شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به الأستاذ محمود رداوي ))
ثم أعطيت الكلمة لضيف الاثنينية سعادة الأستاذ محمود رداوي، فقال
- بسم الله الرحمن الرحيم.
- أيها السادة الحضور: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛ وبعد:
- نشكر الأديب الأستاذ عبد المقصود خوجه على هذا التكريم اللطيف، وتلك الحفاوة الطيبة التي تنم عن شمائل عربية أصيلة، وتدل - أيضاً - عن حبه وتقديره للأدب والفكر والثقافة؛ وخير ما أبدأ به بعض المقتطفات مما كتبته عن هذه الاثنينية إثر إهدائي لأول اثنينية - أظن من ثلاثٍ أو أربع سنوات - وفي العادة حينما أتلقى كتاباً أو بحثاً فأقرؤه في الحال، وأعطي شيئاً من الانطباعات، فإن تيسر نشر الانطباعات نشرت في حينها أو أنها تبقى عندي، كتبت عن الجزء الأول في حينه ولم أنشره إلاَّ من شهرين في الفيصل، وقد أخذت بعض المقتطفات عسى أن أعطي رأيي في هذه الاثنينية.. والمقال طويل وقد اخترت منه هذه المقتطفات قلت:
- منتديات أو (صالونات) الأدباء والشعراء والفنانين ظاهرة فكرية وثقافية، لا تخلو من روح حضارية، فهي منتجع خصب مخضرّ بالمعرفة والأدب والشعر والفن، وقد وجدته لدى الأمم عبر العصور والأجناس، لذلك فهي ليست وقفاً على أمة دون أمة، أو جنس دون آخر؛ وتتميز مجالس الأدباء عند العرب عن غيرها من مجالس الأمم الأخرى، بأنها ظاهرة دائمة، ومستمرة، لأن الأمة العربية - وعبر تاريخها الأدبي الطويل - أمة شاعرة، والشعر ديوانها، وتراه أرقى فنون الأدب وأروعه وأخلده.
- ومن هنا تعددت مجالس الأدب والشعر عند العرب، قديماً وحديثاً، كما أصبح معظم أدباء الدول العربية في العصر الحديث يولون اهتمامهم للصالونات الأدبية، فنشط الأدب والشعر من خلالها، لما كان يبرز فيها من نشاط، وما يدور فيها من أحاديث وكلمات، واحتفاء وتكريم بعضهم لبعض، لأن أصحاب الصالونات الأدبية هم أدباء، ويتوقون إلى تمكين روابط الوصال فيما بينهم، بمنأى عن الأجواء الرسمية، لذلك تجيء محفوفة بالعفوية، ومقرونة بآيات الإخاء والصفاء والود؛ لدرجة تستحيل حصصها ووقائعها إلى ضرب من آداب الإخوانيات؛ وبخاصة في صالونات المملكة العربية السعودية، حيث نجد كثيراً من أدبائها يحوّلون دورهم إلى صالونات أدبية، ومنتديات شعرية.. وبخاصة دارَيْ الأديبين: عبد العزيز الرفاعي (رحمه الله) في الرياض، وعبد المقصود خوجه في جدة؛ والحديث عن صالون الأول يحتاج إلى وقت ومقام كبيرين، ولا سيما إذا ما طبعت وقائع (خميسيته) في أسفار وأجزاء مثل صنيع الثاني الَّذي نحن في صدد الكلام عن (اثنينيته).
- إن منتدى أو (صالون) الأديب الخوجه في جدة ينتجعه كثير من الأدباء السعوديين والعرب في يوم الاثنين من كل أسبوع، واستحال صالونه إلى مناسبة أسبوعية، يُحْتفَى فيها بعَلَم من أعلام المملكة، في عالم الشعر والأدب، أو أحد أعلام العرب.
- ومنذ عام 1403هـ/1982م تحضره زرافاتٌ ووحدانٌ من الأدباء مع المحتفى به.
- ويجري في ذلك اليوم الاثنين، أو في تلك الأمسية (الاثنينية) لقاء زاخر بفنون الأدب من: ذكريات، وحقائق، وأحداث، وكلمات، وقصائد، وحوارات..، تكاد تكون كلها وثائق ومواد ومصادر مهمة في أدب المملكة العربية السعودية وأدبائها عامة وفي أدب المحتفى به خاصة.
- ولهذا فقد وضع الأديب عبد المقصود خوجه نصب عينه مشروعاً أدبياً رائداً موفقاً، وصمم على تنفيذه، وهو طباعة وقائع (الاثنينيات) منذ بداياتها وباستمرار، وطبع منها ثمانية أجزاء، وها هو الجزء الأول من (الاثنينيات). والَّذي يضم أربع عشرة اثنينية أقيمت خلال العام الأول من عمر الاثنينيات، أي قبل ثماني سنوات؛ ولذلك يقول صاحبها: "إن الأمل يزحمني بالتطلع إلى الوقت الَّذي تتواكب فيه طباعة الاثنينيات مع حدوثها عاماً بعد عام، ولا أظن أن يتحقق ذلك إلاَّ بطباعة جزأين من الاثنينيات في كل عام: جزء عن اثنينيات السنوات الثمان الماضية، بترتيب حدوثها، والآخر عن اثنينيات العام ذاته" وقد حدد صاحب الاثنينية هدفها، أو أنه "لا هدف لها إلاَّ العمل على تكريم رجال لهم مكانتهم في المجتمع، على مختلف حقوله.. وهذا التكريم ليس له من هدف إلاَّ معناه فحسب".
- ويأتي المحتفى به الرابع (عبد الله بلخير.. شاعر الأصالة والملاحم العربية الإسلامية) ويلح الحضور عليه ليسمعهم بعضاً من تلك الملاحم، ويستجيب، فكانوا مستمتعين بالمقطع الأول من ملحمته: (لبيك يا أم القرى) وبمطولة: (سبتة) وبملحمة: (قرطبة) كاملة، وغيرها من الشعر.
- ثم يروي شيئاً من ذكرياته مع الإعلام كأول رجل إعلام في المملكة العربية السعودية أمام الملك عبد العزيز، وعن الأناشيد العربية التي كان من روادها في المملكة.
- ويبدو أن الناس، أو الحضور من المثقفين، لا ينقطع إعجابهم بالشعر والاستماع إليه حتى لو كان من الشعر الملحمي، بل ربما كان سبب الإعجاب هو حاجتهم إلى الاستماع لشعرٍ ذي أنفاس ملحمية تترجم الحس العربي والإسلامي في عصرنا الحديث.. الحاجة إلى مطولات شعرية كملاحم عبد الله بلخير العربية والإسلامية والأندلسية، "التي قوطعت بالتصفيق".
- والآن إذا سمحتم لي فقد سجلت - أو كتبت - محاور أو أفكاراً أو نقاطاً عن سيرتي الذاتية، وقد بدأتها منذ الطفولة المبكرة، وما كتبته عن سيرتي الذاتية كتبته على شكل قصص، وعلى شكل روايات، وعلى شكل خواطر أحياناً؛ وهذه السيرة إن ترجمت شيئاً فإنها تترجم شخصيتي كما هي.. فكتبتها بعفوية وبفطرية، وإن سمحتم أن أقرأ شيئاً من هذه المحاور، في لهجتنا لهجة دير الزور.. منطقة هي الظهرة، يعني باديتنا، وفي تلك المنطقة كتبت عن طفولتي الأولى قبل السادسة، وكانت في منطقتنا الظهرة، وهي المنطقة الصحراوية الشمالية من دير الزور باتجاه الجزيرة، حيث يصحبنا الوالد مع الأسرة - أحياناً - كلما ارتحل للشمال متفقداً شركاته لدى أعيان الأعراب، ويطول مقامه هناك خلال موسم الربيع بين بيوت الشعر والأغنام.
- و[الشِّرْكة]، بمفهوم المنطقة هي شِرْكة تقوم بين التاجر وأحد أعيان الأعراب القاطنين (الظهرة) وممن تتوفر فيه الأمانة..، وعنده رعاةٌ ماهرون بالرعي. فالتاجر يقدم المالَ أو الأغنام، والشريك يقدم الجهدَ والتعب المثمرين سمناً وصوفاً، يُوَرِّدُهما لعميله أو شريكه في متجره في دير الزور، ويستمر في التوريد حتى توفّي الشركة رأسَ مالها، وبعدها يصبح الواردُ ورؤوسُ الأغنام مناصفةً.
- وقد انطبعت حياة (الظهرة) في حسي بكل مظاهرها، وبخاصة أعمال الرعاة في المراعي، والأعرابيات وهن يحلُبْنَ النعاجَ والمعزة، ويصنَعْنَ مشتقات الحليب برضى وحب وجلد؛ والأعراب وهم يجزُّون الأغنام بمهارة، وكانت الفطرةُ تتوج حياتَهم، وترتسم في وجوههم.
 
(( الحوايج ))
- وكتبت عن طفولتي ما بعد السادسة في (الحوائج) وهي مجموعة جزر متداخلة متصلة ببعض على نهر الفرات، محاذية لطريق حلب دير الزور، وتبعد عن الدير خمسة عشر كيلاً، وللوالد أراضٍ شاسعة فيها؛ يعمل بها جمعٌ من الفلاحين، لهم نسبةٌ عُشرية مما ينتجونه من زراعة القمح، والشعير، والعدس، والذرة فضلاً عن [المقاثي]، وما تنتجه من القثاء، والخيار، والقرع، والبطيخ بنوعيه الأحمر والأصفر.
- درجت في (الحوائج) مع السباحة، والصيد، وركوب الخيل، وركوب (النورج) خلال دِراس الحبوب، وركوب (الغراف) خلال السقاية.. حيث كانت السقاية بواسطة (الغراريف) التي تدوّرها البغالُ، والكدش، والحمير؛ ثم أصبحت فيما بعد بالماكنات.
- وكنا نقيم بالحوايج طيلة العطل الصيفية، وكانت واسطة نقلنا من الدير إلى الحوايج: الخيول للركوب، والبغال لحمل الأمتعة والمؤن؛ وكنا نعود إلى الدير غالباً بالسفن، أو على ظهر (الطوف) وهو أعمدة خشبية مترابطة متلاصقة ببعض، تشكل أرضية ثابتة تطفو على سطح الفرات، وتقوى على حمل العشرات من أكياس القمح، والعدس، والسمسم.
- وقد انطبعت حياة (الحوايج) في فكري وحسي - أيضاً - بكل صورها، ومعالمها وشؤونها؛ وبخاصة أمور الزراعة، والسقاية، والسباحة، والصيد النهري، والطراد - سباق الخيول - فضلاً عن تقاليد القرية وأعرافها في الأفراح، ولا سيما الأهازيج التي ترافق الأعراس، والدبكة التي تشارك فيها المرأة الرجل جنباً إلى جنب، وأغاني الشعراء بأصواتهم الحنونة، على ألحان (النايل) وعزف (الربابة) و (الناي) و (المطبق) - الشَّبّابة -.
- وبدت لي حياةُ الريف أنشودةً مرحة، لا تعرف الأحزان.
 
(( الحويقة وما بين الجسرين ))
- ومما كتبته عن طفولتي ما بعد السادسة: عن الدير، والسباحة عند الجسرين وتحتهما، والجزر المنتشرة حولهما، والفرات وانشطاره إلى فرعين حين دخوله الدير، ثم التقائهما بعد أن يشكل جزيرة كبيرة يطلق عليها: (الحويقة) وبدايتها: (رأس الكسر). ونهايتها: (رأس العصعوص) وهي غاصة بالبساتين والعمارات، ويتم الدخول إليها من الجنوب عن طريق (الجسر العتيق) وهو عريض يتسع لمرور أكثر من سيارة، أما الدخول إليها من الجنوب فيتم عن طريق (الجسر الجديد) المعلق، الَّذي لا يتسع إلاَّ لمرور سيارة واحدة، وهو أطول من الأول بكثير، لذلك هناك اتصال هاتفي بين المدخلين لتنظيم عمليات المرور والعبور.
- ولقد كانت إقامتنا الأولى في الدير بالمنطقة الوسطى، جنوب الجسر العتيق، ثم انتقلنا إلى (الحويقة) في سكن يطل على شارع ما بين الجسرين.
- وتجري السباحة غالباً تحت الجسرين، وعند رأسي الكسر والعصعوص، تقع فجائع مؤلمة، حيث تكثر الغرقى في تلك المواقع خلال السباحة، فلا يمر يوم دون أن يبتلعَ الفراتُ طفلاً أو فتىً.. وعلى مرأى منا، قبل أن تصل الغريقَ يدُ السبَّاح الماهر الشهم؛ ولهذا كانت ولولةُ أمهات الغرقى المؤلمة لا تفارق ساكني ضفاف الفرات كل يوم.
(( المستعمر الفرنسي ))
- وكتبت عن طفولتي في سن العاشرة وما بعدها عن الأيام التي شهدت فيها مظالم المستعمر الفرنسي، التي عمّت معظم محافظات سورية، وبخاصة محافظة دير الزور قبيل الاستقلال عام 1946، وقد ألقت الطائرات الفرنسية مئات القنابل على المنازل، فهدّمتها، وذهب ضحيتَها عشرات القتلى، بل مئاتِها؛ وظهرت في المدينة بطولاتٌ شعبية قادت حركة الكفاح المسلح، وكانت إحدى هذه الشخصيات في حَيِّنا: (الحويقة). وكان في كل حي حامية أو موقع فرنسي يلجم العباد، ويرهبهم بشتى الوسائل، وكان (شُتيل) قائد موقع: (الحويقة).
- وشاركنا - نحن الصغار - مع الثوار - على نحوٍ ما - في الهجوم على (شُتيل) وعناصره بقيادة بطل الحي الشعبي، المقاتل ببندقيته حيناً، وبسيفه الَّذي حصد به العديد من رقاب الفرنسيين، وترك لنا سحب جثثهم وإلقائها من أعلى جسر العتيق.
- وتحقق الجلاء، ولكن المستعمر الفرنسي وُفِّق في سياسة (فرِّقْ تَسُدْ) حين استطاع خلق الفتن داخل صفوف الشعب، وتقسيمه إلى فئتين متخاصمتين: شرقيين، ووسطيين، وكانت عشيرة: (الخرشان) - عشيرتي، وهي من بني (صخر) - تنحاز للوسطيين.
 
(( الريفية ))
- ومن الوقفات التي وقفت عندها في كتاباتي عن حياتي في سن الصبا والفتوة، بدايات كتابة القصة، ونشر بعضها في المجلات الدمشقية الأسبوعية قبل نيلي الشهادة الإعدادية، ثم التحاقي بعدها بدار المعلمين الريفية في يبرود؛ قضيت فيها سنتين وتركت بصمات لا تمحى من النفس والذاكرة، واتخذت في الريفية من الطلبة بعض الأصدقاء الَّذين يشاطرونني الفكر وميول الكتابة والأدب، تمخّض عن ذلك كتابات قصصية وروائية، ورسائل إخوانية زاخرة بمعاني الصداقة والمثل والأحداث التاريخية؛ وفجعت بأعز الأصدقاء، حين غرق بنهر العاصي قبيل التخرج، وكان من المقرر زيارة الدير بعد التخرج ليتعلم السباحة فيها.
- وكانت دار المعلمين الريفية تخرّج معلمين ريفيين، يخدمون في الأرياف، يعلمون أبناء الريف أصول الزراعة بأحسن الأساليب العلمية، إضافةً للتعليم الابتدائي للمقررات المعهودة، والتحقت بتلك الدار حباً بالريف وأبنائه وآبائهم البسطاء، الَّذين وجدت فيهم - آنذاك - الفطرة السليمة، والسليقة العضوية، والبراءة الصادقة؛ وأمضيت أربع سنوات في التعليم الريفي.. اكتسبت بعض التجارب، والقصص المستوحاة من تلك البيئة الريفية.
- وفي أثناء ذلك استطعت أن أنال - بالدراسة الحرة - إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق.
(( كلية ضباط الاحتياط ))
- من الآثار الأخرى التي لها أهمية في حياتي، وهي التي خلّفتها خدمتي العسكرية في كلية ضباط الاحتياط في حلب، وكان للبيئة العسكرية دور كبير في نتاج الكثير من القصص، فضلاً عما اكتسبته من معلومات تاريخية وبطولية عن الجزائر، إذ صدف أن تعرفت على ثلة من الشباب الجزائري قدموا، موفدين، من جيش التحرير الجزائري، ليصبحوا ضباطاً، ومن ثم يعودون إلى أوطانهم مقاتلين ومدربين، وكان ذلك في عامي: 1958، 1959؛ وتولّدت لدينا صداقة حميمة التقت على حب العرب، وكره الفرنسيين المستعمرين، وأصبحت واحداً منهم، واستمرت الصداقة والتواصل بيننا بعد عودتهم، من خلال الرسائل الملتهبة التي يصفون لي فيها احتدامهم، وقصص بطولات جيشهم ضد المستعمر الفرنسي، ومن أرض المعركة، ومواقع القتال.
- وإذا كنت شاركت معهم بمشاعري وفكري في عمليات التحرير والاستقلال من خلال كتاباتي ورسائلي لهم، فإني شاركت معهم أيضاً - من بعد الاستقلال - في عمليات التعريب طيلة سنوات خمس أمضيتها عندهم، وقد تقلّدوا مناصب وزارية وقيادية في الولاية والجيش.
 
(( مصير الكتابات الذاتية والقصصية ))
- لئن كنت خلال تلك المراحل - وبخاصة الطفولية - مولعاً بالقصص المروية، فإني أتخمت بها في سن الصبا مطالعة وكتابة، واستمررت على هذا المنوال حتى أقلعت عنها إلى حد ما، لانشغالي بالكتابات الأدبية، والبحوث، والدراسات الفكرية والنقدية؛ هذا أولاً؛ ولانصعاقي - ثانياً - لما لاقيته وفوجئت به في مواقف كثيرة وأحداث جسام اعترضت سبيلي، كالتغيير الكبير السيّئ الَّذي لمسته في ممارسات وعقلية بعض أهل الريف والفلاحين، الَّذين تملكوا الأراضي بقانون الإصلاح الزراعي؛ والصدمة الصاعقة لما وجدته من بعض الجزائريين، سواء من عامة الشعب أو خاصتهم.. في معاملتهم للعرب الوافدين والمُعَرِّبين.
 
(( الفكر العروبي قبل القدوم للسعودية ))
- كان الجانب العروبي هو البارز في فكري وكتاباتي عن القضايا المتنوعة، وبخاصة في تراجم الأعلام الفكرية، والأدبية، والشعرية في الوطن العربي، التي أفضت في الكتابة عنها، أمثال: شكيب أرسلان، وعبد الحميد بن باديس، ورفيق العظم، ومصطفى الغلاييني، وأحمد موسى سالم صاحب مجلة (الأنصار) وغيرهم.. فضلاً عن الكتابة في أدب السيرة والرحلات الَّذي كنت شغِفاً ومغرماً به.
 
(( تلاحم العروبة والإسلام ))
- كانت هناك لحظة مُبْهِرة تفتحت فيها روحي على إيمان كبير، لم أكن أعهده في نفسي بتلك الصورة المشرقة الرائعة.. لحظة مثولي أمام الحرم النبوي الشريف، عند قدومي إلى المدينة المنورة لأول مرة متعاقداً مع المملكة العربية السعودية، منذ حوالي عشرين عاماً؛ عندها أخذ الجانب الإسلامي يواكب الجانب العروبي في كتاباتي التي كان التلاحم بينهما هو محورها، ولا سيما في بعض المؤلفات التي ظهرت لي بعد ذلك.
 
(( الأدب السعودي ))
- بدأت أكتب في الأدب السعودي، الَّذي شُغِلت به كثيراً، لدرجة أصبحت أجهل الكثير عن أدب وأدباء بلادي ممن برزوا خلال إقامتي في السعودية.
 
- وكان ولعي وحبي لأدب السيرة والرحلات دافِعَين لي كي أبحث عن أدباء سعوديين كتبوا في ذلك الأدب؛ وحين عُيِّنت في المدينة المنورة لأول مرة، وقع نظري على أول كتاب في الأدب السعودي، وفي السيرة الذاتية للأديب الراحل عبد العزيز الربيع، وكان بعنوان: (ذكريات طفل وديع) أما حين قدمت الرياض، وقع اختياري على ثلاثة أدباء، لهم نتاج في ذلك الأدب، إثنان هما: الجاسر وابن خميس، اللذان أفضت عن كتاباتهما الرحلية في جريدة الجزيرة بدراسات استغرقت حلقات كثيرة متتابعة؛ والثالث هو المرحوم أحمد السباعي في سيرته الذاتية، ومن خلال كتابه: (أبو زامل).
 
- وكان صدى تلك الكتابة مقبولاً، وصدف بعد ذلك بعام أو أقل أن نال الثلاثة جائزة الدولة التقديرية للأدب.
 
- وتابعت الكتابة عن ذلك الفن الأدبي.. وللرحلات التي تشع بإضاءات كاشفة للأعماق الدفينة من سيرة صاحبها الذاتية والثقافية؛ وحين دمجت الأدبين - الرحلات والسيرة - في أدب واحد، تجمع لدي مجلدان كبيران.. فأزمعت على طبعه، ثم عدلت عن ذلك، آخذاً برأي أحد الأعزاء، وهو الأديب والناقد الكبير منصور الحازمي، الَّذي كان يرى ضرورة فصلهما عن بعض؛ ولكنه لم يطبع آنذاك، وأوشك الآن على الظهور.
- كما تجمّع لدي كمٌّ كبير - منذ وقت طويل - عن الأدب السعودي، يشكل بضعة مجلدات، أشبه بالموسوعة الأدبية السعودية، وكادت أن تظهر مع كتب أخرى من المختارات التي أنتجتها، لولا أزمة حرب الخليج التي انعكست على الإصدارات الثقافية والأدبية على نحوٍ ما.
- وأغلب تلك الكتابات نشرت لي في الدوريات السعودية التي فتحت لي صدرها بشوق وحب، وبخاصةٍ جريدة الجزيرة، ومجلتي: المجلة العربية، والفيصل؛ ولي معها تجارب لا تنسى، وتعاون وثيق؛ تمخّض عنه صداقات حميمة مع رؤساء تحريرها، ولا سيما رئيس تحرير المجلة العربية الأديب حمد القاضي، ورئيس تحرير الفيصل الأديب علوي طه الصافي، ومن بعده الدكتور زيد عبد المحسن الحسين.
- ويستدرجني حديث الصداقة مع بعض الأدباء السعوديين لذكر الأديب عبد الرحمن المعمر، الَّذي لولاه لما عرفت الكثير من شعر شاعرنا الكبير عبد الله بلخير، ولما تمتعت ببعض شعره.. إذ زودني به، فكان له الفضل في إقدامي على الكتابة عن شاعرنا الكبير؛ وما زال في الجعبة الشيء الكثير، سواء ما كان عنده من ملاحم لم تنشر، أو ما كان عندي من رؤى أدبية عن تلك الملاحم.
- ولذلك تظل الدعوة الملحة إلى طباعة شعره قائمة، حتى لا نظل نستلبه بعض شعره.. مثلما حصل لي معه في العام الماضي، حين استطعت استدراجه على التفضل بإهدائي جزءاً من ملاحمه، واحدة منها عن الغزو الاستعماري لدمشق، مما أثارت فيَّ مشاعر وأحاسيس سامية، وذكريات لا تنسى عن الاستعمار الفرنسي لسورية، ومما ازداد التواصل الفكري والوجداني بيننا، وعمّق جذور التلاقي والمحبة في قلبينا، وجعلني أستمر في حبي للشعر الملحمي، الَّذي يقدم لنا أحداث التاريخ العربي والإسلامي بتلك الصياغات الشعرية المتألقة، والتي ترسمه أمامنا حياً، فنعيش معه بكل جوارحنا ووجداننا.
- ومن الملاحم الأخرى: زحف أنوار الإسلام.. من الجزيرة العربية إلى المغرب الأقصى؛ ومأساة أمير المؤمنين ابن عباد؛ وملحمة معركة الزلاقة في الأندلس، وغيرها.
- وقد اقتطعت بعض انطباعاتي عن تلك الملاحم الثلاث مما كتبته عنها، وإن كان الوقت، ترونه، مناسباً وملائماً، سأقرأ ما اقتطعته بعد فراغي مما أثقلتكم به، ولا بد أن تتحملوا ذلك حتى النهاية.
 
(( الشعر الشعبي ))
- وبمناسبة التأثر والتأثير، أورد شيئاً له علاقة بنفسي وطبيعتي وفطرتي؛ وهو الشعر الشعبي.
- كان عندنا وما يزال شاعر من العشيرة الخرشانية يدعى: (عمر الفرا) لقد أثّر شعرُه في نفسي، فحصلت على بعض دواوينه وقصائده المسجلة بصوته، فكانت دافعاً قوياً للكتابة عن شعره، وشخصيته الجذابة، التي سحر بها الجماهير الغفيرة من الطبقات العامة والمثقفة على السواء، وبخاصةٍ في طريقة إلقائه الرائعة التي يقرّب بها الشعر الشعبي لمسامع ومشاعر المستمعين، ويلاصق وجدانهم، ويعيد لذاكرتي الآفاق الواسعة لبيئتي البدوية والقروية، فيظل ملامساً لطبيعتي وفطرتي.
 
- وقد وجدت شيئاً من شاعرية ابن بلدي في شخصية شاعر شعبي سعودي، هو الأمير الفيصل، الَّذي أثارني - أيضاً - ديواناه، بروحه الشعرية الأصيلة، التي تجعل شعره قريباً من الشعر الفصيح، واستطاع به أن يرفع من مستوى مستمعيه وقارئيه - وبخاصة العامة - إلى عالمه الشعري الزاخر بالرؤى والصور التراثية الأصيلة، المشفوعة بالقيم الفنية والثقافية المعاصرة.
 
 
(( سمة وميزة في الأدباء السعوديين، وغاية الشعر الكبرى ))
- وجدت ممن كتبت عن أدبهم السعودي نمطاً، بل ظاهرة تلاصق جذوري وفكري، هي: حب الانتماء للأرض، والمجتمع، والبيئة بكل أعرافها وتقاليدها..، وهو حس العربي بأصالته وشخصيته الفطرية، والبعد عن التصنع ومجاراة زيف الآخرين.
 
- وربما كان ذلك سبب تقديم وتقويم أعمالهم..، فانعكس على رؤيتي الأدبية والنقدية، وفي مفهومي للشعر عامة، وشعرهم خاصة، وفي غاياته الكبرى، وأبرزها: نقلُ همومنا ومعاناتنا وتجاربنا الخاصة والعامة بجدارة، وهي بطبيعة الحال هموم الشاعر، لأنه يحتويهما بأعماقه معاً.
 
- وإذا قرأنا هذا الشعر تجاوبنا معه، وكلما تكررت قراءتنا له، ازداد ذلك التجاوب؛ عندها سيكون شعراً خالداً، لأن الأجيال القادمة ستتجاوب معه، مثلما تجاوبنا مع شعر المتنبي وغيره من الشعراء الأفذاذ، وسيكون وثيقة وجدانية في خلود العواصف بمختلف صورها ونزيفها لدارسي أعماق الشعوب الوجدانية في مسيرة الحياة والرحيل.
 
(( الرسائل الإخوانية ))
- إن الرسائل الإخوانية والوجدانية، والمذكرات اليومية التي في حوزتي - كما ذكرت - أضفت لها - وأنا في السعودية - الكثير مما تجمع لديّ، ولكنها تحمل طابع الأدب والنقد إضافة لمشاعر الحب والود؛ وإني لأعتز بها لما تحمله من الصفاء والنقاء التعبيري والفكري والوجداني، فمنها ما كان رداً وتعبيراً عن كتابتي عنهم نثراً وشعراً، أو تقريظاً عن بعض مؤلفاتي..، فضلاً عما أسمعه منهم شفوياً في مناسبات متفرقة؛ وسأورد نماذج منها مما اخترته، عن الموقف الأول، فالثاني، فالثالث الشفوي.
 
نماذج: (1)، (2):
- نقل لي الصديق الأستاذ أسامة السباعي، وهو يقرأ ما كتبته عن أبيه الراحل أحمد السباعي، وكان دراسة حول مجموعته القصصية: (خالتي كدرجان) إذ قال وهو في أيامه الأخيرة: هذا أحسن ما كتب عني حتى الآن.
 
- قبل أن أقرأ شيئاً مما كتبته عن تلك الملاحم لشاعرنا عبد الله بلخير، وهي عبارة عن انطباع سريع، بل هي مدخل لعالم كل ملحمة على حدة؛ وهنا أود أن أقول بأني قد عدت إلى بعض مخطوطاتي القديمة عما كتبه عن أمير البيان شكيب أرسلان، فوجدت الكثير من التقارب بينه وبين شاعرنا عبد الله بلخير في بعض الوجوه، منها مثلاً: إن أول قصيدة اختارها شكيب أرسلان من شعر باكورته، كانت تلك التي أنشدها في حفل مدرسة: "الحكمة" وسنه ست عشرة.. مثلما كان شاعرنا بلخير يلقي قصائده في مدرسة: "الفلاح"، يوم كان في سن صغيرة؛ وكذلك في شعر أرسلان الملحمي ذي النفس الطويل، كقصيدتيه: الأولى التي نظمها عن: "موقعة حطين" عام 1320هـ؛ والثانية في: "ذكرى الأندلس" التي نظمها عام 1330هـ، إثر مشاهدته مسجد قرطبة في سياحته إلى الأندلس؛ وفي الاثنتين يقول الشعر بعد مشاهدته المواقع التاريخية.
 
- وهي الحالة نفسها التي يعيشها شاعرنا عبد الله بلخير في نظمه لكثير من ملاحمه الإسلامية والأندلسية، وفي الحال تتفجر شاعريته عن ملاحمه.
 
(( من الرسائل الموجهة للمحتفى به ))
- سيادة الأخ الأستاذ محمود رداوي "حفظه الله".
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد:
- قرأت بشوق كتابكم: "كتابات مختارة في العروبة والإسلام" فأشكركم على إهدائي نسخة منه، وقد وفقت - أولاً - لاختيار هذا الموضوع الَّذي يحوم حوله - بحيرة - كثيرون، وكأنهم يتهيبون من التصريح حول هذه الحقيقة البلجاء، وثانياً في إعطاء الموضوع حقه، وتتبع الكتابات فيه؛ ويبدو أننا نمر بمرحلة فيه رجعة إلى الصواب، والفخر بالدين الإسلامي عقيدة والعروبة عنصراً، فإذا تهيأ للمرء ماءاً زلالاً في إناء لامع من مادة قوية وأصيلة، فماذا يعيبه في ذلك أو ينقصه؟ مع أطيب التحية من أخيك.
عبد العزيز الخويطر
1/4/1411هـ.
- سعادة الأديب الكبير الأستاذ محمود رداوي الموقر.
- تحية معطرة من جوار البيت العتيق، وتمنيات لك بدوام الصحة والهناء، وأجد قلمي عاجزاً عن تقديم أسمى آيات الشكر والعرفان، للدراسة القيمة التي تفضلت بها على ما احتواه ديواني مرابع الأنس، مما كان لها وقع حميد في نفسي، وايمان صادق بأن الكلمة الطيبة لا يمكن أن تصدر في هذا العصر إلاَّ من إنسان كريم، وقد جاءت منك هدية غالية وميسماً مضيئاً أتوج بها جبهتي.
- وبعجزي عن مجازاتك لا أملك إلاَّ التوجه عند هذا المقام الطاهر بدعوات يقيك الله بها شر أحزان الزمان، ويحفظك بعين عنايته ورعايته رمزاً لكل كلمة طيبة.
- مع قبول أحسن تحياتي وأجل تقديري.
المخلص
مصطفى زقزوق
14/4/1407هـ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :571  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 74 من 171
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج