شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > كتاب الاثنينية > وحي الصحراء > عبد السلام عمر > شخصيات العظماء وأثرها في النفوس
 
شخصيات العظماء وأثرها في النفوس
يموت انسان من أناسى هذا العالم. فلا ترى عينا تدمع عليه، ولا قلبا يتألم لفقده ويذهب نبأ موته مع الرياح لا يجد له صدى في النفوس, ولا تجيش لذكراه عاطفة حزن اللهم الا نفراً من خواصه وذوى قرباه يبكون ويجزعون عليه أياماً. ويموت آخر فكأنما هوى جانب من العالم وانتقض جزء من أجزائه فترى الأعين تغمرها عبرات الحزن، وتشعر بالنفوس واجمعة من تأثير هذه الصدمة السيئة وبالعقول حيرى كأنها نصبت على هذا العالم تراقب حركاته وتدير أعماله وكأن هذا الذي مات وذهلت لموته ليس واحداً من البشر يجوز عليه ما يجوز على غيره من الموت، وغاية حياته الفناء كغاية كل حى. فلم إذن هذا التفريق بين وحدات هذا المجتمع البشرى؟ وما هي الفوارق غير المشتركة بين أفراد هذا العالم؟ تميز بينهم هذا التمييز البعيد وتقضى لأحدهم بما لا تقضى به لكثيرين آخرين من مقام تعظيم وسمة اجلال حتى بعد الموت.
هنالك أسرار وميزات خاصة يختص الله بها بعض شخصيات من بين هذا العالم فيودعها فيها ليصلح على أَيديها أُمما، أو ينقذ بواسطتها شعوبا، أو يقود بها خلائق شتى إلى مواطن القوة بعد الضعف. والرفعة بعد الذل، ولولاها لدرست شعوب، وتدهورت أناس وأمم إلى دركات الانحلال والفناء، وتلك هي شخصيات العظماء الذين يسمهم التاريخ بطابع القيادة والزعامة، ويربط حياة أممهم بهم، وتحفظ آثارها بذكرهم ويعاد ذكرها على أسمائهم سواء كان ذلك من ناحية واحدة خاصة، أو نواح متعددة عامة، وتلك الأسرار والميزات الخاصة التى كمنت فيهم، وتكاملت عندهم دون غيرهم هي بالذات الأسباب التى كونت وهيأت عظمتهم، وبالتالى عظمة شعوبهم وأممهم، إذن: فلكل عظمة أسباب ودواع تخلق لها الجوالذى تنشأ وتتهيأ فيه، وعلى قدر قوة هذه الأسباب ونشاطها تكون قدرة تأثيرها في النفوس، ومثلها كمثل الخلايا الليفية لجثمان الإنسان فكما أن نشاط الجسم يكون على قدر امداد الخلايا بعضها لبعض بالتيارات والتموجات الدموية وسرعتها في ذلك ـ كذلك عظمة الأفراد، فانه على قدر استعداد أسبابها يكون تأثيرها في النفوس.
واذا أردنا أن نتعرف هذه الأسباب فليس ذلك في الاماكن من كل الوجوه، فهي ليست بالعلم وحده، ولا بالتأثير وحده، ولا هي بالأخلاق السهلة الجذابة فقط (وكم من أشخاص اجتمعت فيهم هذه الصفات، ولكنهم بقوا كغيرهم أناسا عاديين في هذه الحياة) وانماهى مجموعة خلال كريمة، ومواهب ممتازة تتبدى كسر من الاسرار في نواحى الحياة المتنوعة، فطوراً في عمل من الأعمال عجزت عنه العزائم، وتارة في معضلة فترت دونها الأفكار، وكره في عبء أبت الكواهل أن تقوم به وما إلى نحو هذا من الجلائل والعظائم، ولكن مع ذلك لا تستطيع أن تضع لها حداً حقيقيا حين وصفها. بل هي كالمغناطيس القوى تسطو على القلوب وتهيمن على المشاعر فتتألفها ويمتزج فيها احترامها فلا يدرى الإنسان الا وقلبه عالق باجلال تلك الشخصية العظيمة، ولا تشعر الجماعات الا وسلطان تلك الشخصية يستولى على مشاعرها وهذا السلطان في شخصيات العظماء انما هو موجود فيهم بالطبع لا مكتسب بالمران.
على أن ميول الافراد والجماعات نحو عظيمها وزعيمها مهما كانت لا تظهر تماما الا بعد موته لأنهم في حياته لعظيم اغراقهم في الاحترام والاجلال لم يعودوا يحسون بأن ذلك شئ غير عادى لديهم، والإنسان اذا زاد امعانا في أمر استهان به ما دام باقيا بين يديه وتحت أنظاره، واذا فقده تجلت فيه رغبته، لذا ستولى الذهول والاندهاش على أفكار الأفراد والجماعات حين موت زعمائها وقادتها، ويضحون وقتئذ كالأيتام لا يدرون ماذا يفعلون، ويحسون حينئذ بالتحقيق بأن شيئا انتزع من بينهم وأن هوة انفتحت أمامهم ولكن أين هي؟ وكيف؟ وفي أي شئ، وهل يمكن انسدادها؟ هذا مالا يستطيعون تصويره لك، ولا الاجابة عنه، ولقد تحدثهم الهواجس بأن الحياة لم تعد ممكنة لهم ما دام الموت قد سطا على مناط أمانيهم وثقتهم وأعز عزيز لديهم بل تذهب بهم إلى أبعد من هذا الظن فيستغربون نزول الموت على هذا الذي كان ملء قلوبهم ويؤديهم استغرابهم هذا في مواطن كثيرة إلى عدم تصديق نبأ موته في بادئ الأمر:وليس بعجيب هذا الاستغراب من أناس وضعوا ثقتهم في وجهة واحدة، وتناسوا بجانبها كل ما عداها حتى أنفسهم. ويمكننا أن نتبين مقدرة أي زعيم في إجتذابه القلوب، وسلطانه على النفوس بمقدار تأثر جماعاته من وفاته.
والأمثة التى توضح ما تقدم جمة شاخصة في كل عصر وفي كل جيل. يحدثنا التاريخ عن المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف اعتراهم الذهول يوم مات حتى أن أحدهم وهو (عمر ابن الخطاب) سل سيفه وهدد من يتحدث بموت النبى قائلا: (انما أرسل اليه كما أرسل إلى موسى فلبث عند قومه أربعين ليلة والله انى لأرجوا أن يقطع أيدى رجال وأرجلهم). ألم يكن المسلمون إذ ذاك ـ وهم أثبت الناس إيمانا ـ يعرفون الموت، ثم ألم يكونوا يعرفون فوق ذلك أنه آدمى يجوز عليه ما جاز على الأنبياء قبله وكتاب الله بين أيديهم يقول (انك ميت وانهم ميتون) لا شك في علمهم ذلك ولكن الثقة العظيمة بنبيهم والجلال العظيم لشخصه الذي مازج قلوبهم وأنساهم كل شئ عداه جعلهم حين فاجأهم موته يكذبون أنفسهم ويتشككون في تصوراتهم وهذا مثل الناس مع كل عظيم لديهم.
ويوم مات سعد زغلول باشا بمصر استولى الذهول والاندهاش على المصريين كلهم وأخذت منهم الحيرة كل مأخذ. ولم يصدقوا نبأ وفاته بادئ بدء وليس ذلك بالغريب المستنكر فان كل مصرى كان يشعر أن قلبه بجملته سعد زغلول وكيف لا تأخذه الحيرة حين يحس بأن قلبه ينتزع منه انتزاعا بل أغلب الشرقيين البعيدين الذين يدركون عظمة سعد انتابهم ما انتاب المصريين، وأنا أعرف من نفسى ذلك، فاننى لم أصدق بوفاته حينما قرأت نعيه في بعض الصحف واستغربت أن يغتال الموت سعدا العظيم كأن الموت مستحيل على العظماء، ولكن تلك سنة الله جرت في الناس مع كل من تملَّك نفوسهم وقلوبهم بالحب والاجلال.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :441  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 126 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.