شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيوه.. أقدر أشتغل..
خلال الأيام الأولى من زواجها، وما استتبعه ذلك من حياتنا في بيته، في زقاق الطٌّوال، طرأ مارسَّخ في نفسى احساسا، ليس الغربة فقط، ولكن بأنى ((سجين)) في هذا البيت ايضا !!! اذ لم يسمح لى بالخروج واللعب مع الأولاد عند دكان العم صادق، كما كان يتاح لى طوال أيام سكنانا في بيت زقاق القفل... لم تقل أمى اى كلمة تحرّم على الخروج من البيت... كما لم اسمع منها أو من زوجها، امرا بملازمة غرفتى تلك، أو التي اصبحت اسميها غرفتى... وفى نفس الوقت كانت نفحات الشكوكولا، وغيرها من انواع الحلوى، ومعها اللعب، تكاد لا تنقطع ابدا، وهذا اضافة إلى ما اصبحت تغمرنى به ((الباجى)) من الرعاية والتدليل، تلاحقنى بهما كلّما يحدث ان ترانى جالسا وحدى في الغرفة، أو إلى جانب أمى التي اراها تشغل نفسها بالتطريز على المنسج، وقد كان ما تعنى بزخرفته بالتطريز بالوان زاهية من الحرير، هو مايسمى ((بيوت)) المخدات، ليس لأسرة النوم فقط، وانما لتزيين الكنبة الطويلة والمقاعد. لم اسمع كلمة تحرّم على الخروج، ولكن هناك على دكة الدهليز العسكريان التركيّان، اللذان لا يتكلمان الا اللغة التركية، واحدهما دائم العبوس، بحيث يبدو رهيباً مخيفا، فضلت دائما أن اتحاشى الأقتراب منه... وهو الذي كان اذا رآنى اقترب من باب الخروج، يكتفى بنظرة تحمل رهبة الأنذار دون ان يقول كلمة واحدة.. فلا أملك إلا أن أتقهقر إلى الداخل وفي نفسي أنها مصيبة حلت بوجودي في هذا البيت، وبوجود هذا الجندى في الدكة لا يفارقها ليلا أو نهارا... وكل ما يشغل به نفسه، في كل مرة اراه فيها، هو الانّهماك في تنظيف بندقيته... بين يديه هذه البندقية، وأمامه على قطعة كبيرة من ورق ((القَرْطَسة)) ماعرفت فيما بعد انه ((مِزْيَتَة)) اى الأنبوبة التي تملأ اويجب ان تكون مملؤة دائما بزيت خاص لمسح وتنظيف الأسلحة، كالبندقية والمسدس مثلا... وهى مصنوعة من ((الصفر)) وسوف تكون لى معها في المستقبل القريب علاقة حميمة وتعامل أهالَ على شخصيتى هالة فخرٍ وامتياز بين جميع لداتى من ابناء ضاحية الساحة، ومنها ـ اعنى من هذه الضاحية ـ ((السلطانية))، و ((الحماطة)) التي تطل على ساحة المناخة وقد اصبحت ـ في ايامنا اللاهية تلك ـ حصنا كنا ندافع ونذود عنه ابناء المناخة، فلا نبالى بما يسيل من جباهنا ووجوهنا من الدماء، التي لا نكاد نراها حتى نسمع صرخات تقول ((الدم مدفون)) ونوافق نحن، ونردد ((على مثلها وسواها)).
قلت: كانت نظرة الأنذار تلك تكفى تماما لأرغامى على التقهقر، والتراجع إلى داخل البيت... ولا احتاج ان اقول انى قد ضقت ذرعا، بل بلغ بى الأحساس بالضيق حد الأختناق الذي لا يخلصنى منه، الا العودة إلى الغرفة، والإستلقاء على ذلك السرير، والإستغراق في النوم إلى أن توقظنى، أو تستدعينى ـ ((الباجى)) لتناول وجبة الغذاء...ويقتضينى الأنصاف اليوم ان اذكر لتلك العجوز السمراء أو السوداء، دفق حنانها على، وحرصها على الترويح عني اذيبدو أن لها طريقتها في تسْليتي... وليس في أوقات عملها بالطبع، وانما بعد صلاة المغرب، حيث تدخل على الغرفة، وفى يدها طبق صغير من أى حلوى من انواع الحلويات الموجودة، وتعرف مسبقا انى لن آكل شيئا... فتضع الطبق جانبا، ثم تأخذ في الحديث، عن أيامها في اسطمبول... واسطمبول هذه في وجدان ((الباجى)) هي الجنة... وهو قصر السلطان ((الباديشاه)). القصر غارق في الخضرة... وشرفاته ونوافذه ترى البحر، والبواخر التي تراها ذاهبة، آتية ليلا ونهارا.. كانت تتجنّب ذكر السبب الذي جعلها تخرج من تلك ((الجنة ـ اسطمبول)) وتجىء إلى المدينة... كان ذلك سرا من اسرارها، ولكنها ما اكثر ما تذكر سيدات ذلك القصر.. وفتياته، والاغوات، الذين جاء واحد منهم إلى المدينة، وهو موجود في الحرم حتى تلك الأيام، ولذلك فلا يسعدها شىء كما يسعدها ان يؤذن لها بالذهاب إلى الحرم، للسلام على رسول الله صلوات الله عليه وكذلك لرؤية ذلك الأغا، والتحدث اليه، وسماع اخبار اهل القصر في اسطمبول.
وإذْ أحسَسْتُ ان الكلفة بينى وبينها قد اخذت تذوب وتتلاشى، اقتربتُ منها، ووضعت رأسى على صدرها كما كنت افعل مع أمى حين اريد ان اصل إلى غرض معين... وقلت لها بعربية حرصت على ((تكسير مخارجها لتبدو كلغتها))...
؛ـ أمى باجى... انا ما في خروج زقاق... مافى لعب مع أولاد ؟؟؟؟ هادا عسكرى ((محمد على)) دايما... دايما يخوّف انا... وما كدتُ افرغ من كلامى حتى اخذت تضحك ضحكات عالية، وتربت في نفس الوقت على كتفى وهى تردد:
ياوْروم.. ياوْروم.. زا واللِّى..
وبطبيعة الحال لم افهم شيئا من هذه الكلمات، في حينه... ولكن لاشك انها كانت من عبارات التدليل التي كثيرا ما تتردد، بين الكبار، والأطفال.. واخيرا قالت:
؛ـ هادا محمد على... ولد طيب.. انت لازم ما تخاف.. بكره صباح.. انت ممكن تخرج...
ممكن تلعب مع ولد.. بس ((أوْلادِم... ياوْروم)).. لازم إذِنْ ماما...
ومع انى فرحت في البداية، فقد نسفتْ احساسى بالفرحة عندما نبّهتنى إلى انه ((لازم إذن ماما... لأنى أصبحت أشك كثيرا في أن تأذن لىّ أمى بعد هذا الزواج، بما كانت تأذن لى به أو تتسامح فيه قبل الزواج... ولا أدرى في الواقع سبب هذا الشك ولكن رجّحت أن تلك هي رغبة ((عمّى)) ـ زوجها ـ وهى بطبيعة الحال تفضل أن تنفذ له رغباته، ومنها أن أظل أنا هكذا في هذا البيت لا اخرج منه الا معها عندما تذهب إلى الحرم أو لزيارة احدى أولئك ((الهوانم!)) اللائى قمن بزيارتها في الأسبوع الأول من الزواج... وهذا مالم يحدث، أكثر من مرة أو مرتين... وقد يحسن الآن، أن أذكر انى، رأيت البنت ((اللى قدّى))، وكذلك الولد، ولكنها رؤية جافة خالية من الحيوية، إذ ظل كل منا ينظر إلى الآخر أو الأخرى، نظرات سرعان ما تسافر أو تدور في فضاء الغرفة... وكان وقت الزيارة لا يزيد عن الساعة تقريبا، أو هكذا كان يخيّل إلى... ولقد كانت ((البنت اللى قدّى)) سمراء، أو قمحية أو لا ادرى بماذا يوصف لونها... على أية حال لم تكن بيضاء شقراء كأمّها... فهمت فيما بعد انها شابهت أباها الدكتورولكنها رقيقة، يغلب على محياها الابتسام... ومع انها لا تجد فرصة للكلام مع الكبار ((الهوانم)) اللائى ينصرفن إلى الحديث وشرب القهوة، وتلك التي تدخن بشراهة واسراف، تكاد يدها اليسرى لاتخلو من السيجار، مُشْعلةً تنفثُ دخانَها بعد أن تستنشقه أو هي تسحبه عميقا إلى صدرها... مع ذلك فانها ـ واعنى البنت ـ تنتهز فرصة. نظرى اليها لتبتسم، ولو أنها كانت تعرف اللغة العربية، لما ترددت في التحدث إلى... تلك كانت رغبتها دون شك، في كل مرة تلاقت فيها نظراتنا... امّا الولد ((اللى قدّى)) هو أيضا، فقد كان يبدو عليه الانطواء، أو التعب.... فهمت فيما بعد انه اصيب هو أيضا بالسعال الديكي، وما كاد يشفى منه، حتى اصيب بما يسمّى ((الديزنتاريا)) وهو مرض رهيب، كان من الأمراض الأكثر خطورة، لندرة الأدوية التي تفيد في علاجه.
على أية حال... لىّ أن أقول: جاء الفرج... في صباح اليوم التالى... إذ فاجأتنى أمى وامام عمّى بقولها:
:ـ أنت، بطلت تلعب مع أصحابك العيال ؟؟؟
: ـ من أيام ماجينا في هادا البيت، ما شافتهم ولا لعبت معاهم.
: ـ لكن ليه ؟؟؟ مين اللى قال لك ما تروح تلعب معاهم ؟؟
: ـ هادا العسكرى... اللى اسمه محمد على... يُزْغُرْ فيَّه لما يشوفنى في الدهليز... يعنى بيقول لى ما اعتب الباب.
ورأيتها تحاَول أن تكتم ضحكة، وعمّى أيضا حاول أن يبدد ابتسامة ارتسمت على شفتيه وقالت أمّى:
:ـ لكن هوّة قال لك شىء ؟؟؟
:ـ لأ... هوّه مايتكلم... مايعرف عربى.... ماعنده غير ((يُزْغُرْ فيّه))، ويفضل ينظف البندقية، ويلمّعها... ويشغلها... وكمان يلمّع ازارير الجكته... وبس ولم أكد اكمل عبارتى، حتى تعالت ضحكاتهما معها... ثم قال هو:
:ـ هادا محمد على ولد طيب... مايعرف عربي... لكن يخاف عليك...
وقاطعته أمى تقول:
:ـ يخاف عليك اذا خرجت الزقاق تضيع في الأزقة... ما تعرف ترجع البيت... ووجدتنى أسرع لأقول بشىء من الحدة:
. ياففَّم... كيف اضيع في اللأزقة، وأنا أعرفها كلها ؟؟؟ الأزقة اللى في الساحة كلّها، أنا لعبت فيها مع العيال...
:ـ هوه... هوه عشان مايعرف عربى... ومايعرف أزقة المدينة ولا أهلها، يضيع فيها وقاطعها ((عمّى)) يقول:
:ـ هوه جا المدينة قبل مايخرج فخرى بستة أشهر... وطول المدة كان في القشلة وبعدين في المستشفى... مريض...
واستطعت أن أفهم في هذا الصباح بوضوح شديد، انى استطع أن اخرج، وأن ألعب عند ((البرحة)) بين زقاق القفل وزقاف الحبس، امام دكان العم صادق... فتنفست الصعداء... وكانت الباجى تدخل في هذه اللحظة، ويبدو انها لمحت تعبيرات الفرحة في وجهى فاذا بها تضحك ضحكة قصيرة خافته ثم تقول كلاما بالتركية لم أفهم منه شيئا، ولكن تأكدت أن الفضل كان لها في اطلاق سراحى من نظرات أو ((زغرات)) محمد على وبندقيته التي لايكف عن مسحها وتنظيفها وتلميع خشبها.
ولا أدرى، كيف، خطرت لى وأنا استقبل فرحة الأذن لى بالخروج، فكرة ((العيال اللى قدّى وبيشتغلوا))؟؟؟ ((العيال اللى شفتهم في سوق الخضرة))؟؟؟ كما لا أدرى حتى هذه اللحظة كيف كان أول ما اعتزمت أن أفعله بمجرد الاذن لى بالخروج، هو أن أذهب إلى سوق الخضرة، وهو لايبعد عن زقاق الطُّوال كثيرا، وأن ((اشتغل... وأجيب فلوس)).
ولم يكن طبيعيا أن أزيح الستار عن هذا السر لأى مخلوق... وفى تلك اللحظة تذكرت أن هذه الرغبة ظلت تساورنى، وتلح على ربما في كل لحظة طوال الفترة التي عشتها منذ دخلنا هذا البيت، واستلقيت على السرير في تلك الغرفة، التي أصبحت تسمى غرفتى حتى الآن.
كانت نظراتى وأنا أتجه إلى باب الزقاق عبر ((الدكة)) التي يحتلها ذلك الجندى ((محمد على)) تكاد لاتتحول عنه... لم أكن استبعد ابدا انه سيجمّد حركتى. لو انه رمانى بتلك ((الزَّغْرة)) من زغراته الرهيبة.... ولكن... عجبا.. لأول مرة، كان يبتسم، ثم يلتفت إلى زميله القابع في ركن الدكة ويتحدث اليه بشىء لا أشك في انه كان يعنينى، ولكنى لم أفهم منه شيئا... المهم انى خرجت من الباب إلى أرض الزقاق، دون أن يعترضنى أحد... ورغم تشوّقى إلى اللعب مع ((العيال))، بعد انقطاعي الطويل عنهم، فقد وجدت نفسي أتردد في الاتجاه إلى حيث يتواجدون ويتجمعون في العادة. ولم يكن السبب هو الرغبة في رؤية ((العيال اللى في سوق الخضرة)) والرغبة في أن ((اشتغل مثلهم وأجيب فلوس...)).. كلا.. كان في نفسى ما جعل قلبي يغوص في صدري، إلى الحد الذي بدا لىّ كأن الشارع الرئيسي الذي بلغته بعد خروجي من الزقاق قد أصبح رمادي اللون... كانت الشمس مشرقة والحركة على أشدها... ولكن هذا اللون الرمادى، كان هو الذي يغمركل ماتقع عليه عيني... كان في نفسي ذلك السؤال الصعب الذي خطر لي أن العيال... احدهم، أو جميعهم... سوف يصرخون به في وجهى، وهو: ((هل تزوّجت أمك ؟؟؟ ولماذا تزوجت ؟؟؟ ثم أين أبوك؟؟؟ وأخيرا من هو زوجها؟؟؟))... ثم... وحتى العم صادق، الذي يعلم بالطبع أن أمى قد تزوجت، لابد أن يسألنى عن هذا الزواج؟؟؟ عن حالى أو حالها هي معه؟؟؟
تسمرت قدماى عند مخرج أو مدخل الزقاق... مع ذلك اللون الرمادى الذي يغمر كل شىء... ثم هذا القلب الذي بدا لى كأنه يختلج في صدرى، ويكاد يمزقه... خطر لى أن أعود من حيث أتيت... ذلك هو السبيل إلى أن اتخلص من كل هذا الذي لا أدرى كيف لم أحسب له حسابا حتى هذه اللحظة... كانت هناك مصطبة صغيرة من الحجر الأسود ـ كجميع حجارة المدينة ـ عند مدخل هذا الزقاق... لم اتمالك نفسى... كدت أسقط... فادركت أن خير ما أفعله هو أن أجلس على تلك المصطبة... جلست فإذا بالعرق البارد يتصبب غزيرا من جبهتى وحول عنقى... هبت نسمة باردة... وكأنها جاءت في الوقت المناسب فاستروحت، وبطرف كم الثوب، مسحت ذلك العرق... لاشك أن لو رآنى أحد لأدرك انى مريض، تتلاحق أنفاسى وقد علت وجهى صفرة الموت... لم أتحرك من مجلسى ذاك أى حركة واستندت بظهرى إلى الجدار...
لا أستطيع اليوم أن اقدر الفترة التي قضيتها في مجلسى ذلك على هذه الحال... ولكن... في النهاية تحاملت على نفسى، ومشيت في اتجاه سوق الخضرة... ومع المشى بطيئا عاودنى شىء من النشاط إلى أن بلغت مدخل السوق... كان مزدحما بالناس... وبالأطفال الذين يشتغلون... كان بعض الرجال الذين يتسوقون يحملون في أيديهم ((الزنابيل)) ـ جمع زنبيل ـ ولكن كان هناك آخرون لا يحملون شيئا. ولكن يقف إلى جانبهم واحد من هؤلاء الصبية، وفى يده أو على رأسه ماعرفت فيما بعد أن اسمه ((القفُة))، وهى وعاء مستدير مصنوع من سعف النخل، واسع بعض الشىء.
وبعض هذه (القفف) مبطن من الخارج بجلد المعيز أو الخرفان... وهؤلاء الذين لايحملون في ايديهم الزنابيل، كان يغلب على مظهرهم التميز والابهة... اذ على رؤوسهم (العمة) المدني جيدة اللف، وربما بدا في استدارة لفاتها نوع من الزخرفة الدقيقة الخفيفة البيضاء اما (الجُبَّة) فتنسدل بلونها الأسود، أو البنى، أو الأبيض أو حتى الأحمر على مالعله كان يسمى (الشَّايَةْ) التي تختلف انواع اقمشتها بين حريرية كالغبانى الحرير بالوانه المختلفة والاصفر اكثرها شيوعا، أو القَرَمْسود، أو اللاس الخ... هؤلاء هم الذين يضعون كل مايتسوقونه في (القُفة) التي يحملها هؤلاء الصبية، فاذا فرغوا من التسوق، يمشون منطلقين إلى بيوتهم وخلفهم هؤلاء الذين يحملون القفف، دون ان ينبس احد منهم ببنت شفة... لأن المفهوم ان الاجرة لاتقل عن ربع مجيدى بأية حال. وهذا المبلغ ليس قليلا، والسخاء به على (شيّال) يعتبر كرما بلا حدود.
وكانت هذه (القُفة) بالنسبة لى هي المشكلة... إذْ من أين لى واحدة منها ؟؟؟ اما الزنبيل فمسألته سهلة... ولكن كل متسوق يحمل زنبيله بيده بنفسه... ظللت امشي أو اتسكع في هذا السوق محاولا ان اجد الطريقة التي احصل بها على (القُفة) من جهة... ثم الاهم من ذلك قيمتها اذا وجدتُها وأردت شراءها.
كان أمامى احد هؤلاء الصبية واقفا خلف شخصية ظاهرة الوجاهة... اقتربت منه، والقفة على رأسه وماتزال فارغة... وسألته:
:ـ فين يبيعوا هادى القفة؟؟
فالتفت اليّ مندهشا، وهو يستعرضني... اذ ما الذي يجعل مخلوقا يرتدى مثل ملابسي، وفى قدميه حذاء لامع، وشعره مسرح بعناية، يسأل عن الدكان الذي يبيعون فيه هذه القفة ؟؟؟ اطال النظر والتحديق... ثم بكل اشمئناط وتأفف قال:ـ.
:ـ. روح شوف لك واحد غيري ((تِتْريَقْ)) عليه.
لم افهم منه سوى انه استكثر ان يجرؤ مثلى على الاحتكاك به... ومن جانبى فضلت ان اكتفى بما قال، فتركته حيث كان يقف... ومشيت في السوق... إلى ان بلغت نهايته التي تنفرج وتستوعب الساحة الكبرى، امام ابواب (السلام والرحمة) من ابواب الحرم النبوى الشريف.
كنت افكر في العودة من حيث اتيت حين سمعت صوت من يناديني باسمي فالتفت لأرى احد الصبية الذين ألعب معهم... كان في الواقع اقربهم إلى نفسي... اسمه ((يحيى))... وقف امامي وفي يده زنبيل صغير محشو بما تسوَّقه لأهله.. قال:
:ـ ايش بتسوّى هنا ؟؟؟ تبغا تشترى شي ؟؟؟ فين زنبيلك؟؟
:ـ. لا... انا ابغا اشترى قُفَّة... فُقَّة زى هادي اللي بيشيلوها على روسهم. وفرقع يحي ضحكة عالية، وهو يقول:
:ـ. ليه ؟؟؟ ناوى تشيل قفة ؟؟؟ عمّك وأمّك طردوك من البيت... ؟؟؟ وتبغا تشتغل؟؟
:ـ. ايوه ابغا اشيل قفة... لكن امى وعمّى ماطردوني... بس انا ابغا اشيل قفة... انا ابغا اشتغل واجيب فلوس..
:ـ. يعنى تبغى فلوس؟؟؟ انا عندى مجيدى اسلفك هوّه ولمّا تشتغل تعطيني...... طيب؟
:ـ. طيب يايحيى... بس فين نلتقى القفة ؟؟
:ـ. في سوق النّخاولة... في المناخة.. هيا امشي نشتريها سوا..
ولم اكن اعرف شيئا عن المناخة أو سوق النخاولة... ولكنى مشيت معه بينما اخذ هو يرفع ذيل ثوبه، عن سرواله.... ويفك طرف الدكة عن المجيدى...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :759  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 54 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.