شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((السيَّد الفقي وشموخٌ بين الحُسين والجيزة)) (1)
لا يتذكَّر الفتى منْ رحلاته الأولى وقبل ما يَقْرُب منْ عقدين منْ الزمنِ إلى القاهرة إلا تلك الأحياء الشعبية في ((الحسين)) و((السيدة زينب))، ولقد ذكرت تلك الأماكن التي تفوح بعبقِ الماضي ذلك الفتى الذي عزم على أن ينطلق من أرضِ الكنانة إلى أرض ((التَّميس)) و((الهايدبارك))، ذكرته بساحات المناخة وسويقه، وسوق الصغير، وسوق اللَّيل، ومرابع العلوي.
صَعَدَ إلى الطائرة وكأنه بصعوده ذلك يكْسرُ حاجزاً قوياً أقامه بينه وبين السفرِ، وكما أن للسفر متعته الذهنية والنفسية فإن له متاعبه، وإن المتاعب لهي الأكثر بروزاً في إقامته وسفره، وكان أحد أصدقائه المقربين إليه يحاول أن يبثَّ فيه روح العزيمة التي أفقدتها إياه صروف للدهرِ عجز عن مقاومتها، الوجوه التي كانت تحيط به لم تكن غريبة عليه، هذا أبو عمرو، خلفه، وذلك أبو أثل بجانبه، وهناك أبو زين وأبو غنوة وأبو الحسين، الجميع يتهامسون، ويتبادلون عبارات المزاح والطريف من القول، وجاء من يضع يده على كتفه ليسلم عليه وعندما عزم على القيام ليرد التحيَّة منعهُ هذا القادم من القيام تذكر مقولة رفيق دربه الشاعر ((أبو حلّيت))، وقد مضى عليها من الزمن ما مضى ((هذا الأخ الدياب)) فيه من شهامة ولد الحارة ما فيه!!)) ولم تمضِ دقائق على اختراق الطائرة سماء جدة حتى وجد هذا الإنسان المغرم والعاشق لتراث العلوِي والمظْلوم وحارة الشام و((نسيان)) يذكره بأحاديث ((الهمني)) و((السرديدي)) و((أبو ركْبة))، شهامتهم شجاعتهم، ثم النهاية الأليمة التي آل إليها بعضهم من المرض وشظف العيش، وطرح السؤال كعادته وبروحه الظريفة، كيف نرد إليهم شيئاً من اعتبارهم؟
وكما كانت الطائرة معلقة بين السَّماء والأرض، فلقد بقي السؤال كذلك معلقاً ولربما رددت شواطىء جدة ومراكبها صداه! ولكنها ابتلعته كما يَبْتَلعُ الماء - حيناً - بعض عشاقه ومريديه.
مضى الزمن - سريعاً - ووجد نفسه في مطار القاهرة، ((لم يكن هناك ما يزعج!)) - عبارة خرجت عفواً من فمه لصديقه الحميم أبي أثل، وكان صديقنا أبو أيمن الأعرف بالطَّريقة التي سوف نصل بها إلى فندق ((الشيرتون)) ففعل، وتفرق الجمع لساعة من الزمن ليعود ويلتئم من جديد في البهو الكبير للمكان الذي سوْف تُعْقدُ فيه احتفاليةُ الشَّاعر الكبير السيَّد محمد حسن فقي، وقفزت تلك الصورة القديمة والمتجددة لتلك القمة الشامخة في تاريخنا الأدبي، لم ير ((حمزة شحاتة)) في حياته ولكنَّ ريشة الأب ((عزيز ضياء)) - رحمه الله - في ((أدبنا قمة عرفت ولم تُكْتشف)) جعلته يتصور ((شحاتة)) وهو يخطو بقامته الرفيعة وهندامه الأنيق بين المسعى والقشاشية، وكذلك استطاع الدكتور عبد الله مناع أنْ يفعل عندما قدم للسيرة الذاتية للسيد الفقي، وكُنْتُ أقول لبعض من أعرف ((الفقي هو الأكثر تهذيباً بين أنداده))، لا تجد له عدواً أو حاسداً بين الذين عاصروه وبين الذين لحقوا بالركب فيما تتابع من الزمن، وكم تمنى أن يغمض عينيه ثم يفتحهما ليجد السيد الفقي)) وقد خطا بقامته الشامخة وابتسامته الهادئة بين هذه الجموع المحتشدة، ولئن جعلت الصورة الشعرية القوية والمكثفة التي حفل بها إنتاج ((الفقي)) منه شاعراً فحلاً وكبيراً لا يقل شأواً، أو شأناً عن القروي، وأبي ريشة والجواهري، فإن سماحته وطيبته ووفاءه، كل ذلك جعل منه مثالاً في أعين الذين عرفوه عن قرب وخصوصاً في عين الرجل الذي يحتفى به اسماً ومعنى في كل عام، وأقصد معالي السيد أحمد زكي يماني الذي جعلت منه هو الآخر - حلقات العلم في باب السلام وسواه رجل فكْر وعِلْم وأدب، وقليل منْ جمع الله لهم بين الثراء والعلم وحسن الخلق، وأنْت يا أبا هاني واحد من هذه القلَّة.
لقد كان الفتى سعيداً برؤية تلك القامات الشامخة من المفكرين والأدباء والنقاد، ولكنه كثيراً ما تمنَّى رؤية الدكتور محمد عناني صاحب كتاب ((الأدب وفنونه)) وهو كتاب صغير في حجمه، كبير في معناه، وكان يتابع بلهفة شديدة ما يكتبه هذا الإنسان عن حياته العلمية بين القاهرة و((أكسفورد)) و((كيمبردج)) على صفحات الملحق الأدبي ((أخبار الأدب)) وفرح كثيراً عندما علم أن الدكتور ((العناني)) جمع شتات تلك الحلقات في كتاب منْ جُزْءين.
أما الرجل الآخر الذي سبق أنْ قرأ لهُ شيئاً منْ إنتاجه ومنْهُ ((الأدب وقيم الحياة المعاصرة)) فهو الدكتور الأستاذ محمد زكي العشماوي، إنه في هذه السن المتقدمة من عمره، ولكنه يتوثب نشاطاً ويتقد حماساً ويرد على الدكتور ((صلاح فضل)) وسواه في أدب جم وعنْ علْم متمكِّن.
لن يدعي الفتى ويزعم بأنه يعرف أحياء مصر وشوارعها ومتاحفها، ولكنه يعرف أنها بلد الحضارات وقلعة الصمود والتحدي، فلم يستطع الفرنجة الوصول إلى أرض فلسطين لأن المماليك كانوا يرون أن القاهرة امتداد للقدس الشريف، وأن صلاح الدين لم يستطع تحرير الأرض العربية والمسلمة من أيدي الصليبيين إلاَّ بعد أن جعل منْ أرض مصر والشَّام مُنْطلقاً له.
ويعلمُ أنَّ جامعها الأزْهر كان وما زال قلْعَةً حصينةً للغةِ القُرآن وتراث العربية، وأنَّ أرضها احتضنت آل البيت الفارين من الاضطهاد والظُّلْم في القرون الخالية، وهذا التراث المتشكل نُوراً وضياء على مر العصور سواء ما كان منه في ((الحُسين)) أو ((السيدة)) وسواهما هو الذي أوحى لأديب كبير مثل ((نجيب محفوظ)) بروائعه الخالدة من أمثال ((الثلاثية)) و((زقاق المدق)) و((الحرافيش)) ومن الحارة المصرية العريقة انتقل ((محفوظ)) من المحلية إلى العالمية، وكذلك فعل أدباء جنوب أمريكا اللاتينية، وكما أنَّ البذرة لا يُمْكن أنْ تُصْبح شجرة، وأن الشجرة لا يمكن أن تهب ثمراً إلا بعد أن تروى الأرض وتمهد، وبعد أنْ يتعهدها صاحبها بالرعاية والتَّهذيب والتشذيب فكذلك الإبداع الأدبي لا يمكن لعشاقه أن يصبحوا شعراء، وأدباء كباراً لأنهم قرأوا، ت.س. أليوت، أو ديكنز، أو تولستوي بل لا بُدّ أن يمضي وقت طويل يكون كافياً لتمثل ما قرأوه من حرف، ثم مزج هذا الذي استقر في أعماق نفوسهم بتجاربهم الخاصة التي عايشوها - حقاً - وهذا هو ما يسمى بالصدق في عالم الإبداع والفن.
إنَّ شوقي، أو شحاتة، أو المعري والفقي، أو جبران والعواد، أو محفوظ والبوقري، سلكوا هذا الطريق في طبيعة ودون تكلف، وكان وراء ذلك موهبة متفجرة، وإيمان بما كتبوا حوله أو دعوا إليه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :693  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 418 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج