شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري (9)
نعود إلى ما نحن بصدده من قراءة نقدية متفحصة لمقدمة الأستاذ حمزة شحاتة لكتاب المرحوم عبد السلام بن طاهر الساسي (شعراء الحجاز في العصر الحديث) والتي دعيناها بالبيان الشعري لهذا الرائد المتفرد في شعره ونثره - على حد سواء - يقول شحاتة بعد عرضه لآرائه النقدية في فنون الإبداع - جميعها - والتي خص الشعر منها بنصيب وافر وهو فن تفوق فيه على كثير من أنداده والذي يعترفون له بعبقريته، وقدرته على التأثير حين يتحدث، وحين ينشد، بل وحين يشتغل بما هو مألوف وبريء في هذه الحياة كما أشار إلى ذلك الأستاذ المرحوم أحمد عبد الغفور عطار في إتقان شحاتة للدامة.
يقول الرائد الأستاذ محمد حسين زيدان - رحمه الله: ((رجال أربعة لا أريد أن أسميهم يتحدثون كأن الجرس في الحرف الذي ينطقون يعرب الكلمة أو يزيدها إعراباً، وأنت واحد منهم تقول: فتعرب ليس فيك عجمة فيما تعتقد، فيما تقول كأنك قد لبست الجاحظ والرافعي، كأنك قد شبعت من نهج البلاغة)) (1) .
ولقد وضع الأستاذ الزيدان - يده - بهذه العبارات المجنحة على منابع ثقافة ((شحاتة)) الأصيلة وهي الأدب القديم والحديث معاً، ولكنه لم يكن نسخة من الجاحظ، أو البحتري، أو الشريف الرضي أو الرافعي، بل تمثل ذلك الأدب الرفيع وغيره، ثم خرج لنا على نمط فريد من الشاعرية، والخطابة، والكلمة النثرية القوية في بنائها، والعميقة في معناها، والبعيدة المدى في جرسها.
أما الرائد الأستاذ ((محمود عارف)) - رحمه الله - والذي كان يقف إلى جانب الأستاذ الكبير محمد حسن عواد - رحمه الله - في معركته الأدبية المعروفة مع ((شحاتة))، فقد صوره في مرثية مؤثرة وكأنه ((أبو الهول)) في عظمته، وصمته، وإعجاب الناس على مر التاريخ بالأيدي التي نحتته، والعقول التي رزقت القدرة على تشكيل ملامحه الصلبة.
يقول المرحوم محمود عارف، في لغة رقيقة ومؤثرة:
عشت في مصر... غريباً، صامتاً
((كأبي الهول)) سواء بسواء
فإذا الأهرام والنّيل ترى
فيهما سلوى، ورؤيا، ونجاء
أين نجواك التي قد صورت
((جدّة)) والليل مسدول الرداء
أين رؤياك التي قد جاوزت
مكة، والبيت في جنب حراء
أين سلواك التي قد خلَّدتْ
((ذكريات)) في لياليك الوضاء
ذكريات، زخرفتها ملح
ونكات بين إخوان الصفاء
شهد ((المركاز)) فيها طرفا
في ((النقاء)) بين كدي وكداء
أين ((سمّار) أضاعوك سدى
مثلما ضاع من الصبح المساء (2)
يقول الأستاذ (شحاتة) في صدد كتابته لهذه المقدمة التي تهرب منها قبل القبول بكتابتها ثم نفى نسبتها إليه كما ذكر الأستاذ ((الفيلالي)) في ((المرصاد))، وإن كان صاحب ((المرصاد)) يعتقد - تماماً - أنها من إنتاج حمزة شحاتة - نفسه. أما الأستاذ الكبير عبد الله عبد الجبار، فقد أوجز في عبارات دقيقة رأيه حول هذه المقدمة فقال: (والواقع الذي لا شك فيه أن القارىء، الحصيف، الدقيق النظر، يشعر عند قراءتها أن كاتبها توخى الدقة فيما كتب، وكان يعني ما يقول بكل كلمة سطرها وليس العيب - إذن - في المقدمة، بل في الذهن المعوج، والفهم السقيم (3) .
يقول شحاتة - كما ذكرنا - عن بواعث كتابة هذه المقدمة وما اكتنف تلك الكتابة من مصاعب: ((والآن إن كنت لم أستوف الكلام - بعد إبقاء على صبر القارىء، أدعوه أو أعزم عليه - باسم الله - أن يخوض - وحده - معركة سافرة ضد ثلاثين شاعراً - على وجه التقريب - من شعراء الحجاز في هذه المجموعة التي اختار جامعها - غفر الله له - أن لا يقدم لها سواي دون عباد الله - قاطبة، ففعلت بعد أن سدّت في وجهي أبواب الهروب والإفلات)).
يبدو أن الأستاذ ((شحاتة)) كتب هذه المقدمة بعد خروجه من المعارك الأدبية التي خاضها مع بعض معاصريه، وفي مقدمتهم الأستاذ ((العواد)) ولهذا نجده اختار لفظ ((معركة)) ووصفها بالمعركة السافرة، وأراد للقارىء أن يدخل - وحده - هذه المعركة وكأن بشاعرنا يتحدث إلى فئة معينة من القراء وهي الفئة المثقفة، فلا يمكن للقارىء العادي أن يخوض معركة، بل هو ربما احتاج إلى من يخوضها عنه، ومع هذا فإن ((شحاتة)) لم يترك القارىء - وحده - أياً كان نصيبه من الثقافة الأدبية والشعرية ليقتحم ميدان هذه المعركة، ولهذا أردف يقول: ((والقارىء لا شك يعلم أن من مصطلح أدب التقديم الذي جرى فيه الناس على مألوف العادة، والعرف أن يكون تنبيهاً عريضاً إلى المحاسن، وإعلاناً عنها ولها، وإشارة مجملة إلى نقائضها وأضدادها لا تخرج عن نافلة الاستبراء بحركة أو بحركتين إن رؤي أن هذا ضروري لإثبات الأمانة)).
يشير ((شحاتة)) في شيء من الدعابة، والطرفة، إلى ما استقر في الأذهان عن أدب ((التقديم)) الذي يطغى عليه أسلوب المجاملة، وهو في عباراته هذه يتحدث بعقلية الناقد الذي يريد للحركة الأدبية في بلادنا - آنذاك - ضرباً جديداً من النقد يقوم على الموضوعية، وينأى عن تلك الأساليب التي استقرت في أذهان الناس عن النقد ووظيفته التي تعمل على تقويم ما يكتب، وتوجيهه الوجهة الصحيحة التي تعمل على إشاعة ذلك الأدب الرفيع الذي يرتقي بعقول الأمة، ويهذب نفوسها، ويصقل مشاعرها ويفتح أمامها أبواب الرقي الثقافي والحضاري والفكري، و((شحاتة)) في هذا الفهم الواعي لدور النقد، يلتقي مع آراء أكبر ناقد عربي شهده العصر الحديث - بشهادة المرحوم الدكتور شكري عياد - يقول الأستاذ الكبير ((محمد مندور)) - رحمه الله - موضحاً دور الناقد في المشهد الأدبي والفكري: ((إن الناقد الحقيقي ليضيف إلى النص الشيء الكثير، يخلقه خلقاً بفضل ما في الكتب الجيدة من قدرة على الإيحاء، وهذا من حقه، بل من واجبه ما دام لا يتعسف، فيخرج المعاني غير مخرجها، أو يحملها ما لا تطيق.
وفي الحق أن النقد الجيد خلق جديد، إذ سيان أن نحس ونفكر ونعبر بمناسبة كتاب، أو بمناسبة حادث، أو مشهد إنساني، وكل تفكير لا بد له من مثير)) (4) .
لقد كان (شحاتة)، ملماً بوعيه النقدي الفطري وعن طريق ما قرأه واطلع عليه، بالتيار النقدي الجديد الذي بدأت تترسخ مفاهيمه في أذهان الكتاب والقراء - معاً - ولو توافر ل((شحاتة)) ما توافر ل((مندور)) من عوامل الاستقرار، وبواعث الذيوع والشهرة لحظيت الحركة الأدبية في بلادنا بناقد متميز لا يقل عن نظرائه في البلاد العربية الأخرى، ولأصبح لدينا (شحاتة) الشاعر والناثر والفيلسوف والناقد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :693  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 273 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.