شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (3)
كمْ أثقلت الهموم كاهل والدك في صباه - يا بُنَي - كم بَكَى حُرْقةً وألماً - وتلفَّت حوله فلم يجد من يُجفِّفُ تلك الدموع ولا من يشاطره تلك الأحزان التي لم يعرف بدايتها فهو إلى يومه - هذا - وربما إلى غدٍ الذي في ظهر الغيْب لا يجدُ تَفْسيراً لها وتأويلاً، وسأل والدته - أو القلب الكبير في حياته - ذات يوم - عن هذا السِّر المَدْفُون في الأرض التي شَبَّ فيها بين السَّيْح وباب جديد، فكان الصَّمْتُ وكانت الدُّمُوعِ - أيضاً - فرمى برأسِهِ في حضنها الصابر، وهو في كل لحظة من لحظات حياته يتذكّر صَبْرَها، حنانها طيبة قلْبها، إحسانها حتى إلى أولئك الذين قسَوْا - يوماً - عليها، وقد نشأ يرى المثال فيها لكل امرأة.
أغلق على نفسه الباب، وارتمى على الأرض، دخلت عليه لتُشاهِدَ مَأْسَاته، واستفسرت كعادتها - بشيء من القَسْوة لماذا فعلت ذلك؟ أجابها بصوت خافت - فلقد تعلَّم من أبيه أن رفع الصوت في المنزل ضَرْبٌ من ضُروب الأخلاق السيئة - أجابها - يا بُني تذكَّرْت المرأة الصَّابرة - التي لا تَعْرفُ في حياتها سوى منزل - الجَدّ - في تلك البقعة النَّائية في أرض السِّكة، ويعاودهُ صَدَى صوت أبيه الأجش، عندما يصل برفقة أخوته إلى دار جَدِّه - يا أبا سُليمان - الأبناء - اليوم - في ضيافتك، وإذا ما ارتفع صَوْت المؤذن لصلاة المغرب يجب أن يكونوا في دارهم برفقتك ولا يكون إلا ما يُريده - سيِّد الدار، فكلمته نافذةٌ، وقوله فَصْلٌ، ونظراتُه حادة، وخطواته أدب ووقار.
وجاء طارقِ يطرق الباب يَحْمِلُ معه نبأ اهتزَّ له كُلُّ من في الدار، يَحْمِلُ الفتى صاحبة القلب الصَّابر إلى منزل والدها فيجدونه وقد أسْلم الرُّوح لبارئها، كانت الناس - يا بني - تمْشي إلى الأفراح في شوارع البلدة الطاهرة - على أقدامها - وتتقدم مَوْكب المسرَّات القناديلُ المضيئة، والأهازيج الشَّجية، وفي ساعة الحزن لا تخون الأقدام أصحابها، يتذكر قول والدته له. وهي تروي له كيف حملوا خَالَة أَبيه من حوش ((سنان)) في ((العنبرية)) إلى المسجد الطاهر حيث يأنسُ الجثمان للحظات بجوار صاحب المقام الطاهر - عليه صلوات الله وسلامه - لقد حملوا - يا بُنيَّ - النَّعْشَ تتقدمهم ((الأتاريك))، فلم تَسْرِ طاقةُ الكهرباء في الشوارع والمنازل - بَعْدُ - لقد نظرتْ من ((الروشان)) فعرفتْ - بفطرتها - أن... شاهينية ((قد سقطتْ ورقتُها في غيبة ابنها الوحيد الذي لم يجدوا وسيلةً لإخباره بذلك -، عفواً يا أبا مُحمَّد علي - فلم أرد استثارة أحزانك في هذه الحقبة من حياتك ولكنه - سياق الحديث - فكثيراً ما أخبروني عن وفاء ونُبْل المرأة التي نشأْتَ في أحضانها ورقة مُخضرَّة
ولم يُدهشني وفاؤك لأهلك فأنت ابن امرأة عظيمة.
كان الناس في البلدة المحبوبة يتسابقون عند رؤية الجثمان المَحْمول على الأكتاف، ثم يسيرون خلفه إلى ما بَعْد ذلك الباب الذي يَفْصل بين حياتين، واحدةٌ نَزْرَعُ فيها يا بني، والأخرى نحصد تحت أطباقها ما قد زرعناه، ولكم سهروا يا بُني في الدُّجى يناجونه والناس نيام، وكم ذرفوا الدمع على أيام وليال بعدوا فيها عن خالقهم، وإنه يفتح أبواب رحمته أمامهم ليعودوا إليه بقلوب راضية ونفوس مطمئنة. وعجيب - يا بني - أمر هذا الإنسان فكيف يتجرَّأُ على بارِئه بسوء الأدب وقبِيح الذَّنْب، وعظيم الإثم؟، فاللَّهم اغفر لهذه الجوارح آثامها، ولهذه النفس غفلتها، ولهذا المخلوق الضَّعيف غطرسته وغروره وحماقاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :641  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 106 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.