شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
12– عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي (صلى الله عليه وسلم) رجل فقال: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة -أو بئس أخو العشيرة- فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول، فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه -أو ودعه- الناس اتقاء فحشه (1) .
والحديث السابق يظهر قيمة "التوازن" في تصرف الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفي قوله، ولكنني لن أتحدث هنا عن التصرف في معاملته لذلك الرجل، لأن ذلك يبعدني عن منهج الدراسة وسأحصر حديثي في قيمة "التوازن" الجمالي في قوله: أي عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه.
"والتوازن" في المضمون هنا ملحوظ من ناحية الفاسق، فهو الإنسان الخارج عن منهج التوازن على الصراط المستقيم، وخروجه هذا قد يعالج من أبناء مجتمعه بنصحهم إياه، واستمالته له، فربما مع مداومة العشرة والاقتداء بهم يعود إلى الجادة، ويصلح ما طرأ عليه من الخلل؛ فيعود لتوازنه، أما تركه وهجره فسيساعد الشر عنده على النمو والتطاول وسيؤدي به إلى الإجرام في حق نفسه أولاً ثم مجتمعه لأنه يشعر بالعداوة بينه وبين المجتمع الذي نبذه ونفر منه.
فما من إنسان إلا وتتنازعه قوى الخير وقوى الشر، ومن هذا المنطلق فالتعامل مع الشرير لا يكون بمحادته أو الترفع عليه لينفر أكثر فأكثر من المجتمع عكس التعامل معه بعطف وحنو، ومحاولة معرفة مواطن الخير في نفسه وإثارته حتى يظهر وينمو رويداً رويداً، وبذا تتوازن نفسه ويعود إلى منهج الاستقامة.
لذا لم يرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن ينبذ ذلك الرجل فيكبر الداء ويتسع الخرق، وإنما حاول استمالته وضمه كغيره إلى أحضان مجتمعه، كالأب الحنون لا يريد لابنه أن يهجر الأسرة ويكون وبالاً عليها.
وإذا نظرت إلى الشكل الذي سيقت فيه هذه المعاني تجد أسلوب التقرير المباشر هنا يتفق مع موقف التبرير، الذي برَّرَ به الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) لا ينطق عن الهوى، ولا يتصرف إلا بوحي من الله عز وجل، لذا برّر الرسول الكريم تصرفه مباشرة في عبارة موجزة كأنها الحكمة التي تقال في أعقاب التحارب: إن شر الناس منزلة من تركه الناس اتقاء فحشه.
وفي ظلال التكافل والتعاون بين أبناء المجتمع، يحرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على تكوين الشعور بالمسؤولية عند كل إنسان. يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
13- عن الحسن أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثاً سمعته من رسول الله سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية يُحطها بنصحه لم يجدْ رائحة الجنة (2) .
يوجه الحديث السابق إلى الشعور بمسؤولية النصح والإرشاد بين أبناء المجتمع الإسلامي، وليس معنى هذا أن يخرج كل واحد منا إلى الطرقات والمجالس وأماكن وجود الناس فينصحهم، إنما النص كان دقيقاً، في توجيه عملية النصح، بأن توكل إلى كل من يوجد تحت يده مجموعة من الناس ابتداء بالأسرة الصغيرة وانتهاء بالأمة الكبيرة؛ فالوالدان مسؤولان أمام الله عن تربية أبنائهم ونصحهم، والمعلم في المدرسة مسؤول، والمدير في المؤسسة كذلك مسؤول عن موظفيه، والحاكم مثل ذلك يقع على كاهله إحاطة رعيته بالنصح.
ولو تأملنا عملية توجيه النصح لأبناء المجتمع لوجدناها في نهاية الأمر عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات، فكل منا من خلال موقعه في المجتمع يكون مسؤولاً عن أفراد وهو بالتالي مسؤول من أشخاص.
هذه العملية لو وعاها الناس وأديت بأمانة، لنتج عن ذلك تطهير للمجتمع من جميع المفاسد، وحث له على طرق أبواب المكارم دون عنت أو مكابدة، فتصان الوشائج والعلاقات من الخلل والتدهور بذلك وتحتفظ الحياة الاجتماعية بجمالها وقوتها.
وقد قدم لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا التوجيه في جو من الرهبة يتلاءم مع قيمة الأمانة المعلقة في عنق كل منا: فإن إسناد الفعل "يسترعي" إلى لفظ الجلالة له قيمته في تعميق قيمة بذل النصح لمن حولنا، فالشعور بأن الله عز وجل صاحب هذه الأمانة، كفيل بأن يجعل المسؤول حريصاً عليها خائفاً من التفريط فيها.
التجانس الصوتي أيضاً بين الفعل "يسترعيه" والمفعول به "رعية" له أثره في ربط الرعية بالراعي ربطاً قوياً محكماً.
أما التعبير عن بذل النصيحة بالإحاطة، فهو يؤدي إلى خلق شعور مركب عند المتلقي هذا الشعور عبارة عن مزيج من الخوف والأمان؛ والخوف يتولد عند المسؤول عن الرعية، والأمان عند الرعية نفسها.
التعبير بقوله: لم يجد رائحة الجنة يتلائم أيضاً مع المعنى الذي يوحيه من البعد كل البعد عن الجنة.
وفي النهاية فالحديث مع غيره من الأحاديث يكون لبنة من لبنات الترابط الاجتماعي والتآلف بين المسلمين.
تبين لي أن البيان النبوي في نطاق الآداب الاجتماعية يتحرى تكوين الشخصية الإسلامية بتأديبها وتهذيبها في كل صغيرة وكبيرة، سواء فيما يرتد إلى المسلم في ذاته، أو فيما يمس علاقاته بالآخرين بحيث يظل دائماً -بقدر طاقته- متوازناً مع نفسه ومع الآخرين.
والذي سقت من الأحاديث كاف -فيما أحسب- لصحة منهج "التوازن" وتأكيده في البيان النبوي في النطاق الذي اخترت لتطبيقه – و إلا فكل الأحاديث تدل على صحة هذا المعيار. فالآداب الاجتماعية التي جاءت ضمن تلك النصوص، لم تخرج عن إطار الدعوة إلى "التوازن" لما في هذه الدعوة من جمال، جمال حقيقي يدوم مهما اختلفت الأذواق أو البيئات أو الأزمنة، بما بني عليه من قواعد ثابتة تتلاءم مع كل الظروف وفي كل الأحوال.
وقد أسس بعض نقاد العرب وفلاسفتهم نظرتهم الجمالية على هذه الأسس: فقال "ابن طباطبا": "وعلة كل حسن مقبول الاعتدال، كما أن علة كل قبيح منفي الاضطراب" (3) .
وقال أبو منصور الفارابي": "متى زالت الأفعال عن الاعتدال واعتيدت لم يكن عنها خلق جميل، وزوالها عن الاعتدال المتوسط هو إما إلى الزيادة على ما ينبغي، أو النقصان عما ينبغي" (4) .
لذا أجد من المناسب أن يلتفت الأدباء -على اختلاف فنونهم الأدبية- لهذا المعيار ويجعلوه مرتكزاً لنظرتهم ولأحاسيسهم ومنهجاً مطرداً لتصوراتهم. وليس معنى هذا أن يتحول أدبهم إلى وعظ وإرشاد، بل يمكن استحسان المتوازن واستهجان المختل بجملة توحي بجمال الأول والتعلق به، وبقبح الثاني واستهجانه.
ولكن هل يتأتى "التوازن" للإنسان في كل موقف وكل حال كما كان عنده (صلى الله عليه وسلم)؟.
بالطبع لا.
لأن "التوازن" المجبول عليه (صلى الله عليه وسلم) فطرة - جبلت على الاستقامة وصينت من التحرف، خص بها تأديةً للرسالة وقدوة لعالمين وهذا ما يفسر اطراده عنده (صلى الله عليه وسلم) في كل المواقف ورغم تغير الظروف.
أما ما عند غيره -(صلى الله عليه وسلم)- من البشر فهو من النوع العام، الذي يكون تمامه ونقصه بقدرة الفرد على الاقتراب من القدوة (صلى الله عليه وسلم) أو البعد عنه، كما يكون في الصراع بين الاستهواء والمقاومة وهذا الصراع الذي يمثل "التوازن"، عند المسلم بين الخير والشر ويحتاج دوماً إلى علم ويقظة وإرادة عمل، فهل تطيق بشريتنا دائماً أن تجمع ذلك كله في آن.
هل نستطيع أن نعلم كل شيء، وقد قال عنا خالقنا: وَمَآ أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قليلاً (5) ؟.
هل تعيننا بشريتنا على أن نكون أيقاظاً دائماً وقد قال عنا الله عز وجل: خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ (6) ؟.
فإذا كان لا نستطيع أن نعلم دائماً ولا نستطيع أن نبقى على يقظتنا دوماً، فإننا سنفقد بالطبع إرادتنا تبعاً لذلك ونصير عرضة لزلل.
فماذا يصنع المسلم وقد جبل على ذلك؟ ماذا يصنع لو اختل "توازنه" في لحظة جهل أو غفوة؟ ألا يستطيع أن يصلح ما فات ويعود إلى ما كان عليه من "توازن"؟ حتى يعود للمثال توازنه وجماله المنشود.
بلى يستطيع ذلك عن طريق:
التوبة والاستغفار.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :479  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج