شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(5)
وي.. كأنك لم تقنع بعد بما قدمت لك؟ سأعذرك يا صديقي، ما دام المفهوم العام يدرج سائر القبائل في بادية العرب مدرجاً واحداً، ولا يعرف كيف يستثني قوماً ((كقريش)) احتكوا بالحضارات شمالها وجنوبها، وعاشوا في مركز يجمع تجار الشمال إلى تجار الجنوب، وتزدحم أسواقها بالصادر والوارد من كل لون وجنس. كانوا يختلطون بهم ويفسحون لهم في بيوتهم، وتدعوهم الأعمال الواسعة إلى الحركة، فيرتحلون من بلد إلى آخر، فتتفتح عيونهم على الكثير من مظاهر المدنية في أحدث طراز كانت تعيشه مدنيات أجيالهم.
حسبك دليلاً يا صديقي على ما قدمت أن ((القرآن الكريم)) خاطبهم بمعان، لا يمكن أن يخاطبهم بها وهم لا يفهمونها أو كانت مدلولاتها غريبة عنهم، فحدثهم عن المشكاة والمصباح. كما حدثهم عن المساكن يعرج إليها بالمعارج، وتهيأ بالنمارق والزرابي والسرر والفرش المترف المبطن بالإستبرق والسندس.. كما حدثهم عن أنواع الأواني من الفضة والذهب والقوارير والزجاج، كأنه الكوكب الدري.. كما حدثهم عن الكؤوس ناصعة البياض في شكلها اللذيذ للشاربين.. كما حدثهم عن الحلي من الزبرجد والياقوت والمرجان واللؤلؤ.. كما حدثهم عن القراطيس والكتب والسجلات والأقلام والمداد والصحف.
وهي بالطبع ليست صحفنا التي تنشر الأخبار يومياً أو أسبوعياً، فمدنيات تلك الأجيال كانت لا تعرف هذا النوع الشائع اليوم، وإنما هو إطلاق البعض على الكل، فالصحف المنشرة والصحف المطهرة أعم بكثير مما نطلقه اليوم.
يصح أن نقول إن المدنيات عند تلك الأجيال ما يؤدي معنى صحفنا اليوم، ويتمثل ذلك إلى حَدٍّ ما في شعرائها وخطبائها ورجال القصص فيها، وكان للعرب -جميع العرب- نصيبهم من هذا المعنى كما كان لقريش حظها الأوفى.. فشعراؤها كانوا يرتادون كل سوق، وقصّاصو أخبارها يقتحمون كل مجمع.
وعرفت قريش في أسواقها ما لا يعرفه العربي البادي من المكاييل والموازين كما عرفت مفردات أثقالها، وحذقت ألواناً من التلاعب بهذه المقاييس، فكانت تضلل البادي وتخدعه وتتلاعب به، كما يتلاعب المتحضر بسذج القوم البادين. وأنت تسمع فيما تقرأ اليوم من آيات ((المصحف الشريف)) ما توعدهم به القرآن: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (المطففين: 1-3). ولا يستوفي إذا اكتال ويطفف إذا كال إلاّ واسع الحيلة من شياطين الحضارة.
واستعمل القرشيون في مكة الثياب والسراويل والقمصان، وتغالوا في أثمانها كما تغالوا في وشيها وتطريزها، وأحسبك لم تنس ما حدثتك به قبل اليوم عن القرشي الذي كان يلبس الثوب بخمسين ديناراً، وعن عبد المطلب الذي دفن يوم دفن في حلتين قُوّمتا بألف مثقال من الذهب.. لا أحسبك تستنكر هذا أو تنكره. وقد جاء في القرآن ذكر أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (الزخرف: 18).
واستعملت القرشيات الخُمُرَ والجلاليب، وتختّمن بالخواتم مرصّعة بحبات اللؤلؤ وفصوص الياقوت، كما استعملن الخلاخل، وكن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتحلين بالعقود والأساور، وتطيبن بكل ذي أريج فوّاح، ومشين في زهو وخيلاء.
وعندما مد لهن أصحاب القيم في المجال الداعر، وفرضوا عليهن ألاّ يطوفوا في ثياب أذنبوا فيها، وجدن فرصتهن واسعة ليطفن عاريات، وانتهى انحلال الحضارة وتفسخها بإحداهن ألاّ تكتفي بعريها في المطاف، بل فعلته في فجور وقح.
ويكاد هذا اللون من التبذُّل أن يكون وسم جل الحضارات في جل العصور، فقلّ أن ترى حضارة ترعرعت في غير ظل الانحلال والحرية المتفسخة.
وبعد.. فهل يلذ لك أن أطوف وإياك على بعض سكك مكة وشعابها لنشهد بعض ملامح الحرية الفكرية التي كانوا يتطرفون في مزاولتها في صور لا يحدها عقل ولا يقيمها ميزان؟!
لتتبعني إذن.. أترى هذه العلية المشرفة على مداخل الشعب؟.. إنها علية إحدى بنات الهوى. وإذا شاقك من باب العلم بالشيء أن تدلج بي في هذه المدالج الملتوية، فسوف تطالعك عشرات البيوت مزدحمة بعشرات الغانيات من كل جنس.
وهذا اللغط اللاغب الذي يتعالى من حاشية الوادي ألا تسمعه؟.. إنه لغب سمّار ((سالمة الخثعمية)) التي يسمونها صادحة الوادي، يجتمع إليها الشباب في أمسيات القيظ المقمرة، فتبسط لهم البسط في ردهة دارها، وتتبدّى لهم في أحلى زينة، وتأمر قيناتها فيبرزن في ثيابهن الرقيقة الموشّاة، وفي أيديهن الطارات والمزامير تتقدمهن صاحبة الطنبور، فيأخذن في الغناء، بينما تدور عليهم أقداح الخمر التي تخلط عليهم عقولهم، فتضج أصواتهم بالصخب اللاغب، ولا يقتصر الأمر على هذا فشعاب مكة وأحياؤها تضج في أكثر لياليها بالغناء والزمر والصخب.
وإذا لذّ لك في أية أمسية من أماسي الصيف أن تدلف إلى أعاليها، فستصافحك بطحاؤها مفروشة بطوائف السمار يتحلقون حول مغنيهم أو صاحب مزمارهم على ضوء مشاعل الزيت أو وقود الحطب، في ضجيج راقص وصخب يملأ الوادي. وستعجب إذا تراءى لك أن تنحدر إلى أسافل مكة مما تراه مماثلاً لذلك.. من خلق الله المائج بين هضاب الوادي وسفوحه لا همّ لهم إلاّ أن يطربوا ويرفعوا أصواتهم عالية، فتختلط بعضها ببعض في صخب لاغب.
ربما ظنهم مثلك خليين، ليس لديهم ما يشغلهم في دنياهم. لا.. لا يا صاحبي فنهارهم مزدحم بالأعمال الجادة والكسب الفاحش، الذي لا يحرِّم ولا يحلّل ولا تعرف مدى لاحتيالاته وألاعيبه.
وإذا شاقك أن تطيل في سهرك فدونك هذه العدوة القصوى وراء المسيل فثمة طائفة من أحباش قريش ترقص على نفحات طبولها.
وتستطيع أن تعرج بمعارج الربوة القائمة على صدر المسيل لتشرف على حشد من شباب فارس هبطوا مكة من أيام، فباعوا وابتاعوا، ورأى ((شابور))، وهو من بني جنسهم وقد طالت إقامته بمكة، أن يحتفل بوداعهم قبل أن يغادروا مكة إلى بلادهم، فجمع إلى حفله ((درامة)) المغنية و ((عاتكة)) الراقصة في كوكبة من حاشيتهما.. إنها ليلة احتشدت فيها بارعات الفن، وتصدرها صناديد قريش وأعيانها.
ألم أقل إن أصحاب القيم في مكة لم يحجروا على متعة فيها، ولم ينكروا أي لذة تستباح؟ أتقول لي: ولكن كيف تغيرت هذه المعايير بين عشية وأخرى، ونسي المنحلون سائر ترهاتهم.
لا أحسبني أتكلف الرد عليك فأنت أفضل من يعرف ما قاساه ((ابن مكة)) سيد الخلق، وما بذله لكبح جماحهم وهدم مقاييسهم، وإنارة الطريق أمامهم.
وعساني أستطيع وإياك في أعقاب هذا أن ندلج مع الدالجين في ركاب سيد الخلق صلوات الله عليه لنتتبع في بعض المشاهد بعض ما عانى في سبيل هدايتهم ليكونوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: 110) في ظل أقدس بيت قواعده في مكة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :563  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.