شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري (8)
إذا كان المبدع ((شحاتة)) نفى عن نفسه سمة الانتماء لأية مدرسة أدبية أو منهج معين، فإن الناقد الأستاذ عزيز ضياء - رحمه الله - يضع يده على قضية تطور حركة الإبداع عند شاعرنا بعد نزوحه إلى مصر، وذلك من خلال نص المقدمة التي كتبها عزيز لديوان شحاتة: ((ولقد عكفت على قراءة معظم قصائد المجموعة - متوخياً - أن ألمس تطور حركة الإبداع عنده، وإذ وجدت المجموعة ضخمة نسبياً قدرت أنني سأجد شواهد هذا التطور فيما لم يسبق لي أن قرأت من هذا الشعر، ولكن لست أدري إن كانت نظرتي إلى مفهوم التطور في الإبداع، لم توقف حركة التطور في شعر حمزة، هي التي جعلتني أقول بعد كل قصيدة قرأتها إن أوائل ما أبدع من شعره في مكة وجدة، وربما بعد ذلك بفترة قصيرة في مصر، يظل هو الذي بنى له هذه الشهرة وذيوع الصيت كشاعر في القمة، وعدم التطور أو وقوف حركة التطور لا تعني بطبيعة الحال أنه هبط عن مستواه)) (1) .
ولا بد أن نبحث عن أسباب إقدام حمزة على النشر في بداية حياته مما بنى له الشهرة وذيوع الصيت كشاعر في القمة بحسب تعبير الأستاذ عزيز. لقد كان حمزة مقبلاً على الحياة ومتوقعاً منها الشيء الكثير، وليس أدل على هذا الإقبال الطبيعي لشاب ((فارع القامة وثيق البنيان عالي الجبهة)) من قصيدته ((سطوة الحسن)) التي أزعم أنه لم يتحقق لقصيدة مثلها ذلك الذيوع والانتشار الكبيرين، وهي قصيدة نابعة من البيئة التي نشأ فيها الشاعر، ولهذا وحده، كان الشيوخ والشباب يرون فيها تعبيراً عن عواطفهم وأحاسيسهم الطبيعية، ولما تحمله القصيدة في طياتها من جرس قوي، ونغم عذب، يدل على تمكن الشاعر من السيطرة على أداته الشعرية وتوجيهها الوجهة الملائمة، لهذا وسواه كانت القصيدة نشيداً عذباً يردده الناس في جميع المناسبات، ومصحوباً في بعض الأحيان بالآلات الموسيقية. تقول بعض أبيات القصيدة ذات المطلع الأخاذ:
بعد صفو الهوى وطيب الوفاق
عزّ حتى السلام عند التلاقي
يا معافى من داء قلبي وحزني
وسليماً من حرقتي واشتياقي
هل تمثلت ثورة اليأس في وجهي
وهول الشقاء في إطراقي
ومنها:
وتهيأت للسلام ولم تفعل
فأغريت بي فضول رفاقي
هبك أهملت واجبي صلفاً منك
فما ذنب واجب الأخلاق
وفي رأيي أن هناك بيتاً في القصيدة لا يقل في روعة صياغته الشعرية، وعميق معناه عن تلك الأبيات الشاردة التي جرت على ألسنة الشعراء الكبار أمثال جرير، والبحتري، وأبي تمام، والمتنبي، وأحمد شوقي، وعمر أبو ريشة، ومحمد إقبال.
وهذا البيت الشعري المؤثر والمتداول من هذه السيمفونية الشعرية هو:
قد يطاق الصدود يوجبه الذنب وصدّ الملال غير مطاق
إلا أن إقبال ((حمزة)) على الحياة وتفاعله معها في مرحلة الشباب أدى إلى اصطدامه ببعض العقبات فآثر شحاتة التمسك بمثله وبمبادئه وعدم التفريط فيها، بينما سار الآخرون في الدرب في شيء من الواقعية والتوفيقية التي تأباها شخصية ((شحاتة)). ولعل بعض هجائياته التي كانت تنشر تحت اسم مستعار، أو رمز له دلالاته الخاصة مثل ((أبو الهول))، يدخل في باب اختلاف الشاعر مع بعض مجايليه أو أنداده حول التعامل مع قضايا الحياة وشجونها المختلفة. وقليل أولئك الذين احتفظوا بصداقة دائمة مع الشاعر، ويأتي في مقدمتهم معالي الأستاذ الأديب محمد عمر توفيق - رحمه الله - الذي وصف شعره ونثره - على حد سواء - ((بأنه يمثل الجزء الحي من أدبنا)). ومعروف أن الأستاذ محمد عمر - كان يملك حاسة نقدية مرهفة مما يجعل رأيه في ((شحاتة)) وأدبه له وزنه واعتباره وقيمته النقدية والأدبية، ولعل الكاتب الكبير والمبدع السيد عبد الله جفري يعرف عن هذه الناحية أكثر مما أعرف، فلقد تبادل مع الشاعر الرسائل في أخريات حياته، وكتب مرثية رائعة فيه بعنوان (من يجفف دموع القصائد؟) كما أن الأستاذ عبد الإله عبد المجيد ممن يعتد برأيه في هذه القضية. أما شيخنا محمد نور جمجوم ورديفه أستاذنا الفاضل عمر عبد ربه إضافة إلى الأساتذة عابد خزندار وعبد الحميد مشخص ومحمد سعيد بابصيل ومحمود عارف وعبد الله خياط ومحمد صالح باخطمة فلديهم ما يقولونه ويضيفونه عن الشاعر وحياته ومعاركه الأدبية.
ولقد ألمح الأستاذ الكبير محمد حسين زيدان إلى الصعوبة التي كان يجدها البعض عند الاقتراب من شخصية ((شحاتة)) التي كانت تزن الآخرين بمقاييسها الخاصة، يقول صاحب الكلمة المرتجلة ((الزيدان)) رحمه الله مخاطباً شحاتة: ((سألوني عنك: هل أنت صديق حمزة شحاتة؟ قلت: أنا صديقه، وهو صاحبي، لأنه كالوردة شمها ولا تضمها (2) .
ويشير الزيدان في مقالته تلك التي كانت رثاء في شحاتة إلى العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بالقلة من أدباء هذا البلد، وفي مقدمتهم الأستاذ المرحوم حسين سرحان: ((لم تكن جائراً حين لا يعجبك إلا صديقك حسين سرحان، ولم تكن متجنياً حين تتواضع فلا تعجبك حتى نفسك)) ومعروف عن الأستاذ الزيدان اعتزازه بشخصه، ولكنه يتحدث في هذه الكلمة بإعجاب كبير بشخصية ((شحاتة)) ولا أظن أحداً حظي من الزيدان بهذا الثناء كما حظي الرائد شحاتة. ويختم الزيدان كلمته بعبارات تؤيد ما ذهبنا إليه بأن شحاتة عانى من بعض أنداده في صداقته لهم وطوى نفسه على جراح أليمة، تقول العبارة الزيدانية المجنحة: ((وأخيراً فإن القلة من الرجال الذين صنعتهم قد يكونون أهل جفوة في حياتك ولكنهم - اليوم - كلهم الصفا... كلهم الوفاء... كلهم الباكون، حتى الذين أقصيتهم أنت كانوا أقربنا إليك حين وضعوك في القبر)).
لقد كان ((حمزة)) شاعراً وناثراً ومفكراً، وأعتقد أنه كان يعني نفسه بهذا القول الذي ضمنه محاضرته الذائعة الصيت ((الرجولة عماد الخلق الفاضل)) والذي يربط فيه بين رؤية حقائق الحياة بصورة متجردة وبين القدرة على المواءمة الحقيقية بين القول والفعل أو النظرية والتطبيق.
يقول ((شحاتة)) في هذا المعنى: ((لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة إلا من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها)) (3) .
وقد عمل شحاتة طوال حياته على أن يكون الإنسان الذي لا تناقض بين أقواله وأفعاله، وهي مهمة عسيرة وقليل من رجال الفكر والأدب العالمي الذين استطاعوا تحقيق هذه المعادلة الصعبة، ولقد دفع ((شحاتة)) ثمن ذلك فكانت الهجرة وكان النزوح، وكان الصمت البليغ.
لقد كان نزوحه في البداية إلى أعماق نفسه - وكأنه بهذا يمارس رياضة روحية، أو زاهداً يستجلي من خلاله صورة هذا الكون وحقيقة هذه الحياة، ولهذا نجد له عبارات أدبية، تمتدح الصمت وتدعو إليه، كما أنها تحث على الإيجاز وتعتبره فناً... يقول شحاتة: ((الصمت أفضل لغة للحوار)) وفي موضع آخر ((الإسهاب صنعة)) و: ((الإيجاز فن)) وفي شيء من الصدق والمرارة يعترف بقوله إنني: ((أعرف الواقع تماماً... ولكني غير واقعي)) (4) .
ثم هاجر ((حمزة)) إلى مصر، ولكنه لم يخالط أدباءها ومفكريها، وربما يمكن تفسير هذا الابتعاد عن الجو الفكري والأدبي المصري الذي كان في مرحلة توهجه في أثناء وجود شاعرنا هناك - هو اعتزاز شحاتة بشخصيته الفكرية والثقافية، ولو توافر ل((شحاتة)) من عوامل الاستقرار ((الذاتي)) منها، فإن شهرته لم تكن لتقل عن رواد الفكر والأدب - آنذاك - من أمثال: العقاد، وطه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وإبراهيم المازني، ولطفي السيد، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وغيرهم من رواد النهضة.
لقد كان ((حمزة)) إنساناً مثالياً بحق، فلقد نسي نفسه، وآثر العزلة في ديار الغربة، وذلك في سبيل تحقيق تربية فكرية وخلقية لأسرته... لذا نجده يعبر عن هذه الناحية المهمة في شخصية الرجل الذي فسر بعضهم علاقته بأسرته تفسيراً خاطئاً، يقول الأستاذ شحاتة: ((ورب سائل يسألني عن الأسرة في حياتي، وماذا أتمناه لأبنائي، والواقع المؤلم، أني حاولت بكل جهدي أن أكون أباً مثالياً لبناتي وظللت أصارع المتاعب حتى خارت قواي))، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يجعل حب الأب لأبنائه ضياء ينير دروب الحياة المعتمة: ((ومعقول أن يصبح حبّنا إياهم، شاغلاً قوياً بعد ذلك، لشعورنا بالحاجة إليهم كجزء متمم لحياتنا، وفي بعض الأحيان كضوء ينير جوانبها المظلمة (5) .
لقد كان ((شحاتة)) مثالياً في كل شيء، ولكنه كان واقعياً إلى أقصى حدّ في حبه لأبنائه، وعطفه عليهم، وسعيه لكسب لقمة العيش ((الحلال)) لتربيتهم، ولقد تجاوز الحد الطبيعي في الحرص على كيان أسرته وتحقيق رغبات بناته اللاتي كن كل شيء في حياته، حتى تمنى أن يموت في سبيلهن، فلقد رفع صوته ذات يوم وفي لحظة صفاء نادرة ليقول: ((عندما يعجز رب الأسرة عن تحقيق رغباتها يكون موته أفضل)) ترى أي شيء نسعى لمعرفته عن هذه القمة الشامخة، رجولتها، وفائها، فكرها وأدبها، أم ذلك الينبوع المتدفق حناناً وعطفاً وأبوة حانية ورحيمة.
وهذه أبيات من قصيدة للشاعر الكبير السيد محمد حسن فقي، شافاه الله، في رثاء حمزة شحاتة:
قد كنت بالأمس القريب أجله
لنبوغه وألومه لحذاره
واليوم أحمده على علاته
وأي زكانته وبعد قراره
إن شذ في أطواره فلأنه
عرف الأنام فشذّ في أطواره
لم يحمدوه على المقام ولا السرى
فلوى العنان ولج في إصراره
يا من ترحل هيكلاً متحللاً... عنا
وأبقى الخلد في آثاره
سنظل من إحساسه في نعمة
وبنعمة سنظل من أفكاره
بل الغمام ثراك موصول الندى
حتى ينمنمه بحلو إطاره
إلى لامح بالخيال جواره
فأروح مغتبطاً بحسن جواره (6)
 
طباعة

تعليق

 القراءات :840  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 272 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.