شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ـ 19 ـ (1)
وغاب عن سمرنا ذات ليلة أحد أفراده.. فسألنا عنه.. فقيل لنا إنه مسجون.. لأنه.. وكان من ذوي المروءة.. ضمن شخصاً لا تستطيع أن تسميه رجلاً فإنه لم يرع للضامن حق ضمانه فتسبب في سجن زميل سهرتنا لأداء ما على ذلك الشخص التافه يتسكع على الناس ليضمنوه وهو مقرر في نفسه ألا يفي بما عليه.. وأن جهده أن يجد كبش الفداء يزج به في محله..
وأثارت الحادثة الموضوع.. والرأي فيه.. وهو هل يتأخر أصحاب المروءات عن الضمان يسبب سجناً؟ أو عن الشهادة تؤدي إلى حرج وتعطيل؟ أو عن التوسط في قضية تروى من صاحبها كطرف بغير حقيقتها الكاملة لدى الطرف الآخر؟.. إلى آخر ما تقضي به التزامات المجتمع بين الناس.. تسبب أنانية البعض بعدم الثقة فيهم أو في رواياتهم سقوط الواجبات.. والخوف من التورط في نجدة.. أو في فك ضيق..
وعند ذلك.. تنحنح شيخ الجماعة قائلاً.. لست أدري هل بدل الله الناس غير الناس.. والعادات غير العادات.. والطبائع غير الطبائع.. والرجال غير الرجال تبديلاً كاملاً تاماً بغير ما كان عليه من كان؟..
قلنا.. وكيف كان من كانوا؟.. قال لقد كان السلف يضمنون حتى على ما يوجب القتل فيوفون حيث يجدون الرجل يقدّر بأخلاقه ورجولته ما يفرضه عليه رد الجميل بمثله.. أو بأحسن منه مما لا يكاد يصدق الآن.
قلنا.. وما لديك في ذلك.. فأطرق هنيهة ثم قال:
يحكى أن النعمان بن المنذر جعل لنفسه يومين.. يوم بؤس من صادفه فيه قتله وأرداه.. ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه.. وكان رجل من طيء قد رماه حادث الدهر بسهام فاقته وفقره فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليرتاد شيئاً لصبيته ولصغاره.. فبينما الطائي في سبيل غايته إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه.. فلما رأى الطائي النعمان وعرف أن هذا هو يوم بؤسه وأنه مقتول لا محالة وأن دمه مكلول.. قال حيا الله الملك أن لي صبية صغاراً وأهلاً جياعاً وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم وقد أقدمني سوء الحظ فصادفتك في يوم بؤسك وأنا في طريقي إليهم فإنهم قريب من هنا وأنهم على شفا تلف من الطوى ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره.. فإن رأيت أن تأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحي لئلا يهلكوا ضياعاً ثم أعود إليك وأسلم نفسي.
فلما سمع النعمان صورة مقاله وفهم حقيقة حاله ورأى تلهفه على ضياع أطفاله رقّ له ورثى.. غير أنه قال له.. لا آذن لك حتى يضمنك رجل منا.. فإن لم ترجع أنت قتلناه.. وكان شريك بن عدي بن شرحبيل نديم النعمان معه.. فالتفت الطائي إلى شريك.. وقال له:
يا شريك بن عدي
ما من الموت انهزام
من لأطفال ضعاف
عدموا طعم الطعام
بين جوع وانتظار
وافتقار.. وسقام
يا أخا كل كريم
أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جد لي
بضمان.. والتزام
ولك اللَّه بأني
راجع.. قبل الظلام
فقال شريك بن عدي أصلح الله الملك.. على ضمانه.. فمر الطائي مسرعاً.. وصار النعمان يقول لشريك إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع الطائي.. وشريك يقول ليس للملك على سبيل حتى يأتي المساء.. فلما قرب المساء قال النعمان لشريك.. قد جاء وقتك.. قم فتأهب للقتل.. فقال شريك.. هذا شخص قد لاح مقبلاً.. وأرجو أن يكون هو الطائي.. فإن لم يكن.. فأمر الملك ممتثل..
قال.. فبينما هم كذلك وإذا بالطائي قد اشتد عدوه في سيره.. مسرعاً حتى وصل.. وقال خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي.. ثم وقف قائماً وقال.. أيها الملك مر بأمرك..
فأطرق النعمان.. ثم رفع رأسه وقال.. والله ما رأيت أعجب منكما.. أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يقوم فيه.. ولا ذكراً يفتخر به.. وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء.. فلا أكون أنا ألأم الثلاثة..
ألا وأني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس.. ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي ولكرم شريك.. فقال الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي
فعددت قولهمو من الإضلال
إني امرؤ مني الوفاء سجية
وفعال كل مهذب مفضال!
فقال له النعمان.. ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك.. فقال:
ديني!.. فمن لا وفاء له.. لا دين له..
فأحسن إليه النعمان.. ووصله بما أغناه.. وأعاده مكرماً إلى أهله.. وأناله ما تمناه!..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :814  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 72 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.