرق به بين المرء وأبيه وأمه وأخيه.
أرأيت يا صديقي كيف تحاك المؤامرات، وكيف تدس الدسائس ألا صدق الله فيما يقول، جلّ شأنه:
فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (الطور: 29-32).
نعم إنهم طاغون.. فهيا ولنغادرهم.
ولكن إلى أين؟
أحسبك ضقت بمكة، كما ضاق المبتلون بها من أصحاب النبي، فأنت لا تمر بسقيفة أو عرصة أو تدلف إلى سوق حتى تصادفك مآسي المعذبين من ضعفاء المؤمنين.
ومع هذا فليت الأمر يقتصر على مكة، فقد حدّث محدث أن رسول الرحمة عقد آماله بهداية ثقيف، فركب طريقه إليهم وهو يرجو النصر لدين الله، فلقي منهم أنكى مما لقي من مشركي مكة.
واستطاع سدنة (اللاّت) أن يستنفروا عبّادها ليتجمهروا ضده ويثيروا من الشتائم الشنيعة ما لا تطاق.
قال المحدث: وتضاعفت إساءات سفهائهم يوماً فتطاول جهلاؤهم وعبيدهم عليه بالسباب وأخذوا يرمونه بالحجارة والحصى، وصاح بهم صائح من أوباشهم: ((أما وجد الله من يرسله غيرك))؟.
ولم يجد مناصاً إلاّ أن يلجأ بحائط لعتبة بن ربيعة في المثناة، فعمد إلى ظل شجيرات فيه وراح يشكو حزنه إلى مولاه: ((اللَّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي))!!
أسمعت يا صاحبي.. إنه لا يبالي.. لا يبالي جوعاً، ولا يبالي أذى ولا -هواناً!! لا.. ولا يبالي ملء السموات والأرض خلقاً يتضافرون على كيده أو يجتمعون على حربه!!
هذه قلوب عامرة، وهذا إيمان لا يتذوق حلاوته إلاّ نذر من المصطفين الأخيار لا يبالي سوى غضب ربه، وهو رسوله وصفيه، وقد دان له كل ذي طول، واعترف به سيّد كل ذي حول في أكثر أقطار الأرض، ولو تمنى على ربه أن يطبق عليهم الجبال لفعل.
قال المحدث: وأشرف أبناء لربيعة من نافذتهم على الوقف، فأخذتهم الشفقة على ما يعاني، فأهابوا بغلامهم النصراني ((عداس)) أن يحمل إليه قطعاً من العنب.
ومضى ((عداس)) فيما أهابوا فما كاد يضع العنب على يديه، حتى استفتح رسول الله عند أول لقمة باسم الله.
وهال ((عداس)) ما سمع فما عهد من يقول هذا في كل من عرف من قبائل الطائف.
وتبين النبي دهشته فيما رأى من ملامحه، فسأله أن ينتسب. فقال: أنا نصراني من أهل نينوى.
قال النبي: تلك قرية الرجل الصالح ((يونس بن متّى)).
- وما يدريك ما يونس بن متى؟
- ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي!!
فترك هذا أثره في نفس ((عداس))، فلم يملك أن انكبَّ على النبي يقبل كتفيه ويديه.
وراع الأمر أبناء ربيعة فصاحوا بعداس أصبأت يا هذا؟ أم استطاع صرفك عن دينك؟
ولكن عداس كان أثبت من أن يأخذه الصياح، فظل ذكره حياً بحياة التاريخ.. وهذا أثره يعيش اليوم في ((المثناه)) شاخصاً في صورة مسجد يطلقون عليه مسجد عداس، بعد أن اندرس أسياد عداس، وأمّحى ذكرهم، ونسي الناس كل ما له علاقة بأمرهم.
وبعد، فهل ضاقت بك الطائف أم ضقت بها؟
لنستأنف إذن عودتنا إلى مكة، فقد توافرت أخبار القبائل عن أحداث جديدة بدأت تموج في بطحائها على أثر عودة النبي إليها.
لنبدأ إذن بالمسجد، نتنسم أخبار ما حدث قبل أن نستقبل بيوتنا.
انظر.. ماذا أرى؟ إنهم يتجمعون حلقات في ظل الكعبة. لا أحسبهم إلاّ في أمر جلل.. فتعال نستدرج أخانا البدوي هذا القادم إلينا.
- ما خطبهم يا أخا العرب؟ أنزلت بهم نازلة أم حاقت بهم حاقة، أم أوذوا في أوثانهم وأهينوا فيها؟
- أبداً.. فالأمر أيسر من هذا، لقد أسري بالنبي وعرج به إلى السماء، فما كاد أن يعود حتى شرع يصف لهم ما رآه في السموات. وزاد فدلّل على إسرائه بإبل.. رآها في طريق عودته. وقال إنها ستصبح من الغداة في مكة. رغم أنها أصبحت، فبرهنت على صدق دعواه، أبى أبو جهل إلاّ أن يجعل من الأمر أحدوثة، وأن يجمع القوم تلو القوم ليسخر بما سمع!!
وها قد مضت أيام، وهم يعيشون في هذا المرج بين مكذب ومصدق.. ألا ساء ما يفعل الظالمون!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :414  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.