شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الوجدان
الوجدان قوة من قوى الشعور كامنة في النفس، تنزع بصاحبها إلى التجمل بكل خلق كريم، وتدفعه إلى عمل كل أثر جميل، وايثار كل ماغايته الحمد...... فهو احساس رقيق وعلوى سمته النبل والنزاهة واللطف، وظواهره الشرف وكرامة النفس والاحسان، وله احتكام على النفس، فهو يتسيطر عليها ولكن في اعتدال، ويحدوها إلى العمل في رفق واتزان من غير تعسف واغلاظ، ويغالبها فيما تريد من شطط، بهدوء وجلال، فان هو غلبها وقادها إلى الجميل ففعلته عاد عليها بالجزاء الطيب فأذاقها حلاوة عملها في لذة الارتياح ونشوة السرور والاطمئنان، وان هي غلبته فسارعت إلى القبيح عاقبها بالوخز اوالتأنيب حتى ترضخ وتثوب إلى الرشد والندم على ما كان منها من شذوذ وتفريط.
وهذه القوى الكامنة في الإنسان انما تكون في تلك النفوس الكريمة التى هيأتها الأقدار لأن تمثل وقار الانسانية، وجمال غايتها بصورة جاذبة تكشف عن الأسرار التى تكفل السعادة الاجتماعية العامة ويرتاح اليها الناس جميعا على السواء، لو كانوا يقدرون على الاستمساك بتلك الأسرار كسجية في نفوسهم وعلى اصطفائها كمنهاج في سلوكهم، فهي لا تستقر في النفوس المسفة التى غشى أعماقها ليل السوء، واحتاطتها الرذائل، فتداعت كرامتها وكانت شرعتها في الحياة الغش والتضليل، وكان سبيلها في الوجود التقلب في فوضى الأخلاق: ذلك لأنها طاهرة لا تمتزج بالخسائس، شريفة لا تتنزل في مواطن الفساد، نبيلة لا تساير النذالة والمكروه.
وقد خلق الناس في الحياة أطواراً، فمنهم ذكى ممتاز، ومنهم عالم معتز بعلمه، ومنهم أديب مغرور بأدبه، ومنهم غنى مفتخر بثورته، ومنهم شريف في الحسب يتعاظم به، ولكن الذكاء والعلم والأدب والغنى والحسب الموروث لا تجدى في هذا المجتمع ولا يسعد بها أصحابها اذا لم يكن لهم وراء هذه المميزات وجدان طاهر يكسوها بهاء ويكسبها تقديراً على تقدير. ومثل الذكى والعالم والأديب والغنى والحسيب من غير وجدان كمثل حقل مخضر بحشائش فاسدة وأشواك ضارة نبتت بينها زهرة بهيجة المنظر تشبه الورد في لونه وشكله الباهى الجميل، ولكن اذا جئتها مجذوباً بهذا المظهر المستميل تريد أن تستنشق منها رائحة ذكية وتمتع نفسك بأنفاسها الشذية سرعان ما تشيح عنها بوجهك، ويصغر في عينك ما كنت أجللت فيها من قبل، حينئذ تدرك أنها نجمة من أنجم تلك الحشائش خادعة الظاهر لم توهب في جيوبها ولا في أكمامها أرجاً عطرياً، وليس بينها وبين الحشائش والأشواك التى تكتنفها فارق. ومثل صاحب الوجدان من هؤلاء كمثل وردة يانعة وسط جنينة مخصبة حافلة باخضرار ممتع يجتذب نفسك وينعش قلبك فتتناول يدك تلك الوردة باستئناس روحى، واعجاب، ولا تتمالك أن تضعها في المحل العزيز عندك، تشاهد جمال الحياة في منظرها وتستديم الانتعاش بعبيرها الفياح.
ان أساليب السعادة كثيرة ومبثوثة في ميدان الحياة، وطلابها الكثيرون متفاوتون في اختيار النوع الذي يتذوقون منه لذة الهناء. وصاحب الوجدان الطاهر لو تجمعت لديه كل أسباب السعادة دفعة واحدة أو انفرد بشئ أو فاته الكل، انما يجد لذة السعادة الحقيقية حينما يوفق إلى ارضاء غلة وجدانه ويرى أن ما قامت به نفسه وعملت يداه من أَثر جاء وفق ما كان يرجو وجدانه ويمليه عليه وازع الوجدان. فأعظم بها من لذة ليس تصويرها بمستطاع قلم وبيان.
وكل انسان في الوجود يدعى لنفسه وجدانا، ولكن الوجدان ـ يا للأسف ـ ليس من قالات اللسان. وانما هو سر خفى في منطويات النفس لا تدرك حقيقته الا في نتائج الأعمال والغايات فهو كالقوة الكهربائية لا يظهر كنهها وجمالها الا حينما يتألف نورها الوهاج على الأسلاك الذهبية في ثريات البلور.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :480  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 125 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج