شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(6)
ألا تمشي؟
لا.. لا يهولك هذا الغبار المنعقد فليس لنا به من شأن.. وإذا بدا لك إلاّ أن تكشف عن قصته فدونك هذه الربوة.. إنها تطل على سوق الحزورة حيث تتشابك الدروب لتنحدر في جادة واحدة إلى مساقط المسفلة.
أترى؟ إنهم نفر من آل صيفي يتواثبون في فم الدرب الذي أفضى بنا يوم أمس إلى باعة الأصنام..
إنها دون شك حميَّة الجاهلية ربما أثارتها قينة من فتيات صقلية أو بنات الروم، فهن كثيرات في مداخل هذه الدروب المتفرعة من سوق الحزورة.. ربما عشق الرجل من آل صيفي ذات دل منهن، فتأبى حميته إلاّ أن يمنعها عن غيره.
وتستطيع الآن أن تفهم.. فهذا النفر من بني عبد العزى يتجمهرون أمامك تحت سقيفة الحناطين في العدوة الأخرى من السوق، لعلّ بعضهم حاول مغازلة الفتاة، فثار غريمها من آل صيفي، وثار لثورته من قومه هذا النفر الذي تشهد، كما ثار من بني عبد العزى لصاحبهم من ترى، فاحتدم الجدال واشتبك القتال الذي انعقد غباره قبل أن ينفض. وأحسب أنه ما انفض إلاّ ليستأنف من جديد، بدليل هذه الحركات الهستيرية التي تشهدها بين العدوتين على حواشي السوق.
ألم أقل لك قبل اليوم إنه مجتمع محلول؟ وإنه رغم مميزاته الحضارية كان ينتظر من ينقذه من ترهاته ومباذله.
وسألتني قبل اليوم عن قصة هذا الدرب (درب باعة الأصنام) في تجاهل من يعرف أن قصّاد ((مكة)) وحجاجها من سائر الأطراف في بوادي العرب كانوا لا يودعونها قبل أن يتزودوا من أصنام هذا الدرب بجملة، ينصبون بعضها في بيوتهم ليتوجهوا بعبادتهم إليها، أو يهدون منها إلى من يبرونهم بعبادتها من ذوي قرابتهم وأهليهم.
لك أن تضحك من كل هذه المهازل، على ألاّ تنسى موقف النبي -صلوات الله عليه- من أباطيلها. لقد آلمه ما يرى فأحس إحساساً صادقاً أنه مسئول عن القضاء عليها. وكان لا يملك من دنياه إلاّ إيمانه، وإلاّ إحساسه بأنه مختار لأعمال هذا الإنقاذ.
هو ذا على صخيرات أبي قبيس في مدارج الصفا: ((يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تميم، يا بني مخزوم، يا بني أسد، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين)).
كانت صيحة، ولكنها صيحة من لا يملك إلاّ أن ينذر نفسه لها، لقد تقاذفته السخرية يومها، وتنادته الأصوات المغرضة، وأهاب به أبو لهب من جوف الوادي: ((ألهذا جمعتنا؟!)) تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (المسد: 1-2).
ترى هل يفت في عضده مثل هذا الصدى العاتي؟! لا، فهو أكبر من هذا وأرفع.
ثمة فرق بين أن تبز أقرانك وتبدو عظيماً في أمتك وبين أن تطبع هؤلاء الأقران بطابعك وتصنع أمتك من جديد، فأنت في الأولى عظيم في التاريخ، وأنت في الثانية صانع للتاريخ.
وعظماء التاريخ حفل التاريخ بهم، واحتشدت بسيرهم فصوله المطولة، أما صانعو التاريخ فأولئك هم الندرة التي يجود بها الدهر في مئات الأجيال ولا يظفر بهم التاريخ إلاّ مرة بعد ملايين من فصوله.
وسيدنا العظيم، الذي غضب لترهات مرت بك في مكة، كان صانعاً للتاريخ، بل وأكثر من صانع إذا شئت، فهو لم يطبع جيلاً واحداً، ولم ينشئ أمة واحدة، ولم يصبغ قلمه قارئاً واحداً في خارطة العالم. إنه طبع دهوراً بكاملها، دهوراً انطوت فيها أجيال، وستنطوي فيها أجيال وأجيال، ولا يزال لطابعه جدته، كما لو لم تمض عليه إلاّ ساعة من نهار.
وأنه أنشأ على سطح الأرض أمماً لا تحصى ألوانها، ولا تعد لغاتها ولا تستقصى أبعاد مساحتها، وأنشأهم إنشاءً جديداً أفنى فيه كل ما ورثوا من أديان، وما عرفوا من عادات وأخلاق ولغات.
وإن قلمه مضى على ثلثي خارطة العالم في أقل من مائة عام مضت استحالت بعده آلاف الكنائس، ومئات البيع، ومئات الألوف من الهياكل الباطلة إلى مساجد يذكر فيها اسم الله وحده لا شريك له.
إنه ابن آكلة القديد بمكة.. كأنه بين عيني الآن -عليه السلام- بين هضاب أبي قبيس يرسل الصيحة يهتز لها أبو قبيس، وتدوي لها شعاب الهواشم.
كأنه بين عيني الآن يرسل الصيحة في هذه القفار القاحلة بين المروتين فيسمع صداها يدوي في الهند والتركستان إلى روسيا وبولونيا وبلاد البلقان والترك وفي برقة والجزائر ومراكش إلى أدغال أفريقيا جنوباً إلى أطراف أوروبا شمالاً.. دوياً يهيب بالأديان فتخر طائعة بين يديه، والعقائد الموروثة فتستحيل أمامه هباء، والعصبيات القبلية والجنسية واللغوية واللونية فتأتي إليه صاغرة يصوغها كما يشاء، ويطبعها بما يشاء.
أتسألني؟؟
دونك إذن رأيي، فأنا ممن يعتقد أنه إذا اعتبر تقدير هذا السيد في أي بلد من العالم إيماناً فإنه بالنسبة إلينا ونحن بني هذه القفار التي أقلته يجب أن يعتبر تقديره لدينا أكثر من إيمان.
أتستغرب؟؟
لمَ يا صاحبي؟؟ وأنت تعرف أن نحو خمسمائة مليون مسلم تتجه اليوم نحو بلادنا نتيجة لما بذل سيدنا العظيم، ونحو خمسمائة مليون مسلم تنطق اليوم شهادة الإسلام بلغتنا نحن، استجابة لصيحته التي دوّى صداها من فوق الصخور التي تظللنا.
تمضي إلى اليوم أربعة عشر قرناً ونحن لا نزال في مكاننا، تقدس بلادنا هذه الملايين وتنظر إلينا بإكبار، نتيجة لصنيع قرشي واحد، لا تزال بنيته المقدسة قائمة بيننا.
أتسمعني؟؟
يذكرني هذا بيوم عاصف ماطر اضطرتنا فيه قسوة الطريق في بلد شقيق إلى أن نلجأ إلى خباء فلاح صادفنا. وإنا لكذلك وإذا العواصف تسوق إلينا سيدة من شمال أوروبا عاق سيارتها ما عاق رحلتنا فاقتحمت الخباء علينا، واشتهت فيما يبدو أن تقطع الوقت بالحديث معنا ولكنها كانت لا تجيد غير لغة بلادها، ولم يكن بيننا من يعرف لغتها، فبدأت لغة الإشارة تؤدي دورها بيننا.
كان يهمها أن تعرف البلاد التي ننتمي إليها، فقلنا إننا عرب. وحاولنا أن نضغط على كل حرف من كلمتنا على أمل أن تكون قد درست في الجغرافيا ما يساعدها على فهم الكلمة أو قرأت في صحف بلادها بعض ما يقرب لها معناه، ولكن جهودنا باءت بالفشل فآثرت وآثرنا معها الصمت.
ولم تمض إلاّ لحظات حتى عمدت إلى ((ألبوم)) كان في محفظتها، فشرعت تقلب بين الرسوم والصور التي اكتظ بها، فإذا بينها صورة رجل يصلي. فأسرع أحدنا وكان يجلس إلى جانبها، فأشار لها بكلتا يديه إلى الجهة التي يصلي إليها الرجل ليفهمها أننا أهل هذا البلد الذي يتجه إليها المصلي. فما راعنا إلاّ صوتها يندّ عن فرحة صارخة ((مكة.. محمد.. محمد.. مكة)).
أي. أنها ((مكة)) وإنه ((محمد)).
ومن غير ((مكة)) حري بهذه الشهرة، ومن غير ((محمد)) قمين بهذا الصيت الحي.
فلنكبر فضل محمد، وتعاليمه ونواهيه فينا، وقبلته بين أيدينا، أكثر مما يكبره كل ناطق بالشهادتين في تاريخ الأرض.
وبعد.. أتراني يا صديقي بالغت؟؟
كنت أتمنى لو اتسع النطاق اليوم أمامي، إذن لاستعرضت وإياك بعض المواقف العظيمة التي امتاز بها صلوات الله وسلامه عليه في لقطات خاطفة لتتبين العظمة على حقيقتها ولكن جلستنا اليوم شارفت على نهايتها.
لا.. لا تظنني أنوي سرد ما ترجم له في فصول مستوفاة منظمة، فذلك سبيل عني به فطاحل، وتوسعت فيه أقلام وأقلام، واكتظت به أسفار وأسفار.
ولكنها لقطات ولقطات خاطفة، فإلى جلستنا يوم نستأنفها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :360  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج