شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من الحَصْوة (1)
أغراني الصديقان الأستاذ القاص محمد صادق دياب والأستاذ الشّاعر عبد المحسن حِلِّيتْ مسلّم بأن أكتب شيئاً عن ذكرياتي في طيبة الغراء، والعنوان يحمل دلالة ((المكان)) فالحصوة هي الأرض المكشوفة المغطاة بشيء من الحَصَوات الصغيرة المجلوبة من قاع التربة الطاهرة في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحصوة تفْصلُ بين موقع الحرم القديم والتوسعة الأولى للمسجد، وفيها كنا نجلس صغاراً لحفظ شيء من كتاب الله.
وفيها أيضاً كنا نستمع لمن وهبهم الله الأصوات الندية لترتيل كتاب الله، وكنت قد أدركت جملة من القراء بحكم تحصيلي العلمي في مدرسة (دار العلوم الشرعية) وجلوسي في حلقات العلم لعلماء أفذاذ قضى معظمهم، وبقيت حلقة واحدة من الحلقات التي أدركتها في مطلع العُمْرِ، وهي حلقة الشيخ ((عمر محمد فلاّته))، وهو رجل يجمع مع العِلْمِ حُسْن الخلق، والذي عندما أراه، تستعيد ذاكرتي وجوهاً عديدة كانت تنقل خطواتها بين الروضة والمقام، ووجوهاً أخرى كانت ترتل القرآن في محراب صفوة البشر وسيد العالمين صلى الله عليه وسلم وأخرى يأتي صوتها ندياً من (الطوف) في المنائر الشامخة كشموخ تاريخ هذه البلدة الطيبة المرتفعة في عنان السماء كارتفاع قامات رجالها الكرام المزدانة بالأهلة في أعاليها كما ازدانت نفوس القوم الذين عرفتهم بالعفة والطهر وكريم الصفات.
كانت الأصوات الحسنة من الكثرة بحيث لا تستطيع إحصاءها.. فالشيخ ((حسين بخاري)) كان ذا صوت قوي وندي في الوقت نفسه. سمعته في أوائل الثمانينات الهجرية وهو يلقي قصيدة ترحيب في ((عقد نكاح)).. كان صوته يملأ المكان ويصل إلى المسيل في قباء فتتجاوب معه أصوات ((النغارى)) التي تسكن أعالي النخيل ((الشجرة الأصيلة في التربة الزكية)). وكان مجايله ((الأستاذ عبد الستار بخاري)) قد اجتمعت له مواهب عدة فهو من أشهر حفظة كتاب الله، وكان نقيب القرّاء في حلقة الشيخ الفاضل حسن الشعر - رحمه الله - وكان يحفظ الشعر قديمه وحديثه ويترنم كثيراً بشعر شعراء المدينة في العصور المتأخرة: إبراهيم الأسكوبي، عبد الجليل برادة، سعد الدين برادة، محمد العمري، عبد الحق رفاقت علي، وبعض هؤلاء كان يجيد إبداع الشعر في اللغتين العربية والفارسية. وكان ((عبد الستار)) يجيد أداء المقامات المرتبطة بالصوت التي جمعت في قولهم ((بحمر دسج)) فحرف الباء يشير إلى مقام ((البنجكا)) والحاء ((للحراب)) والبعض يقول إنها ((للحجاز)) وهو نغم أصيل لا يجيد أداءه إلا القلة من المنشدين، والميم ((للماية))، والراء ((للرصد))، والدال ((للدوكا))، والسين ((للسيكا))، والجيم ((للجاركة)). ومقام ((البيات)) مصطلح مرادف ((للحسيني)) وهو المصطلح المعروف في البيئة المحلية وبين ((الرصد)) و ((الجاركة)) وشيجة، ومن يجيد أداء ((السيكا)) يجيد في نفس الوقت أداء ((البيات)) و ((الصبا)).
وكان ((الريس عبد الستار)) يجيد هذا كله وغيره، وصعد ذات يوم المرحوم عبد الستار لأداء أذان صلاة الظهر، وكان الأذان ينطلق من المكبرية، ورأيت رجلاً يجلس غير بعيد من المنبر، وهو الشيخ ((عارف براده)) رحمه الله، رأيته يرفع سبابته ملتفتاً إلى الريس عبد الستار، ولم أفهم مغزى تلك الإشارة، وكنت ملازماً للأستاذ ملازمة كاملة حتى إذا نزل بعد انقضاء الصلاة، وجهت إليه سؤالي الفضولي: ترى ما الذي كان يقصده الشيخ عارف برادة بإشارته؟ فقال: سمع مني يماني الرصد أو يماني السيكا - لا أتذكر - فأراد أن أستزيد منه.
وقادتني الأيام إلى ((مكة)) ولازمت شيخ المشايخ المرحوم ((عبد الله بصنوي))، وأقام الصلاة لفرض المغرب، وبعد انقضاء الصلاة، فتح أبو محمد باب المقام ونزل درجات السلم وكان رحمه الله ممسكاً بيدي، وعند آخر درجة وجدنا ((محمد باجودة)) - رحمه الله - و((محمد خياط))، أطال الله عمره، في انتظارنا وقبَّل كلاهما جبهة الشيخ، وكان جواب الشيخ ابتسامة صادقة ورضية، وقال الشيخ باجودة متسائلاً: هذا ((يماني السيكا))؟ فهز الشيخ رأسه، والتفت إليَّ قائلاً: كان عبد الستار بخاري في المدينة يجيد أداء هذا المقام، وأردف يقول: ولكنني كنت أحب سماع صوت حسين بخاري.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :824  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.