شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الدكتورة لمياء محمد صالح باعشن))
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبيّ الهدى متمم الأخلاق، أبادر وأعبر عن شكري الجزيل واحترامي العميق لمعالي الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه لهذا التشريف الذي كرمني به، والشكر موصول لأستاذي القدير عبد الفتاح أبو مدين ولكل كلمة طيبة قالها عني الليلة، أحيي هذه الأمسية بحضورهم الكريم، وأبدأ بطلب الرحمة لروح والدي الشيخ "محمد صالح باعشن" كان محفّزي ومشجِّعي الأهم وكان بمثابة الريح تحت أجنحتي يدفعني للتحليق ثم ينتظر هبوطي بشغف ويقف عند كل منعطفٍ يبارك نجاحي ويطالب بالمزيد. فهكذا جعل حياتي تدور في أفلاك العلم وطلبه والتميُّز فيه، غفر الله لك يا أبي وأثابك عني كل خير.
شيء مخيف أن يطلب منا الحديث عن محطات في حياتنا فننظر إلى الوراء لنجد سنوات عمرنا متراكمة قابلة فعلاً للتقسيم إلى محطات عديدة، لكن في حياتي أنا توجد محطة واحدة فقط أبتعد عنها وأعود إليها، تدور بي الطرقات وتقودني إليها. فقد كانت البداية في حارة المظلوم بجدة حيث ولدت ونشأت، حارة المظلوم التي أنصفتني كثيراً بفضاءاتها المنفتحة وبأجوائها الحميمة، حارة المظلوم لم تكتفِ بإنصافي بل أكرمتني بترابطها وتواصلها وأصالتها. كان بيتنا الكبير وما يزال يقبع في منتصفها يطل على جميع جهاتها بَحرية وقِبلية وشامية ويمانية، وكانت الأزقة المحيطة بنا ساحة اتصال بين البيوت، والبرحات بمثابة الحدائق الملحقة بالمنازل لكنها حدائق مشتركة يهرع إليها كل الناس للهو واللعب، للبيع والشراء، وللقاء والسمر، ليس في حياتي محطات بل هي محطة واحدة هي زادي ومنها وقودي في بيتي القديم القابع في قلب حارة المظلوم، هناك كنزي ونبعي، هناك محطة انطلاقي موقع تشكيلي وبنائي، بذوري وثماري، هناك عاش أناس صنعوني وهذّبوني وعلّموني، أجدادي وآبائي، جداتي وأمهاتي، أعمامي وأبناء عم، عماتي وبنات عم، لم نزرهم في الأعياد والمناسبات، كان لنا بيت واحد، بيت كبير، أبوابه مشرعة، تقطنه العشرات ويزوره المئات من البشر، كلهم حدثوني وحكوا لي عن الماضي الذي عاشوه، وعن الماضي الذي حكاه لهم أجدادهم من قبل، أوصلوا لي الأمانة، عشت في بيت كبير في زواياه أسرار قديمة هنا في هذه الصَّفَّة، في ذلك المجلس، على باب هذا المبيت وفوق ذلك الروشان، أحداث ومواقف مذهلة ومبهرة قيلت لي، وحكيت لي، لكم أن تتصوروا كمية المعلومات التي اختزنتها ذاكرتي، كم هائل من المحكيَّات استقر في قلبي وعقلي في مسام جلدي، حمَّلني أهلي إرثاً عظيماً وضعوه على عاتقي، استأمنوني على تفاصيله الصغيرة وكلهم ثقة أن الركب سيسير بحمولاته الثمينة، كانت تلك بدايات طفولتي ونشأتي، ثرية بعدد هائل من الناس، غنية بحكاياتهم وأساليب حياتهم، كل مراحل دراساتي جاءت لتصقل الجواهر التي غرسها في نفسي وعقلي أهل بيتي وزائروه، حين رحلت عن بلدي للدراسة، كانت بطانتي قوية، ورغم اعتيادي على العيش المشترك والتقارب الأسري إلا أن الغربة لم تشكل بالنسبة لي أي كربة، فنشوة التعلم آنستني بشكل غامر، خلال تواجدي بالخارج تعلمت الاستقلال الذاتي، والاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية، كثيراً ما شعرت أنني سفيرة لبلادي، وأدى هذا الإحساس إلى الرغبة في إعادة التعرّف على تفاصيل دقيقة عن موطن أهلي، وتاريخي وتراثي وديني من منظور الأجنبي الناقد، تفاصيل كثيرة كانت من المسلَّمات التي لا تثير تساؤلاتي ولا فضولي، ولكنها في ميزان الآخر أصبحت في بؤرة اهتماماتي، هناك في الخارج أدركت أكثر قيمة الكنز الذي أحمل، أدركت معنى الانتماء إلى الوطن وأرضه وأهله، أدركت معنى الجذور وعلاقاتها بالثقافة والحضارة، دراستي للأدب هي التي نبهتني لقيمة التراث الشفهي. ومن مقاعد دراستي للدكتوراه، انطلق اهتمامي به ورغبتي في إحاطته ومنعه من التسرّب والتلاشي، هناك عرفت أن ما كانت عمتي تهدهدني به كل ليلة هو اللَّبِنات الأساس للفكر والفلسفة ولفنون الغناء والسرد والمسرح كما نعرفه اليوم.
منذ عودتي من أمريكا وأنا في حالة توثيق مستمرة، ذلك أنني أرى أن حقبة زمنية بكاملها تأخذ في التلاشي أمام أعيننا، راقبت جيلاً غنياً بالعطاء ينطوي على نفسه حسرة ويضمحل، راقبت جيلاً قادماً يتطلع للأخذ فينهل من ينابيع لا ينتمي إليها ولا تنتمي إليه، وراقبت جيل الوسط يودع جيلاً ويستقبل آخر وهو غارق في صمته عاجز عن بناء جسر التواصل، لقد انجرفنا مع تيارات التغيير والتمدن وتركنا خلفنا ثروتنا الحقيقية، الفكر التراثي الذي تم تناقله على مدى قرون طويلة، حصيلة ثرية من الأفكار والمفاهيم الأصيلة التي ميزت مجتمعنا وحددت معالم هويته وأصالته، يقيني أن أجدادنا لم يكونوا بسطاء ولم يكونوا جهلة، الذين سبقونا لم يكونوا عابثين ولا لاهين، بل فكروا واهتدوا وضمَّنوا معارفهم في أشكال شعبية بسيطة المظهر عميقة المدلول، حكايات أجدادنا سجل حافل، يشهد بخيال خصب وفكر جمعي حكيم، وحين نتأملها بشغف وتقدير سنجدها باذخة العطاء وقادرة على تسليحنا من الداخل، إحياء الموروث التعبيري الحكائي والغنائي الشعبي لمنطقة الحجاز هو إحياء إرثنا الإبداعي ودليل تاريخيتها هو ما تركه ساكنوها من آثار تشهد بوجودهم وبفكرهم، التراث الشفهي غير ملموس، أي أنه تعبير كلامي، ولكنه لا يقل عن أي تركة حضارية جديرة بالحفاظ والتأمل والتنظير والإحياء.
منذ عودتي من الخارج وأنا في حالة توثيق مستمرة أحاول كل يوم لملمة شملنا المبعثر، أحاول صيد المعاني الجميلة التي غابت من حياتنا، كنا جيلاً نشأ في توازن متَّسق، كلما سبرنا تجذرنا هكذا بالتدريج ثبات في الأرض يصاحبه ارتفاع طموح، لكن انقسام عائلاتنا الممتدة القديمة إلى وحدات صغيرة أفسد أجواء الحكي والتحاكي، الآن أمامنا أجيال جديدة تشاهد العالم من وراء زجاجات العرض الكريستالي، يراقبونها ليل نهار فتتسلل إلى هشاشتهم وتسلخ جلودهم فتحولهم إلى مسخ ممثلة لثقافة غريبة، جيل يجهل تراثه ويخجل من موروثاته ويتعالى عن لهجاته بل لا يستسيغها، جيل غريب مستغرب، يظن الكثير من الناس أن ما أقوم به هو مجرد إشباع للإحساس بالحنين للماضي، لكن مدخلي للتراث الشفهي الحجازي علمي وجدي، مدخل قائم على أسس البحث الميداني والجمع والتحقيق بغرض الإبقاء على معالم التعبير الشفهي وحفظها من الضياع.
قد يكون تعلّقي بالحكاية الشعبية أنني سمعتها كثيراً في طفولتي ولكنني، فيما بعد، وجدت في الحكاية قيماً فنية عالية وحين عرضتها لقواعد الفن الحكائي استجابت بشكل مبهر ثم وجدت فيها بعد كل ذلك قيماً فلسفية راقية تؤهلها للانضمام إلى كلاسيكيات الأدب الفلكلوري العالمي، أطمح إلى فتح أبواب التواصل مع أسلافنا لتشكيل هوية ثقافية خاصة بنا، كل قديم هو أساس وتأسيس، وأنا أريد التأصيل لنرسِّخ أقدامنا جيداً في التربة المحلية، حتى لا تقتلعنا رياح تيارات الثقافات الدخيلة والتي لا يصلح بحال من الأحوال أن نواجهها فقراء من ثقافتنا، عراء من كسائها الوثير، عندما نخرج إلى العوالم المحيطة بنا يجب أن نتسلح بتراثنا حتى نكون على مستوى التبادل والمشاركة لا على مستوى التلقّي السلبي لكل ما يعطى لنا.
تراثنا الشعبي هو البطانة التي ستحمينا من التهاوي في مواجهة العولمة، نحن نواجه أزمة ثقافية لكننا ما زلنا في مرحلة زمنية تضعنا في حافة الاختيار، بمعنى أننا لا زلنا نتأرجح بين الماضي والحاضر، لكن لو استمررنا في تجاهل موروثنا والخجل منه والتعالي عليه، لو استمررنا في التفاخر بإجادتنا وأطفالنا للغة الإنجليزية على حساب عربيتنا، لو استمررنا في التباهي بمتابعاتنا لـ "سندريلا" و "سنو وايت" و "بوكاهونتاس"، وطمسنا معالم "لولة بنت مرجان" و "فطيمة الغالية" و "بنت الفوال" عندها لن يعود لنا إلاّ الانبهار السلبي بكل ما يرد لنا من الخارج، هذه هي مرحلة الاختيار الحرجة لو استمر فيها الإهمال فسننفصل عن أصولنا لا محالة، ونصبح نسخاً منسوخة عن غيرنا، متابعين وجدانياً لخارج مجتمعنا منشطرين لا هنا ولا هناك، ونحن لا ندعو للإنغلاق ومنع الأجيال الجديدة من التعرف على تراث الآخرين المستورد لكننا نصر على أن نضع أشكالنا التراثية جنباً إلى جنب مع تلك الوافدة إلينا، كل المجتمعات المتحضرة تحافظ على تراثها وهويتها بل إن كل المجتمعات الحديثة التي لا تاريخ لها تنشئ مؤسسات وتدعمها وتسعى لحفر جذور لنفسها حتى لا يقال إنها مجتمعات طارئة لا عطاء لها، لكن المجهودات الفردية ستظل يداً واحدة عاجزة عن التصفيق أتمنى بالفعل أن تكون هناك مؤسسات رسمية أو أهلية تدعم مشاريع إحياء التراث وإعادة تشكيله وتوظيفه تحت مظلة شاملة تؤمن بقيمة الارتكاز على أسس التراث للانطلاق إلى المستقبل، محطتي هي إرث عظيم، حمَّلني إياه أهلي ووضعوه على عاتقي، كم هائل من المحكيات استقر في عقلي وقلبي وفي مسام جلدي، استأمنوني على تفاصيله الصغيرة، وكلهم ثقة أن الركب سيسير بحمولاته الثمينة، محطتي زادي ووقودي، هي نبع العطاء الأصيل، الإرث الشعبي العريق، التقيت به كما به التقيتم، وها أنا أعيده إليكم وأعيد إلى ذاكرتنا الجمعية توازنها، وأوصل الأمانة وأقدمها لجسر التواصل والتماسك، وشكراً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :454  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 223
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.