شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
6- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه (1) .
الحديث الشريف يتحدث عن صلة الرحم، وهو بهذا المعنى ما زال يدور في فلك التوازن الاجتماعي، فإن من ملامح "التوازن": اليقظة: التي تجعل الإنسان وكأنه مركّز لدائرة كبيرة ممتدة حواليه، فلا ينسى حقاً، ولا يهمل واجباً، ولا يترك براً وهذا هو عين "التوازن" وهذا هو الصراط المستقيم الذي نستهديه في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (2) ، والحديث يجعل بسط الرزق وطول العمر مرهونين بصلة الرحم، فكأنه جعل بسط الرزق وطول العمر في كفة، وصلة الرحم في كفة أخرى، فكلما قام بصلة الرحم، زيد له في الرزق وطول العمر، وكلما أخل بكفة صلة الرحم، أخل له في الرزق وطول العمر وبذا ارتبطت الكفتان بعضها بعضاً، تعادلاً أو اختلالاً.
إن كلمة "يصل" توحي بأن هناك قطعاً ما: أي كأنه سيصل ما قطع وقد عبر عن هذا الاختلال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صراحة في حديث آخر حيث قال: ليس الواصل بالمكافئ، لكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها (3) .
وهنا أجد الحديث يحقق معيار "التوازن" الجمالي في المعايشة مع الموقف بطريقة غير مباشرة؛ فالموقف هنا: إنسان قطعه بعض أهله، فإذا بادلهم القطيعة فسيكون مساوياً لهم في فعلهم، ولكنه لن يكون متوازناً مع الموقف فهم لا يزالون أهله على قطيعتهم إياه، وقد تكون هناك ظروف معينة أدت إلى القطيعة فإذا ما وصلهم، فقد تغلب على تلك الظروف، فيعود الود بينهم فالحديث يحث على التسامح فيما يعود فيه التسامح بالخير على صاحبه فمقابلة البغض يفضي -لا محالة- إلى توالد القطيعة وتوارثها، ناهيك بما تعود به على المجتمع من شرور، ومن هنا يبرز المعنى العظيم الدقيق الذي يستقر في أن الواصل ليس الذي يكافئ؛ فلو قطعه أحد من رحمه عامله بالمثل، إنما هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها.
والقطيعة: اختلال وتنافر وقبح، والتواصل: توازن وانسجام وقوة وزينة.
فإذا كان المجتمع مدعواً إلى الترابط والتوازن ليحتفظ لقوته وتقدمه فأولى أن يدعى إلى هذا الترابط والتوازن داخل الأسرة وذوي القربى.
أما شكل الحديث فقد استند أيضاً إلى المعيار.
فالجمل: "متوازنة" في المقدار، و "متوازنة" في السجعة، وهذا التوازن في مقدار الجملة، وفي السجعة أدى إلى إيقاع خفيف له وقعه الجمالي على الأذن، وهذا ما يسمى "بالترصيع".
ومن الأدب الاجتماعي الذي يقوم عليه توازن المجتمع واستقامته؛ آداب الضيف والجار، الذي نبهت إليه وأفاضت فيه أحاديث كثيرة.
7- "عن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قيل: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت (4) .
لقد علق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدق الإيمان بالله واليوم الآخر، على ثلاثة أمور: إكرام الجار، وإكرام الضيف، وقول الخير.
فإكرام الجار: كما قال "معاذ بن جبل": قالوا: يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ قال: "إن استقرضَكَ أقرضْتَه، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده" (5) .
أما إكرام الضيف جائزته: "جائزته" فبيان لحالة أخرى وهي أن المسافر تارة يقيم عند من ينزل عليه، فهذا لا يزاد على الثلاثة بتفاصيلها، وتارة لا يقيم فهذا يعطي ما يجوز به قدر كفايته يوماً وليلة.
أما "فليقل خيراً أو ليصمت" فقد سبق شرح هذه الفكرة عند كلامي عن الصدق.
إن الآداب السابق ذكرها في الحديث، لا تخرج عن إطار "التوازن" الشخصي والعام.
ففي الإطار الشخصي أجد أن الإنسان "المتوازن" هو الذي يقدر الأمور قدرها وهو الذي يعطي كل ذي حق حقه، لأن من ملامح "التوازن" العلم.
فالعلم يُعرِّفه حقوق الغير، والإرادة واليقظة ستدفعانه إلى أداء هذه الحقوق، وعدم التهاون فيها.
إذاً فعلمه بحقوق الجار سيدفعه إلى أدائها واحترامها.
وعلمه بحقوق الضيف يعينه على الوفاء بها.
وعلمه بقيمة الكلمة ووزنها تعلمانه متى يتكلم ومتى يصمت.
فالحديث الشريف يدعو إلى خلق شخصية مسلمة "متوازنة" لا تغفل ولا تهمل أداء ما عليها من واجبات، كما لا تتعدى على الغير، ومن آثار مثل هذه الشخصية: أنها تشيع الطمأنينة والسكينة فيمن يتعامل معها، وتبعث الشعور بالجمال.
والجمال النابع من هذا الحديث كان بسبب تلك المعاني الفاضلة، فالفضيلة جمال خالد لا ينكره إلا أصحاب النفوس الشاذة.
وقد صيغت هذه المعاني في إطار جميل، اعتمد على الجمل القصار التي تدخل في جوامع الكلم.
والجمال في كلمات الحديث نابع من بساطتها وبعدها عن التكلف والإسراف، ولقدرة الكلمات على حمل تلك المعاني دون تقصير.
وكما ينتقل أجر المجاهد إلى البار بوالديه يمتد فيشمل الساعي على الأرملة والمسكين.
8- فعن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر (6) .
والرسول الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم في هذا الحديث يقرر بصورة عملية أصالة النظرة "المتوازنة" في التشريع الإسلامي.
فحاجة المجتمع الإسلامي إلى الجهاد في ساحة المعركة أكيدة وقوية، لكن حاجته إلى القيام على شؤون بعض الفئات قوية أيضاً وإلا أصيب المجتمع بخلل كبير.
فلو تخيلنا أن رجال المجتمع كلهم ذهبوا للجهاد -طلباً لمرضاة الله ونصرة الحق- فمن سيقوم على الضعاف من النساء والمساكين، بل من سيقوم على شؤون الأمة الأخرى من تصنيع وتعليم إلى غيره من شؤون الحياة؟.
لذا كان من "التوازن" أن تذهب طائفة من رجال الأمة للجهاد، وطائفة تظل للقيام بأعباء الأمة، مع حصولها على نفس الأجر، ترغيباً لها في البقاء وتعظيماً لشأن الأمور التي ظلوا من أجلها: وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (7) .
إن التدقيق في هذا الحديث يجعله يرتبط بحديث "عبد الله بن عمرو" (8) السابق أشد الارتباط.
ففي الحديث السابق، نصح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "عبد الله" بأن يعطي كل ذي حق حقه، وبألا تطغى عبادته على بقية واجباته.
وهنا يؤكد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن القيام بالواجبات الإسلامية من صلة الرحم، التي لا ينعدم فيها دوماً احتياج فرد من أفرادها إلى مساعدة أكيدة فقد يكون من الرحم أرملة، وقد يكون فيها مسكين، لذا كان القيام بهذه الواجبات يعدل أجر المجاهد أو أجر القائم على صلاته لا يفتر، والذي يصوم ولا يفطر، ولذا وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "عبد الله" إلى رعاية من يحتاجون إلى رعاية كما أكد له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولبقية المسلمين أن الأجر في الإسلام لا ينحصر في عمل بمفرده ولا في عبادة بمفردها بل يتوزع على كل ما يقوم به المسلم، وبذا يتحقق "التوازن" في الأعمال وفي الأجر إن شاء الله.
فهذه القيمة المتمثلة في هذا الحديث مثلها مثل أختها في الحديث السابق من حيث الغاية وهي حفظ "التوازن" الاجتماعي ومن حيث الأثر وهي ترابط المجتمع وتكافله وقوته.
وما ظننا بمجتمع متماسك، لا يغفل عن رعاية المساكين واليتامى والأرامل فيه؟ ألا يجدر بهذا "التوازن" المنتشر في ربوعه أن يلبسه ثوب الصحة والقوة، وأن يخلع عليه غلالة من الجمال؟.
والمتأمل لفظ "الساعي" وما يوحيه إلى المستمع من أثر، يجد أنه مقنع تماماً لإحداث الأثر المطلوب، وما ينبغي أن يكون عليه المسلم في عنايته بهذه الطوائف وبعبارة أخرى فألفاظ الحديث "متوازنة" تماماً مع القيمة التي ينطوي عليها الحديث، وبسبب من هذا "التوازن" بين القيمة والألفاظ فإنها تبعث في النفس شعوراً عميقاً بالسكينة والراحة، وما الأثر الجمالي في النفس المنعكس عن أشياء مادياً أو معنوياً إلا أنه يحدث فيها إحساساً بالانسجام والبهجة، خلافاً لما يحدثه الخلل من شعور بالقبح والنفور.
وتتسع دائرة الحرص على تحقيق "التوازن"بين أفراد المجتمع من بر الوالدين إلى معاملة الزوجة، وهي تشبه الضلع الأعوج، إلى النهي عن قطيعة الأرحام، وعدم إغفال الأرامل والمساكين..
إلى رعاية كل من يبدو عليه اختلال من أعضاء المجتمع، حتى يبدو المجتمع كله في صورة متوازنة، صحيحاً معافى، ليس عليه سيما أي خلل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :442  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 81 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج