شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الأستاذ محمود النفوري ))
ثم أعطيت الكلمة لسعادة الأستاذ محمود النفوري القانوني المعروف فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم..
- حضرة سعادة الشيخ صاحب هذا البيت الكريم راعي هذا المنتدى العظيم، أصحاب المعالي والسعادة، أيها الإخوة الأفاضل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
- تشرفت بدعوة كريمة للمشاركة في هذا الحفل الموقر، لتكريم أستاذي وصديقي وزميلي معالي الدكتور: الأستاذ مصطفى عارف أبو السعود البارودي؛ وسرني أن أقف في هذه الأمسية المباركة - وأنا الوافد حديثاً على هذا البيت المعمور - محدثكم عن أحد أعضاء أسرته حديثاً ليس بغريب عن أهل هذا البيت، وقد تكلم الإخوة الأفاضل بما فيه كثير مما أقول، فلا أحسب إلاَّ كلكم تعرفون أدب المحتفى به وعلمه؛ ومن حسن أدب الضيف - مثلي - أن يرهف أذنيه ويريح شفتيه؛ إلى أن يؤذن له فيحرك لسانه بما يكن في صدره ويحفظه في قلبه.
- في البدء أتقدم بجزيل الشكر للأخ المفضال الشيخ: عبد المقصود خوجه، على إحيائه سنَّة لرفع شأن العلم والعلماء؛ فبالأمس - في مثل هذا اليوم - كرم علماً من أعلام الأدب والقانون والفكر هو معالي أستاذنا الدكتور: منير العجلاني؛ وإنها لصدفة طيبة أن يخلفه في التكريم معالي الدكتور مصطفى البارودي كما خلفه في كرسي أستاذ الحقوق الدستورية؛ فحق علينا أن نحيي هذا العمل الطيب وندعو لفاعله بالخير؛ فإن العمل الطيب صدقة توضع في ميزان حسناته - إن شاء الله -.
- أيها الحفل الكريم: تشرفت بمعرفة المحتفى به قبل بضع وثلاثين سنة، عندما طلبت العلم في كلية الحقوق بجامعة دمشق، وبحقه أستاذاً عليَّ طالباً.. أن أفيه بعض حقه مع أساتذة أجلاء وفقني الله أن أدركهم في الجامعة، وما أزال أنهل من ينابيع علمهم الثرة الصافية؛ فأستاذي الجليل الشيخ مصطفى الزرقاء فقهنا في المعاملات بقواعدها الشرعية والقانونية، وعلمنا الغوص في أعماق النص ليستقيم الاجتهاد وتصح المقارنة؛ وأستاذي الجليل الدكتور معروف الدواليبي علمنا أصول الفقه وتاريخ القانون، فعلمنا التخريج والاستنباط، وحَصَّننا من شبهة تأثر الفقه الإِسلامي بالحقوق الرومانية؛ واستطاع أستاذنا الدكتور السباعي (يرحمه الله) أن يشرب نفوس الطلاب المسلمين وغير المسلمين تعقيدات الحجب والرد والعول والحرمان؛ بعبارة بسيطة ودعابة لطيفة؛ وأخذنا عن أستاذنا الدكتور البارودي علم الحقوق الإدارية والدستورية، إثر وقف الدستور بمواسم الانقلابات المتوالية، فآثر إلقاء محاضراته في لمحات من الفكر السياسي حول الفرد والدولة، سابراً أغوار التاريخ ليغرس في عقول الطلاب مبادئ مقدمات الدستور التي يستمد منها قواعده الطبيعية، والتي هي أعلى من الدستور..
- استطاع أستاذنا النأي بنا عن بؤرة التسلط على الفكر الدستوري إلى فكرة الفرد والدولة وفلسفتها في الوعي الأوروبي، ليعلمنا أن الحرية فوق كل قوة سلطوية، شارحاً النظريات المختلفة بمزيج من العلم والفكاهة وبساطة محببة..، فلا تخلو محاضرته عن ملحة من اعترافات جان جاك روسو، أو عن عبقرية، أو ربما جنون جون لوك..، حتى لا يرسخ في ذهن الطالب أن الفلاسفة لم يخطئوا أبداً.
- ومن هنا عرفت أستاذنا البارودي.. أستاذاً موسوعياً يجول بنا بين أفانين الفكر السياسي والدستوري والإداري، في العصور الرومانية واليونانية والإِسلامية؛ بلغة فصيحة بليغة لا لحن فيها ولا عوج، لا يوجز فيخل ولا يسهب فيمل؛ وقد ألف بأسلوبه السهل الممتنع - إن شئتم فهي أدب في القانون أو قانون في الأدب - وجيزة في الحقوق الإدارية، ومطولة في الدستورية، ولمحات من الفكر السياسي حول الفرد والدولة قبل الثورة الفرنسية وبعدها، وتخرج في جامعة دمشق كثير من الطلاب على يديه، ثم في جامعة الملك محمد الخامس بالرباط.. بلغوا شأواً عظيماً ومناصب رفيعة في بلادهم، ومنهم الوزراء والعلماء.. خاصة في المغرب وموريتانيا..
- ومن باكورة إنتاجه العلمي عن الشباب، كتب بحثاً باللغة الفرنسية عن الانتداب والوصاية كحلقة من الحقوق الإدارية الدولية، قدمه لجامعة جنيف للحصول على شهادة الدكتوراة في الحقوق؛ وعهد إليه بالأمانة العامة للمؤتمر العربي الأول للعلوم الإدارية المنعقد بدمشق عام 1957، برئاسة الجامعة العربية، وشارك وهو الأستاذ الجامعي في عدد من مؤتمرات المعهد الدولي للإدارة العامة؛ فمتعمق في اللغة الفرنسية وآدابها، وأحسن اللغة الإسبانية حتى حاضر بها وألمَّ بشيء من الإنجليزية.
- وكما كان محامياً أمام القضاء - وخاصة الإداري يقارع الحجة بالحجة حذق الأستاذ العالم وبلاغة الكاتب الأديب - صار مُحامياً أمام المجتمع الدولي لما حمل عبء استقطاب الجماهير، واستعداء المجتمع الدولي لدولة عربية استردت اعتبارها وسيادتها صبيحة يوم 28 أيلول عام 1961؛ فكسب لها اعتراف الدول الكبرى والنامية بحنكة الوزير السياسي والعالم الدستوري؛ وارتقى بمهارة الإداري بالمؤسسة الإعلامية في الدولة، فرفع درجة مديرية الدعاية والأنباء والإذاعة والتلفزيون والمطبوعات إلى وزارة؛ وكان أول من سماها وزارة الإعلام، ثم حذت حذوه بعدئذٍ الدول العربية الأخرى.
- وكان صلباً في الحق، حافظ المبدأ، دامغ الحجة، بليغ الخطاب، قوي المنطق - ولا يزال وكتاباته الصحفية تشهد بنفسها - ولم يكن متعصباً حسب الهوى، وإنما يميل حيث يراه الحق، فلم يتوان بالانقلاب عن تأييد الوحدة إلى تقريع قادتها عندما انحرفوا عن الدستور وأساءوا الإدارة، متبعاً وصية الخليفة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، بأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
- وإذا صح القول: فإن لكل من مسماه نصيباً، فإن طبع أستاذنا الكريم لا يزال بارودياً سريع الاشتعال، شديد الانفجار، قوي الانفعال..، عندما يرى أن دينه أو وطنه أو سمعته يدنوه الأذى؛ ولا عجب في ذلك فهو ابن الحي الدمشقي الشعبي العريق، ولدته أمه فيه مع أهازيج الثوار على المستعمرين، ورباه أبوه المزارع على حب الأرض والوطن، وعلمه شيخ الحي القرآن الكريم، وغرس فيه عقيدة التوحيد ومبادئ الإِسلام؛ وقد شهد مصرع أخيه الشهيد الدكتور مسلم البارودي أثناء قيامه بواجبه الإنساني، وإبان اعتداء المنتدبين المستعمرين يوم 29 أيار عام 1948 على أحياء دمشق وندوة نوابها، فاعتز بكرامته وحسن سمعته، وظل ثائراً كما ولدته أمه بين الثوار؛ وكان لا بد لفكر دستوري متحرر، وإداري متطور، وعقل قرآني متنور..، إلاَّ أن يصطدم بعسكرة الفكر السياسي، وبلبلة النهج الإداري، والانحراف عن الطريق القرآني؛ فتعرض - مع عدد من أمثاله عقيدةً ومنهجاً - لعقوبة إن سألوه عنها - وهو أستاذ في الجامعة - في امتحان لرسب!! لأنه لم يعرفها في قاموس الحقوق الدستورية والإدارية، ولم يُخبرها بقانون العقوبات، سموها العزل المدني؛ ثم ألحقوه بالسجن بعد أشهر لعله يتلقى دورة تدريبية فيه بالإطاعة؛ فأصبح الأهل غير الأهل والمقام غير المقام، فيمم وجهه شطر المغرب العربي؛ لأن عقوبة العزل ودورة السجن لم تؤهله للبقاء في جامعة دمشق؛ وأقام في المغرب عقداً من الزمن، يدرِّس في جامعة الملك محمد الخامس في الرباط الحقوق الدستورية.
- وشاء الله أن ألتقي به في دمشق بعد عودته من المغرب في أوائل السبعينات، وقد استأنف مهنة المحاماة والتحكيم الدولي؛ فكنت أتعلم منه وأنا على منصة القضاء كما كنت وأنا على مقعد الدرس؛ وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فولى وجهه شطر المسجد الحرام، وأقام في الرياض مدرِّساً في معهد الإدارة العامة، ثم مدرِّساً للتربية الإِسلامية والفكر السياسي في الإِسلام بجامعة الملك سعود؛ وكان من حسن حظي أن ألتقي به مرةً أخرى وأعتز بصداقته، ومن حسن حظ ولدي أن كان له شرف التلمذة عليه في هذه الجامعة، وقد كسبناها والداً عن والد منه.
- وقد توطدت المعرفة بالرياض بالأستاذ القديم، فعرفته صديقاً وفياً، وعالماً كبيراً، وكاتباً بليغاً، وشاعراً مرهفاً، يغشى منتديات العلم والأدب والمجالس الاجتماعية، حباً في العلم والناس، فأحبه العلم والناس؛ وكان محط الأنظار في ندوة الخميس للشيخ عبد العزيز الرفاعي (يرحمه الله ويسكنه فسيح جنانه) وكذلك في منتدى الأحد في منزل الدكتور راشد المبارك، يحرص على المواظبة مستمعاً ومشاركاً؛ فقد أحيت ندوة الرفاعي مربد البصرة في الرياض فسيحيا ذكره - إن شاء الله - بما أتى به، وأعادنا مجلس المبارك إلى عهد المأمون، أو دار الحكمة، أو قصر الحكم، فاعتصرت الزمن هذه المجالس وجمعتها في الرياض، كما اعتصرت هذه الندوة المباركة الزمن وأعادت.. "أسواق الحجاز" و "عكاظاً" و "ذا مجنة" و "ذا مجاز" إلى الحياة مرةً أخرى؛ وأستاذنا الفاضل من أبرز مرتاديها ومريديها.
- فقلنا: "وألقت عصاها واستقر بها النوى" ولكن أستاذنا الوثاب لم يخمد ثورته ستين عاماً أو زد عليها قليلاً؛ ولعل الترحال بين مغرب ومشرق قد تمكن من نفسه فأعجبه أو أدمنه، وقد حال التقاعد دونه واستمرار العمل التعليمي.. وصار ينفق وقته في غربة قهرية، في كتابة مقال أو قراءة صحيفة، فأضنت هذه الغربة - غير القسرية - نفسه، وإذ به يشكو إليَّ شعراً بتاريخ 9/5/1410هـ شدة الكربة في الغربة فيقول:
ضن البريد عليَّ بالأخبارِ
أخبار صفوة صحبي الأخيار
ثلثا مشاهدة الصحاب سطورهم
أما يدي حملت عصا التسيار
ومضيت أضرب في البلاد مشرقاً
طوراً وغرباً آخر الأطوار
ما أن أقيم ببلدة حتى أغادرها
أضيع العمر في الأسفار
كم قد رصدت حقيبة يأتي بها
ساعي البريد صباح كل نهار
فإذا الَّذي فيها توزعه الجوار
فسرهم يا حسن حظِّ جواري
أأبا فراس فيم تقطعني وأين النثر أين روائع الأشعار؟
وحديث مثلك نعمة يحظى بها
مثلي تخفف غربتي عن داري
 
- والآن.. في هذا الموقف الكريم، وفي هذا الحفل المبارك أكرر دعوتي لمعاليه لما قلت له:
وجه قلوعك نحو الدار والوطن
هذا فراقك لا يخلو من الشجن
واخفض شراعك فالأمواج عاتية
لكنها تختشى من حنكة السفن
إن الَّذين يرون العز في نقل
كانوا يسيحون في أرض بلا محن
كانوا يسيحون لا "فيزا" تعطلهم
أو أنهم خالفوا منظومة السكن
إن التنقل في بحر وفي جبل
إن كان في يسره يشفي من الحزن
ليس الغريب الَّذي قـد غاب عـن وطـن
يسعى إلى رزقه سعياً بلا وهن
لسـت الغريب الَّذي حـار الزمان بـه
إن الغريب غريب الدين والوطن
كل النسور التي غابت لرحلتها
لا بد من عودة للعش والوكن
الدار دارُكم والأهل أهلكم
والعيشُ بينكم كالعيشِ في الفنن
إنا لقوم بنوا في الشام موطنهم
أنعم بموطنهم في الشام واليمن
 
- وإني لأرجوه أن يستجيب فيعود إلى دار الإِسلام فيصب خبرته على مائدة العلم، وفي هذا المكان وفي هذه الدار منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال؛ جعلنا الله من الأولين وقربنا من الآخرين، وأدام على أساتذتنا الكرام صحتهم وعافيتهم، وأمد في عمرهم، وأعانهم على تأدية رسالتهم التربوية؛ فهم الخبراء حقاً.. الَّذين أتاهم الله من فضله ويتبعون أحسن ما علموا، وينفعوننا بما عملوا؛ وليس الخبير من كان علمه لكنة، ومعرفته رطانة؛ فسلام الله عليكم، وشكراً جزيلاً لصاحب الندوة العامرة وللحضور الأكارم؛ وأكرر دعائي بأن يهنأ مغتربنا في إقامة بين مجتمعه وأهله، وأن يرد غربته لتزول كربته، إنه سميع مجيب.
- والسلام عليكم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1088  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.