شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تسقط الخلافة..
ولا تستسلم المدينة المنورة
في العنوان الذي اخترته لهذا الفصل، ما لابد ان يحفز المؤرخ الأمين أو الدقيق، إلى مراجعة مصادره، بالنسبة لتسلسل الأحداث في تلك الحرب، التي قوضت فيما قوضته من عروش، الخلافة العثمانية.. وهي الخلافة الاسلامية، التي لم تقم لها قائمة بعد تلك الحرب، وحتى اليوم لا بد ان يتردد المؤرخ الدقيق في الموافقة على ان المدينة المنورة لم تستسلم للقوات العربية، رغم سقوط الخلافة في استامبول، لأن الحقيقة هي ان الخلافة لم تسقط وإلى الأبد ـ الا في يوم تاريخي مايزال محفورا في ذاكرة الاتراك وقد لا ينسى قط... هو ذلك اليوم، الأول من شهر مارس عام 1924، الذي افتتح فيه مصطفى كمال الدورة الرابعة ـ (الجمعية الوطنية) في انقرة والقى خطابا، ان كان قد خلا من عبارات تندد، أو تحمل الخليفة (في استامبول) مسؤوليات تستوجب خلعه مع الغاء الخلافة من حياة الأتراك، فأنه قد فتح الباب أمام الخطوة الأخيرة في تنفيذ ما قد سبق الاتفاق عليه، بين قادة حزب الشعب الذين آلت اليهم السلطة وهم الأبطال الذين خاضوا وانتصروا، في معارك تحرير تركيا من احتلال جيوش الحلفاء وعلى رأسهم مصطفى كمال، وعصمت اينونو، وكاظم قرة بكير، كان خطاب مصطفى كمال قصيرا، ويمكن ان يقال أنه كان الفقرة الأولى من برنامج تم التخطيط له بدقة.. اذا ما كاد ينتهي الخطاب حتى طرح اعضاء حزب الشعب وهم الآن نواب في الجمعية الوطنية ثلاثة اقتراحات كان اهمها الغاء الخلافة.. وحرمان أعضاء الأسرة العثمانية من الأقامة في تركيا وتمت الموافقة على الاقتراحات وهي بهذه الخطورة (بهدوء ودون انفعال أو صيحات حماس مُتَشَنِّجة مألوفة في المواقف والظروف المماثلة.. وعلق بعض المؤرخين على حرمان أعضاء الاسرة من الأقامة في تركيا، بأن الذين طرحوا هذا الرأى ذكروا أو استشهدوا بأن الفرنسيين بعد مرور أكثر من قرن من الزمان على قيام الثورة الفرنسية مايزالون يرفضون السماح لأعضاء الأسرة التي انتقضوا على حكمها وأنهوا سلطانهم ان يقيموا في الأرض الفرنسية.
فاذا تذكرنا ان المدينة المنورة قد استسلمت بعد ان انسحب مصطفى كمال من موقعه مع بقايا الفليق السابع بالقرب من مدينة حلب بعد اشتباك رهيب مع القوات البريطانية إلى موقع في اتجاه الجنوب في 25 اكتوبر عام 1918م حيث استطاع ان يوقف تقدم القوات البريطانية وان يحتفظ (بقطنا) كموقع قيادة ظل يسيطر على منطقة (انطاكيا).. وكانت تلك آخر معركة خاضتها القوات التركية في الأراضي العربية.. اذا تذكرنا ذلك، فأننا نجد ان الخلافة العثمانية قد لفظت آخر انفاسها في اليوم الأول من شهر مارس عام 1924، وهو ذلك اليوم التاريخي الذي تمت فيه موافقة اعضاء الجمعية الوطنية في انقرة، على الغائها.. اي بعد ست سنوات تقريبا من اخر معركة خاضتها القوات التركية على آخر شريحة من الأراضي العربية وهي مدينة حلب.
ومع ان المؤرخين لا يقفون طويلا عند اصرار القوات التركية في المدينة المنورة على الصمود، بقيادة (فخري باشا)، والاستمرار في المقاومة، ورفض الاستسلام للقوات العربية التي ظلت تحاصر المدينة منذ بداية الانتفاض على الاتراك في مكة وحتى يوم العاشر من يناير عام 1919 (أي بعد الهدنة في عام 1918)... أو بعد ان بلغت الخلافة والسلطنة في استامبول مرحلة النزع الأخيرة، والكثيرون من أهل المدينة نفسها الذين هجَّرهم فخري إلى سوريا بالقطار والذين واجهوا في دمشق وحماه وحلب اشد اهوال الجوع والأوبئة التي حصدت أرواح المئات، في الأزقة والطرقات وارصفة الشوارع.. الكثيرون يفسرون اصرار فخري على عدم التسليم حتى بعد ان بلغته اخبار الهدنة وقرب سقوط الخلافة بأنه مجرد عناد وكبرياء واعتزاز بالنفس وقد يكون جانب من الواقع هو هذا التفسير، ولكن التفسير الذي ظل يفتح عيون قادة الثورة ومنهم مبعوث الحلف البريطاني (الكولونيل لورانس) وجعل المعارك لا تتوقف وعمليات تخريب سكة حديد الحجاز بغرض قطع خطوط الامداد لا تنقطع إلى آخر لحظة هو ان المدينة المنورة مدينة فيها مثوى رسول الله صلوات الله عليه، وفيها المسجد النبوي الشريف ثاني الحرمين الشريفين.. فالاحتفاظ بها يرسخ في اذهان العالم الاسلامي ان الخلافة قائمة تؤدي واجبها في الدفاع عن الحرمين، اللذين كان جميع الخلفاء العثمانيين (بعد سليم الاول) يتشرفون بحمل لقب (خادم الحرمين الشريفين).. يأتي في مقدمة سلسلة الالقاب التي يحملها السلطان أو الخليفة فهو (خادم الحرمين الشريفين، وخاقان البرين والبحرين السلطان بن السلطان الخ..) كان حساب قادة الثورة العربية، ان (فخري باشا) بما تحت يده من قوات فائقة التدريب يستطيع ان يحتفظ ليس بالمدينة فقط وانما قد يستطيع ان يزحف إلى مكة نفسها ايضا وان يحتفظ بها وفي ذلك قضاء على الثورة من جهة ودعوة جهيرة لشعوب العالم الاسلامي ان تنقض لنصرة الخلافة وللدفاع عن الحرمين امام العرب الذين تحالفوا مع الكفار والمشركين وهم الانجليز والفرنسيون وكانت الدعوة بهذه الشعارات قائمة في الواقع، اذ كان مسلمو الهند بالذات إلى جانب افغانستان والشعوب الاسلامية في جنوب شرقي اسيا، ومعهم المسلمون في روسيا يدينون بالولاء للخلافة العثمانية وقد يكون صحيحا ما كان يقال، عن ان من شروط صحة الصلاة وجود خليفة المسلمين.

فخري باشا: هو الذي خشى الجوع على أهل المدينة فقام بتهجيرهم وتسفيرهم الى سوريا على البابور.

* * *

وما اكثر القصص التي تصل إلى مستوى الأساطير عن بطولة فخري باشا وقواته في الدفاع عن المدينة المنورة وفي الصمود ليس في مواجهة القوات التي اصبحت في النهاية تطوق المدينة من جميع الجهات تقريبا وانما في مواجهة الجوع مع انعدام الاغذية بأنواعها واستحالة الحصول عليها بعد ان شلت حركة القطار بعمليات التخريب المتوالية والتي كم افتخر لورانس في كتابة (اعمدة الحكمة السبعة) بأنه الذي علم العرب كيف يستعملون الديناميت لتفجيره. لقد جاع اهل المدينة الذين هجرهم فخري إلى سوريا.. جاعوا بل ومات الكثيرون منهم جوعا... ولكن قوات فخري نفسها جاعت في النهاية ايضا.. ذلك الجوع الذي جعلهم يأكلون لحوم الخيل والبغال والحمير التي تنفق من الجوع... بل ويأكلون لحوم القطط والكلاب.. ولا استبعد صحة اخبار قالت أن بعض الجياع، قد أكلوا لحوم اطفالهم.
ورغم كل ذلك تظل قصة اصرار فخري على عدم التسليم واحدة من القصص التي لا يسع المنطق السليم أو العقل السليم، ان يصدق ان الرجل كان يتمتع بقواه العقلية اذ اصبح هو واركان حربه وكبار ضباطه، يعانون من ذلك الجوع الذي انقطع معه الأمل تماما في ان ينتهي بأي شكل من الأشكال.. ومع ان الأخبار كانت تتلاحق بأكثر من وسيلة عن سقوط المدن الكبرى ومنها القدس ودمشق وتراجع اوندحار القوات التركية والالمانية يوما بعد يوم، مما ينذر بطبيعته بأن المقاومة لم تعد معقوله أو مطلوبة وان الاحتفاظ بالمدينة المنورة وحدها، لم يعد يجدى شيئا بالنسبة لمركز أو هيبة الخلافة بعد ان سقطت مكة ثم جدة والطائف واخيرا رابغ ويبنع.. مع كل ذلك اضافة إلى عروض القوات العربية التي تحاصر المدينة بالموافقة على خروج الجنود والضباط من المدينة مخيَرين في ان يرحلوا إلى تركيا، أو إلى بلد آخر بمعنى ان لا يكونوا اسرى حرب... مع كل ذلك يرفض (الباشا) ان يسلم أو يستسلم.. وقد كان رجلا قوى الشكيمة طاغى الهيبة إلى حديرهب اركان حربه، اذا ما خطر لهم ان يناقشوه في الموافقة على العروض التي يتلاحق فيها الكثير من اسلوب الترضية والاعزاز والبعد عن التشفى أو الانتقام أو التعالى.. بل حتى اذا ما خطر لهم ان يعرضوا عليه ما وصلت اليه حالة الجنود ومعهم ضباط الصف.. من الجوع والهزال والمرض وعدد الذين اصبحوا يموتون جوعا في مراكز أو نقاط الرقابة على ابواب المدينة وعلى اسوارها وفي قلاعها...
واشتد الحصار، في الأيام الأخيرة، ولعله احس ان قواته، قد فقدت آخر قطرة من معنويات افرادها، بحيث لم يعد مستبعدا، ان تلقى اسلحتها، ثم تخرج لتستسلم للقوات العربية التي تحاصرها.. فاذا به يتخذ اعجب قرار يمكن ان يخطر ببال قائد يواجه مثل الظرف الذي اصبح يواجهه.
كان قد نقل مقر قيادته، إلى الحرم النبوي الشريف... ومعه اركان حربه وكبار ضباطه، ونقل إلى الحرم، شحنات من الاسلحة الخفيفة، والقنابل اليدوية والديناميت وكميات كبيرة من الذخيرة، التي تكفى للمقاومة، ليس اياما. وانما شهور بطولها. وكان في الحرم النبوي ـ على الحصوة، بئر ماء عذب، فلا خوف من الظمأ... اما الاكل أو الغذاء، فقد نقل إلى الحرم ايضا كميات كان يدخرها من الأغذية المعلبة والخبز المجفف، تكفى لتموينه مع ضباطه وحاشيته الخاصة من ضباط الصف شهورا طويلة ايضا. وقد تسلح هو نفسه بمجموعة علقها في خصره، وعلى صدره من القنابل اليدوية... وامر ضباطه ان يتسلحوا مثله بهذه الأسلحة... ثم اعلن... بعد ان اغلق جميع ابواب الحرم، وقد زرع الطريق إلى كل منها بالالغام.. انه لن يستسلم ابدا. وانه سيقاوم كل من تحدثه نفسه بالاقتراب من ابواب الحرم.. أو منه شخصيا، بهذه القنابل اليدوية ومعها اصابع الديناميت... وانذر ايضا انه قد طوق الحجرة النبوية نفسها بالمتفجرات ولن يتردد في تفجيرها، اذا ما وجد انه لا سبيل الا ذلك السبيل.
والذين يقصون القصة، لا يذكرون كم يوما، استمر اعتصام ((الباشا)) وضباطه على هذه الحالة، في الحرم النبوي الشريف... واكثر ما يدهشهم، هو شخصيته القوية الرهيبة إلى فرضت ارادتها ـ بكل ما فيها من اخطار ـ على اؤلئك الضباط الذين ظلوا تحت امره ورهن اشارته في الحرم لا يجرؤون على التقدم بأي اقتراح تشتم منه رائحة الرغبة في الخروج من الأزمة الصاعقة الماحقة التي فرضها القائد بكل هذه الاحتياطات.
ولكن اخيرا... في لحظاتٍ قبيل الفجر، وقد سرقه النوم، ربما دقائق قصيرة فقط، انقض عليه الكبار من أركان حربه... سمّروا يديه في قبضات ايديهم. بحيث يستحيل ان تصل إلى القنابل أو الديناميت في خاصرته وصدره... ودار ببصره في وجوههم.. فأدرك ان لا فائدة في اي مقاومة من اي نوع... فهؤلاء اركان حربه... ولعلَّه قال كلمة أو كلمتين تفيد ان لا حاجة بهم إلى العنف... ترك لهم تجريده من القنابل والمتفجرات... وامرهم ان يتصرفوا، في اجراءات التسليم، بشروطه التي الزمهم بان يتعهدوا بتنفيذها... ومن اهمها، ان لا يتقدم اي جندي عربي، نحو اسوار المدينة أو قلاعها، وان تظل القوات المنتشرة، على طول الطريق من المدينة إلى ((بئر درويش)) حيث يعسكر قوات الشريف عبدالله بن الشريف حسين... ان تظل في مواقعها، إلى ان يتم هو انطلاقه إلى موقع التسليم وهو ((بئر درويش)) مع اركان حربه وكبار ضباطه... وان لا يؤخذ احد منهم اسيرا، وانما يخيّرون في ان ينقلوا إلى تركيا، أو إلى جهة اخرى... ويسرى نفس الشرط بالنسبة لبقية القوات في المدينة... امّا المرضى في المستشفيات، فتلتزم القوات العربية، بتأمين علاجهم ورعايتهم، بمعرفة الاطباء العاملين اصلاً في هذه المستشفيات فاذا شفوا، فأن لهم ان يختاروا النقل إلى تركيا أو إلى اي بلد آخر دون ارغام.
ولكن شرطا آخر، كان صريحا في فرضه وطلبه الألتزام بتنفيذه وعدم اللجوء إلى محاولة نقضه، وهو انه قد جرد الحجرة النبوية في الحرم الشريف، من جميع الهدايا التي وجدها فيها، وانه قد عبأها في صناديق، اشترط ان لا يفتحها احد من القوات العربية، وان تظل تحت حيازته شخصيا، اينما يذهب، والتزم من جانبه ان يسلمها دون ان ينقص منها شيء قل أو كثر، إلى المختصين في دار الخلافة ((استامبول)).. قالوا.. وقد دوّن، جميع هذه الهدايا في بيان دقيق ذيّله بتوقيعه بالأستلام والمسؤولية، ومن صورتين احتفظ باحداهما ودفع الاخرى إلى الشريف عبدالله عند التسليم.
وكان من هذه الهدايا جواهر نادرة، وماتزال نادرة حتى اليوم، منها ما كان يسمّى ((الكوكب الدرّى))... وهو قطعة كبيرة من الماس، قيل انها اكبر من جوهرة ((الكوهينور)) الشهيرة في التاج البريطاني.. وقد رأيتها شخصيا في متحف ((توب كابّي)) في استامبول. مما يؤكد ان الباشا العتيد العنيد، قد سلم كل قطعة من هذه الجواهر، إلى الجهة المختصة في دار الخلافة كما التزم وتعهّد.
وللذكرى، لا بد ان نقول، ان فخري باشا، قد استسلم بالطريقة التي ذكرناها، في اليوم العاشر من شهر يناير عام 1919.... وقد استقبله الشريف عبدالله بن الشريف حسين في بئر درويش، استقبالا رسميا، حرص على ان يرضى به كرامة الرجل وكبرياءه بالحفاوة البالغة والموافقة على كل شرط من شروطه دون اي نقاش.
وليست لدي معلومات، عن الجهة التي نقل اليها فخري باشا ومعه اركان حربه وكبار ضباطه... ولا كيف تم انتقاله بحيث وصل دار الخلافة، وسلّم ما التزم بتسليمه من المجوهرات... ولعلّه حين وجد قوات الحلفاء تحتل استامبول، وازمير، وان الحرب قد وضعت اوزارها، بالنسبة للقوات المنتصرة، ولكنها ماتزال تنتظر فصل الختام بالنسبة لتركيا، وقد خرجت منها مثخنة بأبشع واعمق الجراح، واصبحت تواجه مسؤليتها نحو الخلاص من عار الهزيمة، بطرد حيوش الاحتلال، واستعادة السيادة والأستقلال... ولعله لم يتردد في التطوع، والأنضمام إلى حركة الأستقلال، بقيادة مصطفى كمال، ومعه عصمت، وكاظم قره بكير بتلك البقية الباقية من القوات الهزيلة ومن السلاح ((الخردة)) تزحف من الأناضول.. من انقرة إلى استامبول.
اما الخلافة، التي كافح وناضل، ليرسّخ وجودها وهيبتها، بوجوده مع قواته في المدينة المنورة، وهي ثاني ((الحرمين الشريفين)) اللذين يتشرف الخليفة بأنّه خادمهما، فلا شك، انه قد ادرك، انها قد انتهت.. فاذا تأخرت خطوة الغائها إلى اليوم الأول من شهر مارس عام 924، اي ما يقرب من خمس سنوات ـ فأن ذلك لم يكن ليخدعه وامثاله، عن حقيقة ان ((الرجل المريض)) يلفظ انفاسه.. ولا بد ان يمّحى من الوجود.
طباعة

تعليق

 القراءات :1598  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.