شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خواطر حول تكريم الأدباء (1)
بقلم الباحث الأستاذ: وديع فلسطين
عضو الهيئة الاستشارية لمجلة الضاد
إذا رتبت فئات المجتمع من حيث حظوظها في الحياة، فالمؤكد أن المفكرين والأدباء لا يظفرون إلا بأدنى الحظوظ، فقد يشقى الأديب طوال عمره ولا يجد إنصافاً، بل لعلّ الجحود يطارده حتّى بعد الممات، ومن هنا تنبَّهت هيئات وأفراد لتكريم الأديب في حياته، منها هيئات رسمية تمنح جوائز بأسماء ومسميات شتى، ومنها هيئات أهلية يضطلع بنشاطها أفراد حاولوا بدورهم أن ينصفوا الأدباء والمفكرين بمنحهم جوائز مادّيَّة في مهرجانات هي في كثير من الأحيان أشبه ((بالزفة)) تمتد فيها خوانات الطعام في فنادق النجوم الخمس وفي العواصم المختلفة، ولكن يعيب هذه المحاولات جميعاً أن المشرفين عليها سواء أكانوا يمثلون جهات رسمية أم مجرد أفراد، هم بشر لهم ما للبشر من أهواء وانحيازات يصعب البرء منها عند اتخاذ قراراتهم بالتكريم، ولعلّ أصرخ مثال لذلك أن أستاذنا الدكتور شوقي ضيف تعرَّض للرسوب ثلاث مرات في لجان التحكيم قبل أن تتشرف الجائزة به، في حين فاز بها قبله تلاميذه أو من هم بمقام تلاميذه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى يلاحظ مثلاً أن اليساريين هم أكثر الناس احتكاراً للجوائز المالية السخية، وهي ظاهرة لا تعليل لها، سواء أكانت من صنع المصادفات الملفقة أم من نوازع الهوى، ويلاحظ كذلك، أن جوائز الشعر ـ ولا الشعر إلا الموزون المقفى ـ تذهب إلى الزجالين وإلى أصحاب المنشورات السياسية وإلى الذين يكتبون ما أسميه ((بالخزعبلات الشعرية)) ثمّ إن التكريم يذهب عادة إلى أفراد معدودين في مواسم مقررة، ويتخطى كثرة كاثرة من مستحقي التكريم، سواء أكان مادياً أم معنوياً، ومع ذلك، فأنا أقول دائماً إن كل خير يصيب الأدباء ـ ولو خطأ ـ ينبغي الترحيب به ما دام الأدب والأدباء تواضعت أقدارهم في مجتمع غلبت عليه السطحية وانشغل بكرة القدم وشخلعات المسلسلات.
ندوة الاثنينية بجدة
سقت هذه المقدمة لأتحدث عن نموذج آخر من نماذج التكريم ابتدعه الشيخ عبد المقصود خوجه في ندوته الأسبوعية كل يوم اثنين ـ ولهذا عرفت (( الاثنينية )) والتي يعقدها في جدة منذ عام 1983، والشيخ عبد المقصود قارئ جيد بصير ـ وهو المؤهل الأول الذي يستعان به في الحكم على حملة الأقلام في المعمور العربي، لا تهمه الأضواء المسلّطة بحق أو دون حق على زيد أو عبيد من الناس، ولا يعترف بالتخوم الجغرافية التي تفرِّق بين الأدباء والمفكرين، بل يعتبر الساحة الثقافية وطناً واحداً، فيلغي بذلك كل الهويات المدوّنة في جوازات السفر، ويعامل ضيوفه من الأدباء والمفكرين باعتبارهم رموزاً تنتمي إلى أسرة واحدة، وإذا كانت الأبواق في ما مضى تتحدث عن عالم يمتد من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، فإن ((دُنيا)) عبد المقصود خوجه قد اتسعت وتجاوزت هذا العالم إلى أي بقعة يعيش فيها شاعر أو مفكر أو أديب، حتّى أستراليا وحتى البرازيل وتعتبر أوروبا ((فركة كعب)) بالنسبة إلى هذا العالم المترامي الأطراف.
ومع أن (( الاثنينية )) ما زالت نشاطاً فردياً وليس جماعياً، فإن الشيخ عبد المقصود خوجه يتعامل مع ندوته وكأنها مؤسسة ثابتة الأركان لها تقاليدها غير المكتوبة، ودستورها المستمد من مبادئ الضاد السامية، ونظامها الذي لا تحيد عنه، فغايتها الوحيدة النبيلة هي اختيار كل من يستحق التكريم من هذا المعمور العريض، ودعوتهم إلى جدة لتقديمهم في ندوة الاثنينية أمام جمهور يضمُّ صفوة كريمة من عشاق الأدب، وهم قد يبلغون المئات عداً، جاءوا من بقاع في الجزيرة ثقة منهم بأن ندوة التكريم تستأهل المشاركة فيها.
ورغبة في انتظام نشاط هذه الندوة التي تنعقد أسبوعياً، فإن راعيها الشيخ عبد المقصود خوجه يعدُّ برنامجاً لأشهر مقبلة لاستضافة من يختارهم، سواء من خارج المملكة العربية السعودية أو من داخلها، وحسبك أن تعرف أن المختارين للتكريم يختارون بأشخاصهم وليس بمناصبهم أو بوجاهاتهم الاجتماعية، وإنما بانتمائهم الأصيل إلى قيم الضاد وليس هدمها بدعوى التجديد والإبداع والتيسير ـ وليمت سيبويه غير مأسوف عليه ـ بحسب الصيحة التي سمعناها واستنكرناها مؤخراً.
فارس الاثنينية
فإذا انعقدت الندوة في موعدها الأسبوعي في فناء فسيح تكتنفه الأشجار الباسقة وتزينه الورود الجميلة، تمّ التعريف ابتداء ((بفارس الاثنينية))، وسرد موجز لسيرة حياته وأعماله، وهي بيانات موثقة تفيد المشتغلين بالبيبلوغرافيا، ثمّ يلقي راعي الاثنينية الشيخ عبد المقصود خوجه كلمة في الترحيب بالضيف المكرّم وفي إبراز جهوده المبذولة على مدى العمر، وفي بسط المسوغات التي دعت إلى تكريمه متى كان الضيف من الذين جحدت أعماله حتّى في بلده أو من الذين تنكبتهم أحكام النقاد فظلمتهم ظلماً بيناً، فغاية خوجه، التي يحتشد لها بكل أريحية نفس، هي إنصاف الذين لم يحالفهم الإنصاف، والإشادة ((بفارس الاثنينية)) أمام هذا الحشد الحاشد من الحاضرين المشوقين لسماع كل كلمة تقال في هذه المناسبة.
ثمّ يتبارى المتكلمون شعراً ونثراً في استقبال الضيف والتحدث بما يعرفونه عنه، ولا سيما إذا كانت تربطهم به علاقات شخصية عميقة تلقي أضواء على حياته وجهوده ومسيرته، وقد يفاجأ الضيف بوصول فاكس من الداخل أو الخارج مشاركة في تحية الضيف، بل قد ترتجل قصيدة في الترحيب به من متتبع لآثاره أو معجب بها.
ثمّ يلقي المكرم كلمته، فيتحدث فيها عن رحلة المكابدة التي عاناها في حياته، وعن صنوف المحن التي مرّ بها، كما يتحدث عن اختياراته، واختباراته والمحطات الرئيسية في حياته، ففي هذه المناسبة يسوق شهادة من واقع تجربته في الحياة بحلوها ومرّها، ويصارح الناس بكل ما يعتمل في صدره، فالندوة منبر مفتوح بغير رقابة أو خطوط حمراء، والحرية فيها متاحة وبلا قيود، وكل الحاضرين الذين جاءوا من تلقاء أنفسهم غير مسخَّرين ولا تمَّ حشدهم حشداً، آذان صاغية وعيون مشدودة إلى الضيف لأنها تراه لأول مرة عن قرب وبغير تصنَّع.
ورغبة في إشراك الجمهور في الندوة بإيجابية وفاعلية، فإن باب الأسئلة يفتح على مصراعيه بل مصاريعه، فتوجَّه إلى الضيف الأسئلة مهما امتدت السهرة، فالقوم لا يريدون أن تفوتهم الفرصة.
تسجيل وقائع التكريم
وحتى لا يتبدد كل هذا الكلام في الهواء ويضيع في تلافيف النسيان، فإن الشيخ عبد المقصود خوجه يحرص على تسجيل كل وقائع التكريم بآلة التصوير وبشريط الفيديو وشريط الصوت، ومتى اجتمعت لديه حصيلة عدد من حفلات التكريم نشرها بكل وقائعها في سجل ضخم يصدر في طباعة فاخرة مزوَّداً بالصور التذكارية التي التقطت في الحفل، وقد صدر حتّى الآن عشرون مجلداً من مجلدات التكريم ضمت وقائع 259 حفلة رصدت لتكريم الأدباء، عدا 5 ندوات ((على ضفاف الاثنينية)) ويقع هذا السفر في 750 صفحة.
وهذا الضرب من ضروب التكريم يصيب كثيرين ممن لم يسعفهم الحظ في سباقات الجوائز ومهرجانات ((المتمهرجين)). وحسب الأديب أن يعرف أنه اختير لجدارته الشخصية وأنه لن يعرض نفسه في مماكسات المسابقات فقد يفوز وقد يخيب، وأن التكريم سعى إليه سعياً حثيثاً دون أي جهد من جانبه، وأن الجمهور الذي واجهه جاء خصيصاً ومن مسافات بعيدة لا بقصد المجاملة بل لكي تكون له حظوة مشافهة من أيد تكريمه، فهذا التكريم لا يحتاج إلى بذل وساطات أو التوسل بالعلاقات العامة أو الخاصة، وإنما هو تكريم بقصد التكريم ليس إلا.
وبالنظر إلى ما يمتاز به راعي الاثنينية من نزاهة مطلقة وسمعة ناصعة، فإن اختياراته تحظى بالتقدير من جانب جمهور الندوة، كما تعتبر هذه الندوة في مدينة جدة حدثاً ثقافياً جليلاً يحرص الناس على متابعته والمشاركة فيه.
ومن واقع تجربتي الشخصية أقرر أنني كنت أتهيب هذه المجابهة مع حشد أنا مبتوت الصلة به، لكن الحفاوة التي نعمت بها من راعي الاثنينية انعكست على جمهوره، فألفيت نفسي محوطاً بأصدقاء غمروني بلطفهم وودهم، وإن كنت لكثرة عددهم لم أستطع التعرف إلى أحد منهم، وما أحلى أن يجد المرء نفسه مطلوباً لذاته، وليس لمنصبه، وأن تكريمه ليس من قبيل المداهنة أو الرياء أو ارتجاء مثوبة.
هذا نموذج فريد من نماذج التكريم لا أعرف له مثيلاً في مجتمعنا الثقافي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :324  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 203
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل

[محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324هـ - 1360هـ): 2001]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الرابع - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج