شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في اثنينية الشيخ عبد المقصود خوجه بجدة
الأشياء لا تقرأ فرادى في حفل تكريم القحطاني (1)
بقلم: عامر طهبوب
اعترف أني لم أهتد إلى البدايات، كما لم أعرف إلى أين سأنتهي عندما أمسكت بقلمي وقد تزاحمت الأشياء والصور والأفكار، واجتمعت كلها تطرق رأسي كمهدة، ولم أعرف طريقي إلا عندما قفزت إلى ذاكرتي مقولة رسول: ((المقدمة تشبه إلى حد بعيد رجلاً بديناً يجلس في الصف الأمامي من قاعة المسرح ويضع على رأسه قبعة.. ليحجب عنا الرؤية)). كنت قبلها قد فقدت بوصلتي وقد غرقت في ترتيب الأولويات: هل أعطي الأولوية للتأريخ أم للجغرافيا، للمكان أم للزمان، للرمال أم للرجال؟ هل أرتب الأشياء على طريقة الهرم المقلوب، أم أسير حسب التسلسل الزمني للحدث؟ لقد أنقذني رسول بإعفائي من المقدمة، والأفضل من المقدمات أن تكتب على الورق ما يرد إلى ذهنك دون تفكير أو ترتيب، وكثيراً ما نجلس إلى أصدقائنا فيقال: والله لا أعرف من أين أبدأ. إبدأ من حيث ما يرد إلى ذهنك، المهم أن تبدأ، لهذا تجد الكثير من البشر لا يصل إلى النهايات، فقط لأن البعض يستغرق حياته كلها بالتفكير في نقطة البداية.. ويموت. وسرعان ما راودتني فكرة. ألا أكون أحد هؤلاء العقلاء. المهم أن أبدأ وسيقودني المبتدى إلى المنتهى. فالذي يجتهد ويخطئ ويحصل على أجر واحد أفضل بكثير من ذلك الذي لا يريد أن يعلن عن أفكاره خوفاً من ألا يصيب ويحصل على أجرين. قلت لنفسي: نعم، لقد خلق الله الرجل على هيئة سكين. السكين هي التي تعطي الرجل معناه، وسأحاكي بكتابتي ذلك القحطاني ((المجنون)) الذي كان اسمي آخر اسم في شجرة قبيلته، فهو ينتسب في النهاية إلى عامر!
إذن سأترك نصفي العاقل الذي طالما استخدمته في الكتابة وقلما استخدمته في حياتي، سأتركه في البيت وأكتب بالنصف المجنون كما يفعل. دون تشبيه، حنا مينه، وكما يفعل الرجل السكين في ((الحزام)). و ((الرجل السكين)) هو أحمد بن سعد بن محمد بن معيض بن ظافر بن سلطان بن عوض بن محمد بن مساعد بن مطر بن شين بن خلف بن يُعلى بن حمد بن شغب بن بشر بن حرب بن جنب بن سعد بن قحطان بن عامر!
هكذا قدم القحطاني نفسه، وقد سألت نفسي حينها: هل قطعت ألف ميل ونيف وقد ((لضمت)) قراءة البقرة في آل عمران على متن تلك الطائرة لأسمع نسب الرجل؟ وهل حرصت فور وصولي مطار جدة للانتقال مباشرة إلى ذلك المنتدى الثقافي لأتعرف على أسماء أجداد أحمد أبو دهمان بهذه الصورة المفصلة؟ وفي الحقيقة ليس انتقاصاً من الرجل الذي ينتسب بالفعل إلى واحدة من أنبل القبائل في شبه الجزيرة العربية، ولكن لظني أني سأستمع إلى تجربة الرجل الذي عاش في فرنسا ثلاثة عقود من الزمن كتب خلالها ((الحزام)) الذي نشرته عام 2000 دار غاليمار لأول كاتب في تاريخ شبه الجزيرة العربية يكتب بالفرنسية، وإني سأستمع إلى تجربة مشاركته بالاحتفال بمناسبة مرور عشرين عاماً على بدء كتابات تانتان الشهيرة للأطفال حيث كان العربي الوحيد هناك، وقد حصل الرجل على المركز الثاني بجائزة القارات الخمس للأدب المكتوب بالفرنسية، ولظني، ولسوء ما ظننت. أن لا علاقة لـ ((الحزام)) بفرنسا، وأن لا علاقة تربط باربس بقرية آل خلص ببلاد قحطان، أو بين السوربون التي تخرج فيها ومدرسة القرية التي كان عدد طلبتها عندما يصطفون في الطابور الصباحي أقل عدداً من عدد أحذيتهم، تلك المدرسة التي رأى فيها آباء آل خلص ـ عند افتتاحها ـ حرباً معلنة من الحكومة عليهم، ذلك أن قريتهم التي صمدت لوحدها أمام الجيش العثماني وانتصرت عليه، تجد نفسها الآن مجبرة على تسليم أولادها لهؤلاء الأجانب الذين يبولون واقفين. (شكل مشهد المدرسين الذين وصلوا إلى القرية وهم يرتدون بنطلونات صدمة للأهالي. وبخاصة عندما شاهدوهم يبولون للمرة الأولى وهم واقفون))!
من السخف ألا أجد علاقة بين الأشياء. فما علاقة مصطفى سعيد ذلك الأفريقي الذي يمر بطفولة شريرة مع آن همند أو إيزابيلا سايمور في هايد بارك لندن؟ ما علاقة نهر النيل والتماسيح التي تمشي في شوارع الخرطوم عند القيلولة مع رائحة مسز روبنسون التي اشتمها مصطفى عندما عانقته تلك المرأة الإنجليزية في محطة القطار في القاهرة وهو ما زال في سن الثانية عشرة.. وما زالت رائحتها تدغدغ جسده؟ وما علاقة رائحة الند والبخور والعطور الشرقية النفاذة في غرفة مصطفى في لندن، تلك الغرفة التي وصفها الطيب صالح بأنها مقبرة تطل على حديقة، ما علاقة إيزابيلا مع تلك المرأة السودانية التي كانت تدخن وتحلف بالطلاق في مجالس الرجال وتسعى لتزويج ابنتها من رجل يعاشرها من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر؟ ما علاقة بيكاديللي سكوير مع تلك الساحة التي كان يجتمع فيها الرجال في تلك القرية السودانية المنسية على نهر النيل؟ أليس من السخف ألا نجد علاقة بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، وألا نجد علاقة بين آل خلص وباريس؟ كيف لا تكون هناك علاقة إلا إذا نظرنا إلى باريس كحجر، وإلى آل خلص كخيمة في صحراء. باريس ليست فقط عاصمة للورود والعطور والنساء والكستناء المغطاة بالسكر، ولسنا براميل نفط أو حقلاً للغاز الطبيعي ـ الإنسان وحده أينما كان هو الشيء الذي ينبض بالحياة والأمل والوهج والدفق، والقيمة كل القيمة بالبشر لا بالحجر، وبجوهر الإنسان، والأمور تقاس بمعانيها، والكلمات بدلالاتها وظلالها، والأوطان برجالها وجبالها ورمالها ونسائها وحكمائها وعيون أبنائها!
أحمد أبو دهمان هو أول سكين يكتب بالفرنسية في شبه الجزيرة العربية، لكنه خرج من رحم قرية كل رجالها سكاكين، و ((الحزام)) ما كانت لتكون لو أن كاتبها انسلخ منذ عاش قبل أكثر من ثلاثين عاماً في باريس عن أمه التي غذى روحه برائحتها، وعن ((سبتة)) أبيه التي كان يعلق فيها مفاتيحه، حتى إذا باغته ضيف ولم يبق لدى زوجته شيء من القهوة والطحين والسمن والعسل، انسل إلى مخزونه الاحتياطي ليحمي به شرفه وسمعته. وما علاقة النساء الجميلات اللواتي شاهدهن رسول حمزاتوف في باريس ولندن وجنيف وأمستردام وروما ونيويورك مع الفلاحات اللواتي كن يحملن الحطب في ((تسادا))، تلك القرية الجبلية التي ولد فيها رسول، وهو يعتذر لكل النساء الجميلات اللواتي شاهدهن في عواصم الأرض، ويقول إن الفلاحة الداغستانية التي تحمل على ظهرها حزمة الحطب هي في عيني أجمل النساء، إذن من لا يعرف نسبه لا يرفع صوته، والوطن ليس كما يروج الأمريكيون: وطنك حيثما تضع قبعتك. ولكن الوطن هو حيثما تكوي الشمس عظام أجدادك. هذا ما تعلمه أحمد في قريته، وقد قال إن أهل القرية يعلمون الطفل نسبه قبل تعليمه قراءة القرآن الكريم. وقد قال رسول: أول ما يتعلم الطفل عندما يولد كيف يكون سفيراً لبلده. باختصار فقد عاش بن قحطان 28 عاماً في باريس لكنه لم يفقد ذاكرته، ولم ينس ((حزام))، سر القرية ولغزها الكبير الذي كان يدعو بعينيه، لأن فمه مملوء دائماً بالتمر والزبيب. يقول حزام: يلزمنا أن نترك أثراً في هذه الأرض حتى لو اقتصر الأمر على تقبيل شجرة. إذن من يفقد الذاكرة يفقد الذائقة.. ويصبح بلا لون ولا طعم!
كانت السعادة تغمرني، وعبارات أحمد ترشقني كموج البحر وأنا أسمعه يتحدث عن الصقور في قريته: كانوا يربونا لنكون صقوراً. في تلك اللحظة حملتني الذاكرة مرة أخرى إلى ((تسادا))، وتذكرت رسول: يجب أن تتوفر رصاصة للاحتفاء بمولد كل طفل، والسؤال: لماذا؟ حتى تعلم النسور المعشعشة في الجبال البعيدة أنه قد ولد لها أخ جديد، وأن النسور في داغستان قد زادت واحداً. هؤلاء مجانين. والمجانين قلة وقد اعتدت أن أطلق هذه المفردة على المبدعين الذين أحبهم؛ على الكتّاب الذين يرقصون بالقلم، على أولئك الذين يكتبون بالسكين.. كأبو دهمان ومنيف وجبرا ومينه وعبد القدوس وكنفاني ومحفوظ ورسول، أو الذين يرسمون الكاريكاتير بالسكين كناجي العلي، والذين يكتبون الشعر بحد السيف كأحمد مطر، والأمثلة كثيرة عن الأحبة الذين يطيرون فيحلقون، ويرقصون ويغنون ويضحكون ويغضبون ويبكون.. ويمتعون!
ومن جنون أحمد ما جاء على لسان زوجته الفرنسية عندما سئلت فيما إذا كانت قد ساعدت زوجها في كتابة ((الحزام)). قالت: كيف أساعده! أنا عندما تمطر الدنيا أقول: هطل المطر، أما أحمد فيقول: صعد المطر! قلت لأحمد: ذكرتني برسول. ضحك وقال: والله قيلت. إذن عندما أذكر هؤلاء الذين تنبض كتاباتهم بالوهج والحياة والموسيقى، فإني أدعو الله أن تلد الأمهات في هذه الأمة بأمثالهم. هؤلاء ومثلهم فقط هم الذين يمتلكون القدرة على تحريك الماء الآسن في حياتنا الثقافية والفكرية، فكثر هم الذين يفسدون نقاء الصفحات البيضاء بخربشاتهم، وكثيراً ما تقدم لنا كتبهم على ورق مصقول بأغلفة فاخرة. هؤلاء يشبهون إلى حد بعيد البنادق العتيقة الفارغة من الرصاص، لكنهم على أي حال بنادق، تماماً مثل أولئك الرجال الذين يتزوجون وتنفصل عنهم زوجاتهم بعد سنوات لنكتشف أن الزوجة ما زالت عذراء، لكنهم في الأول والآخر رجال. وهنا أذكر ما قاله أحمد في الحزام في معرض حديثه عن الرجل.. الرجل سكين، كله سكين: نظراته، أفعاله، أقواله، وحتى نومه يجب أن يكون حاداً كالسكين، سكين الرجل قلبه وعقله، حياته وموته، في حين يجب ألا نلوم المرأة على شيء، السكين هي التي تعطي الرجل معناه، هذا ما يقوله أحمد الذي عندما انتقل من قريته إلى الرياض اضطر إلى فتح خط هاتفي ساخن مع شقيقته الكبرى، وقد كان ألف هو وأبناء قريته أن يغنوا مع النساء، وكانت كل بنات القرية أخوات لكل الرجال، وإن كان أحمد ذات يوم قد اشتم رائحة فتاة جميلة من بنات القرية كانت تعد شاباً بعد ختانه بـ ((تدراع)) نادر بعد الشفاء من الجراح..!
إذن فالأشياء لا تقرأ فرادى، ويعود الفضل في الجمع بيني وبين هذا ((الرجل السكين)) إلى المثقف السعودي الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه، ومن حق المضيف على الضيف الشكر والثناء، فقد قدم لي مضيفي كل أنواع الزاد في تلك الزيارة التي استغرقت تسعة أيام، وقد وطأت قدمي أرض جدة بعد ربع قرن من الغياب. كنت عام 1980 أحد طلبة قسم الإعلام في جامعة الملك عبد العزيز، لكني تخرجت منها بعد عام من الدراسة لأسباب عائلية وعدت إلى الأردن لأتخرج عام 1984 في دائرة الصحافة والإعلام بجامعة اليرموك. وصلت إلى جدة الأسبوع الماضي لتنشط ذاكرتي من جديد حيث عملت عام 1980، باحثاً في مركز أبحاث الحج التابع للجامعة، وقد أجرينا في ذلك العام استطلاعاً للرأي لحجاج بيت الله الحرام حول توجه الحكومة لهدم ما كان يسمى بالسوق الصغيرة المحيطة بالحرم المكي الذي شهد في ما بعد توسعة كبيرة.
إذن عدت إلى جدة بعد ربع قرن، لقد تغيرت المدينة، وربما فقدت وداعتها، لقد كبرت، وكأني كنت أريد أن يبقى المشهد كما هو، وكأني نسيت أنني كبرت أيضاً. بعد ساعة من وصولي كنت ضيفاً على اثنينية خوجه، ذلك المنتدى الثقافي الذي سيبلغ من العمر بعد ثمانية أشهر ربع قرن من الزمن. لقد رأيت جدة هذه المرة بعين مضيفي الذي شرفني في اليوم التالي بمرافقته بافتتاح معرض فن تشكيلي لعشر فنانات سعوديات في ((أتيليه)) جدة. كن يقفن إلى جانب أعمالهن ويشرحن رؤاهن وتوجهاتهن الفنية، وقد جمعهن معرضاً واحداً أطلقن عليه ((اتجاهات مختلفة)) وقد تجولت بصحبة الشيخ عبد المقصود خوجه الذي شهد بيته ميلاد ((بيت التشكيليين)) عام 1992 كل منهن لها ألوانها، واتجاهاتها ولمساتها. لقد أعجبني الاسم كما أعجبني الرسم، وليس الاختلاف في الاتجاهات فقط وإنما أيضاً في الجغرافيا: كل واحدة منهن جاءت من منطقة مختلفة من مناطق المملكة. إذن هناك فنانات سعوديات ملتزمات بكل معاني الالتزام. دينياً: مسلمات يعرفن حدود الله. وطنياً: الحس بالوطن والهوية يبدو لنا جلياً في لوحاتهن. فنياً: أعمالهن تتسم بالحداثة والنضج والعمق. وأمثال الفنانات العشر كثر، وأود أن أذكرهن بالاسم: وداد البكر، سميرة إسماعيل، ناهد العبد الرحمن، الأميرة غادة بنت خالد بن سعود، أمينة تقي، مضاوي البار، خديجة المقدم، سهام مقدم، هالة العماري وأمل الدوسري.
وهناك أيضاً سيدات أعمال سعوديات أثبتن وجودية حقيقية، وكذلك صحفيات وإعلاميات وكاتبات. وهناك تغيّر في المكان. ربما يكون التغير بطيئاً، لكن هناك تغير، وهو مدروس ومبرمج.
وأعود إلى البداية، فقبل ما يقارب ربع قرن التفت عبد المقصود خوجه إلى الجهد الذي قام به والده محمد سعيد عبد المقصود خوجه في النصف الأول من القرن الماضي عندما جمع في كتاب أعمال مجموعة من الأدباء في الديار الحجازية، وقد شاء الرجل أن يكمل مشوار والده في رعاية المثقفين وتكريم الأدباء والمفكرين والمبدعين والحكماء في هذه الأمة على اختلاف توجهاتهم، وقد بدأت الرحلة عندما جمع في بيته يوم الاثنين الثامن من نوفمبر عام 1982 مجموعة من المثقفين لتكريم رئيس تحرير جريدة أم القرى ومؤسس مجلة المنهل عام 1937 والتي ما زالت مستمرة في الصدور الأستاذ عبد القدوس الأنصاري.
ومنذ ذلك اليوم وفي كل اثنين يعقد المنتدى لتكريم علم جديد، وهكذا أطلق على هذا المنتدى الخاص المستقل اسم الاثنينية وقد عرفت بـ (( اثنينية خوجه )) نسبة لمؤسسها المثقف الشيخ عبد المقصود خوجه، والذي يطل على أسماء المكرمين الذين تم الاحتفاء بهم في أم ذلك المكان لا يملك سوى أن يدهش وأن يكبر هذا العمل الفردي، وأن يثمن استمراره وتطوره في زمن قل فيه الاهتمام بالقراءة والكتابة، ولكن الشعوب القارئة، كما يقول الرجل السكين. لا تسمع إلا الصوت المكتوب. المكرمون الذين جلسوا على نفس المقاعد في اثنينية خوجه كثر ويفوق عددهم 320 وربما من المفيد أن أذكر منهم مع حفظ ألقابهم، وهم على أي حال أعلام لا تحتاج إلى تعريف: عمر أبو ريشة، وأبو تراب الظاهري، وأبو الحسن الندوي، ويوسف القرضاوي، وزكي نجيب محمود، وسيد سابق، وعبد المجيد الزنداني، وعبد الله الغذامي، وعبد الوهاب البياتي، والطيب صالح، وأحمد ديدات، ومحمد عبده يماني، وعبد الله عمر نصيف، وعلي شلش، ورضا عبيد، ومحمد مهدي الجواهري، وفهمي هويدي، ومحمد سعيد البوطي، وأنيس منصور، ومحمد غانم الرميحي، وعبد العزيز التويجري، ومصطفى محمود، والقائمة كبيرة، وقد تم جمع وتوثيق الاثنينيات على مدى أكثر من 24 عاماً في مجلدات مطبوعة، وعلى أقراص مدمجة بالكلمة والصورة.
لقد أسعفني الحظ بحضور اثنينيتين متتاليتين ومتميزتين، كانت الأولى لتكريم صاحب ((الحزام)) الذي نشرته بالعربية دار الساقي في لندن، وقد جاء في معرض التكريم تأكيد مؤسس الاثنينية أن ((الحزام)) عاشت في غربة بيننا دون أن نعيرها اهتماماً مثل كثير من الأعمال التي إذا أصبح كتابها المغمورون ملء السمع والبصر، تشوقنا لقراءة منجزهم الثقافي بعد أن تتسابق دور النشر العالمية لترجمتها بعدة لغات، أو عندما يحصد مبدعوها جوائز عالمية، وتبلغ مكاناً علياً كأعمال يوسف إدريس والطيب صالح وغسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور وأدونيس وغادة السمان وغيرهم، مما يدعونا إلى ضرورة تكاتف الجهود لترجمة الأعمال الأدبية العربية إلى اللغات الأخرى. وقد رعى اثنينية أبو دهمان الدكتور سهيل القاضي رئيس نادي مكة الثقافي الأدبي.
أما الاثنينية الثانية التي سعدت بحضورها والتي تمت برعاية الدكتور رضا عبيد مدير جامعة الملك عبد العزيز الأسبق فقد كرمت بحضور مؤسسة الاثنينية وزير التجارة والصناعة السعودي الدكتور هاشم بن عبد الله يماني إثر انضمام المملكة العربية السعودية لمنظمة التجارة العالمية والتي خاض فيها المفاوض السعودي مفاوضات صعبة هدفت في النهاية إلى عدم التفريط بالحقوق والحصول على استثناءات تتواءم مع خصوصية المملكة بحيث تم استثناء حوالي 56 سلعة محرمة لا ترغب السعودية بدخولها إلى أراضيها. إذن فقد خرجت الاثنينية هذه المرة على الشأن الثقافي وانتقلت إلى الاقتصادي وربما السياسي أيضاً، لكن الحوار ضرورة في عالم يتغير، وقد أعجبت بوزير لا يحمل درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة هارفارد فقط، ولا يمثل منصباً سياسياً يخرجه من علمه، وإنما قدم الرجل بشكل مبهر شرحاً اقتصادياً مفصلاً وعميقاً وتوسع في الحديث بشكل فني ودقيق في تفاصيل الاتفاق مع المنظمة دلّ على فهم عميق لتفاصيل الاتفاق مع المنظمة وإدراك لأبعاد التغيرات الاقتصادية العالمية وأثرها على المنطقة.
وأعود إلى الثقافي، فعندما وصل وزير التجارة والصناعة من الرياض للمشاركة في الاثنينية اصطحبني الشيخ عبد المقصود خوجه إلى المطار الخاص في جدة لاستقبال الدكتور هاشم يماني. وفي قاعة الانتظار تجاذبنا أطراف الحديث في الثقافة والأدب، لكن عمر أبو ريشة بشكل خاص سيطر على تلك الجلسة، وقد حدثني ((أبو إباء)) عن إعجابه وصداقته الحميمة بعمر أبو ريشة، وكيف ذهبا معاً إلى حفل أقامه المغفور له الملك فيصل ذات عام في اليوم السادس من ذي الحجة لرؤساء بعثات الحج في مكة المكرمة، فوقف عمر أبو ريشة ليقول للملك فيصل رحمه الله، ((يا بن عبد العزيز))، فصمت الجميع وانتظروا أن يكمل عمر حديثه، ثم عاد بصوت قوي يقول: ((يا بن عبد العزيز)). وقد ساد الوجوم والترقب. أما أبو إباء فقد أصابه القلق، وبخاصة عندما عاد أبو ريشة ثالثة يردد ((يا بن عبد العزيز)).. يقول مضيفي: لم تعد لي السكينة إلا عندما أكمل عمر الأبيات:
يا بن عبد العزيز وانتفض العز وأصغى وقال: من ناداني؟
قلت: ذاك الجريح في القدس في سيناء في الضفتين في الجولان
ومن بين أبيات القصيدة ما قاله الشاعر:
أنا في موئل النبوة يا دنيا أؤدي فرائض الإيمان
أسأل النفس خاشعاً أترى طهرت بردي من لوثة الأردان
كم صلاة صليت لم يتجاوز قدس آياتها حدود لساني
كم صيام عانيت جوعي فيه ونسيت الجياع من إخواني
كم رجمت الشيطان والقلب مني مرهق في حبائل الشيطان
أنا من أمة تجوس حماها جاهلياتها بلا استئذان
مزقت شملنا شعائر شتى وقيادات طغمة عبدان
مرنتنا على الهزيمة والجبن وبعض الحياة بعض مران
فاستكنا لا بارك الله في صبر ذليل ولا بكاء جبان
إلى هنا انتهت الأبيات، أترى ماذا يمكن أن يقول عمر أبو ريشة لو كان بيننا اليوم!
إن جهود خوجه، والبابطين، والماجد، والعويس، والمجالس الأعلى للثقافة والفنون والآداب والتراث في المنطقة، والأثر الذي تركته وما زالت مجلة العربي الكويتية، ومجلة الدوحة سابقاً، وما تقوم به المؤسسات والهيئات العربية المختلفة سواء تلك التي تتبع الجامعة العربية أو الأهلية كمؤسسة الفكر العربي، إضافة إلى المنتديات والنوادي الأدبية والمراكز الثقافية المختلفة، هي جهود طيبة ومباركة لا يمكن التقليل من شأنها وتأثيرها. أضف إلى ذلك مراكز الأبحاث والتطوير المنتشرة في كل دول المنطقة تقريباً. ولكن رغم كل ذلك فإن هناك خللاً واضحاً يمكن الاستدلال عليه من خلال النظر إلى واقع الثقافة العربية وتراجع قيمة المقروء في أوساط الجيل الجديد وسيطرة ثقافة الاستهلاك على كل شيء. وأعتقد أن هناك خللاً في تفعيل أداء هذه المنارات الثقافية والفكرية كما أن هناك خللاً في التواصل فيما بين هذه المؤسسات والمنتديات، وهناك خلل في النخبة المثقفة، وإلا فعلى ماذا يدل هذا الترهل والنكوص والتخلف والتراجع في مسيرة هذه الأمة؟ أقول إن أزمتنا أزمة ثقافة، وأزمة مثقفين، وأزمة نخب فكرية، وليس بالضرورة دائماً أن تكون الأزمة في النخب السياسية على أن هناك أزمة تواجه هذه النخب أيضاً، وأخرى تواجه مؤسسات الحكم، ولا أبالغ عندما أقول إن هناك أزمة في الشعوب العربية نفسها، لقد تبلدنا وما زلنا نتخلف. أعرف أن الزمان ليس زمن هذه الأمة، ولكن من حقنا أن نسأل: متى سيأتي زماننا.. وكيف؟ يجب أن ننهض. ونحتاج أكثر ما نحتاج إلى تفجير أحزمة ثقافية وفكرية وعلمية ناسفة، وأن نعرف إذا امتلكنا السلاح.. متى وكيف نستخدمه!
استراحة مع الحبيبة
والله إني أحبك، كنت أغنية فريدة. لقد اشتاق كل دمي إليك أيتها الحلوة الشقية. اشتقت إلى صباحاتك. فتاة عذراء أنت تستلقي على شاطئ البحر عند صلاة الفجر. من حقك علي أن أذكر خيرك: كنت حنونة، وديعة، طيبة القلب، صافية السريرة، الصبا والجمال بين يديك يا غالية. أرجوك أن تحافظي على وداعتك وبهائك وطهرك.
أبلغي سلامي إلى كل أهلك والذين أحبهم لا تستثني أيتها الدوحة أحداً.. وإني أحبك!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1246  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 186 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.