شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
9- فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني (1) .
والحديث الشريف يأمر المسلمين بالوقوف إلى جانب ثلاث فئات في المجتمع هي رمز ضعفه حتى يعودوا إلى قوتهم المسلوبة، ألا وهم: الجائعون والمرضى والأسرى وذلك لحرص المجتمع الإسلامي على القوة لأنها -كما وضحت سابقاً- رمز لصحة المجتمع وجماله.
فدعا المسلمين إلى عيادة مرضاهم، وقد رغبهم في ذلك كثيراً عن طريق إغراء العائد، فمن ذلك الحديث القدسي الذي يقول فيه الله عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ (2) ومن ذلك أيضاً قول الرسول (صلى الله عليه وسلم):إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرْفَة الجنة حتى يرجع (3) وغيرها كثير.
لكن المهم هنا الإيحاءات التي توحي بها كل هذه الأحاديث وإني أتصور أن ذلك الترغيب، وذلك الأجر، من أجل احتياج المريض لهذه العيادة التي قد تساعد في برئه.
فالمريض مختل التوازن، لأنه فاقد الصحة، غير منسجم بعضه مع بعض ولا هو متوازن مع غيره، وبسبب من هذا الاختلال، فهو يشبه كسراً في جسد المجتمع، أو لبنة ضعيفة متهتكة في الجدار، والمجتمع يضعف بذلك لا سيما إذا كثر مرضاه. من هنا فتلافي هذا الاختلال، وجبر هذا الكسر، وإصلاح اللبنة الضعيفة يبدأ بعيادته، لأن عيادة المريض بلسم لروحه، وهو أول مراحل الشفاء، حيث يجد أنه موضع رعاية واهتمام.
فكم من مريض فتك ببدنه المرض، ولكن المرض لم يستطع النفاذ إلى نفسه، بسبب مساعدة من حول المريض والمريض نفسه ببناء سد منيع من الإيمان حال دون وصول سهام المرض إلى النفس.
إذاً فحرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على عيادة المريض، هو حرص على توازن المريض في نفسه وعلى توازن أبناء المجتمع وقوتهم، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وسلم):مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (4) .
إذا تجاوزنا ذلك إلى ألفاظ الحديث، استرعانى فعل الأمر المتتابع في الجمل الثلاث المتعاقبة، فأوحى إليّ صورة لا أدري لم استقرت بذاتها في مخيلتي..
صورة قطيع راعيه حدب عليه اشد ما يكون الحدب، فهو معني به حريص عليه يبغي تكثيره، وتثميره، ويزهيه امتلاؤه، ونضرته، فكأنه يباهي به.
فإذا جاع واحد من هذا القطيع، أو مرض أو هجم عليه سبع، فاض قلبه رحمة وعطفا، فنادى بإطعام الجائع، وعيادة المريض، وفك العاني.
إن ما حدث لأفراد في القطيع خلل وقبح يلحقان القطيع كله، ولذلك كانت الأوامر الثلاثة استعادة للتوازن المختل، والجمال المفقود، وكانت الأفعال في مواقعها التي لا يناسب فيه غيرها.
فإذا كان الأمر في الحديث السابق بإطعام الجائع، فإن ذلك كفيل بأن يحرك قلب المجتمع نحو الجياع فيقدموا لهم الطعام أو ما يحتاجونه دون أن يلجئوهم إلى سؤال بعضهم بعضاً لأن في المسألة ذلاً للسائل والذل ضعف وقبح، والإسلام حريص على تقوية أبنائه وسد جميع منافذ الضعف.
10- عن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: خذه؛ إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك (5) . وفي رواية أخرى: فخذه فَتَموّله وتصدق به (6) .
والنص السابق يبين آداب المعطي والمعطى له؛ يجب أن يبادر بالعطاء قبل سؤال المعطى له، وألا يشعره بفقره كأن يقدم له العطاء على سبيل التهادي مثلاً.
أما المعطى له فيجب أن لا يتطاول لأخذ العطاء، ولا يحرص عليه، وإذا لم يأته العطاء إلا مشوباً بالذل فلا يطلبه.
وكل هذه الحيطة من المبادرة بمساعدة من يحتاج إلى مساعدة من أبناء المجتمع، مع تقوية الشعور بالكرامة والعزة في المقابل حتى مع الفقر، كل ذلك جدير بأن يوجد المجتمع المتلاحم القوي، المجتمع الذي لا يذل نفسه من أجل لقمة العيش.
والفقر مع الذل كفيل بأن يطيح بجميع القيم والآداب الفاضلة ولكن الفقر مع الكرامة يؤدي إلى العفة والاستغناء عما في أيدي الناس، وبالتالي فهو يؤدي إلى السعي والتحصيل، والإيمان بأن: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرْضِ إلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا (7) .
والسعي في طلب الرزق إذا صدر عن جميع أبناء المجتمع لا بد أن يوجد طبقات متفاوتة الغنى، كل طبقة نصيبها من الغنى يعادل نصيبها من السعي ونوعية ذلك السعي، هذه الطبقات تؤدي إلى توازن المجتمع، وعكسه المجتمع الذي يتكون من طبقتين أغنياء وفقراء، فهذا المجتمع يدل على خلل ما، ويعكس مدى الفجوة بين أغنيائه وفقرائه وهذا ما لا يبغيه الإسلام لأتباعه.
وبعد أن رسخت الفكرة في نفسي، أعدت النظر إلى الألفاظ التي حملت تلك الفكرة، فاسترعاني انتقاء كل لفظ على حدة لتأدية المعنى: جاءك، هذا المال، غير مشرف، لا سائل، خذه، ومالاً، فلا تتبعه نفسك.
كل لفظ من هذه الألفاظ بسيط غاية البساطة، لكنه داخل النص له بريقه الأخاذ في حمل معنى معين، وفي التلميح بصورة معينة، وهذه صورة من كانت ألفاظه قوالب لمعانيه.
فمثلاً: "الإشراف والسؤال" هذه العبارة لها بعدان؛ هما: التطاول وهو "يتوازن" مع لفظ الإشراف، والدنو وهو يناسب السؤال، وعبارة تتبعه نفسك: مع أن ألفاظها بسيطة إلا أن صورة ما توحيه غاية في الوضوح والجمال، وهي صورة النفس وهي تلاحق العطاء بالخيالات والأوهام من هنا وهناك.
وبعد فهذه هي ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهذه تراكيبه قد تخلو من كل أنواع الفنون البلاغية – كما أشرت من قبل – ويظل لها جمالها الخاص داخل النص.
ويدخل في إطار التوازن الاجتماعي أيضاً، الالتزام بهذا المنهج في معاملة الخدم ومن في حكمهم من العاملين، فيرفق المسلم بهم ولا يكلفهم بما يشق عليهم، فبذلك يتوازن المسلمون جميعاً في الأخوة، ولا يتسلط إنسان على أخيه، وهذا مصدر من أهم مصادر القوة الاجتماعية.
11- عن واصل الأحدب عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالرَّبذة وعليه حُلَّة وعلى غلامه حُلَّة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلاً، فعيَّرتُه بأمه، فقال لي النبي (صلى الله عليه وسلم): يا أبا ذر، أعيَّرتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم (8) .
الحديث الشريف يدور حول أدب التعامل مع الخدم، مؤكداً في البداية حقيقة هامة وهي أن المسلمين إخوة مهما اختلفت وتنوعت طبقاتهم؛ فالخادم أخ للمخدوم جعله الله تحت يده.
ولو نُظر إلى المجتمع بنظرة شاملة للحظ أنه مقسم إلى طبقات كل طبقة تخدم طبقة أعلى منها وفي نفس الوقت تُخْدَمُ من طبقة أدنى منها وهكذا يتم الأخذ والعطاء بين أفراد المجتمع في حركة مستمرة تدفعه إلى التقدم والرقي.
ومن هذه النظرة لحقيقة التعامل بين أفراد المجتمع، أجد أن "التوازن" النابع من التعامل المتكافئ يحقق العدالة.
والمسلم الذي تأدب بأخلاق النبي (صلى الله عليه وسلم) فطهر داخله من الكبر والحقد والبغض والحسد، وبمعنى آخر المسلم الذي استطاع أن "يتوازن" على الصراط المستقيم لا بد أنه سيطعم خادمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، وسيعينه على ما لا يطيق.
فالكبر هو العائق الوحيد لهذا التعامل السامي، ولذا كثرت الأحاديث التي تنفر من هذه الرذيلة وتحاول استئصالها من النفوس مهما تسترت تحت شعارات أخرى وتصرفات مضلة.
فما الذي يمنع الإنسان من إطعام خادمه مما يأكل وإلباسه مما يلبس ومعاونته إلا الكبر.
على أن أكثر الفقهاء استفادوا من لفظ الحديث وذلك أنه اشترط المواساة لا المساواة، ويؤيد ذلك ما جاء في "الموطأ" (9) و "مسلم" عن أبي هريرة مرفوعاً: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" وهو يقتضي الرد في ذلك إلى العرف، فمن زاد عليه كان متطوعاً" (10) .
إن لفظ "المعروف" يتردد كثيراً في الشريعة الإسلامية، وهو أكبر دليل على واقعية الشريعة و "توازنها" بتعايشها مع مواقف الحياة، واحترامها للظروف الفردية؛ فما يصلح في عصر لا يصلح في غيره، وما تتعامل به طبقة من الناس ربما لا يتعامل به طبقة أخرى، (كل ذلك بحرية كاملة مشمولة بمفهومي "البر" و "الإثم" أي "التوازن" بين الحلال والحرام).
وعند تطبيق "العرف" في التعامل مع الخادم مشروطاً بتلك المواساة لا المساواة، أجد تفهماً رائعاً لحقيقة الشخصية الإنسانية، وما يعتريها من تغيرات محكومة بتغيرات الظروف والبيئة.
فلو أن الإنسان ذهب يساوي خادمه في كل أمر ربما أدت هذه المساواة إلى تطاول الخادم أو تكاسله أو التهاون في الخدمة.
فكان اشتراط المواساة لا المساواة أمراً "متوازناً" يعطي كلاً من الخادم والمخدوم حقه دون زيادة أو نقصان، مع إعطاء المخدوم فرصة الزيادة إذا تبين له أن تلك الزيادة ستعود عليه بالخير كما فعل "أبو ذر".
وأتصور أن علاقة تقوم على هذه الدقة والرقة في التعامل مع الخدم لا ريب تضفي على المجتمع الأمن والرضى.
وإذا ما سادت هذه الروح بين أفراد المجتمع زادت رقعة الحياة الجميلة بين أبنائه، لحرص كل فرد منهم على التجمل في السلوك.
إن سعي الإنسان المستمر إلى مداومة "التوازن" النفسي سينعكس عنه جمال تصرفاته وجمال علاقته بالآخرين.
إن الحديث السابق بما يدعو إليه من آداب التعامل مع الخدم حديث جميل.
فإنه يصب في نفس الخادم فيتمم ما بها من قصور، ويزيل ما يشعر به الخادم من نقص "فتتوازن" نفسه مع هذه المعاني أتم ما يكون "التوازن".
ونحن كمتلقين إذا ما سمعنا هذا الحديث شعرنا بجمال معناه، وكأنه يهذب ما قد تكون نفوسنا قد جنحت إليه من إسراف أو كبر فإذا ما سمعناه عدنا إلى سالف فطرتنا التي فطرنا الله عليها.
فتتوازن نفوسنا، وتزيد حياتنا استقراراً وجمالاً.
يذكرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يدعو إلى ترابط المجتمع وتكافله، وتأدبه بالأخلاق الحميدة، يذكرنا بفئة معينة موجودة في كل المجتمعات على مر العصور والأزمنة -أقصد- فئة الأشرار والفساق وسائر المنحرفين فهؤلاء المسرفون غير متوازنين، خرجوا بأنفسهم عن حدود الاستقامة، وخروجهم هذا قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه فخروج الواحد منهم، كالمرض في جسم المجتمع، يجب أن نبادر إلى مداواته، وقد يطول العلاج وقد تتغير أساليب المداواة فيحتاج إلى الصبر ولكن النهاية إما إلى المعافاة، وإما أن يستفحل الداء فيكون العلاج بالبتر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :495  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 82 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

ديوان زكي قنصل

[الاعمال الشعرية الكاملة: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج