شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيهما أكثر امتاعا للقارئ
ولو طلب إليَّ، أن أجيب على هذا السؤال، فعليّ أن لا أتردد في أن أقرر أن الأكثر امتاعا، وتشويقا، والأوسع آفاقا وأحداثا، هو هذه اللمحات، بل حتى التفاصيل الكثيرة،. التي ترقد تحت نسيج العنكبوت، في أروقة النسيان، أو في بطون ما لا يعد ويحصى من الكتب، والتقارير، ومعها ألوف الصحف اليومية، التي كانت لا تكاد تخرج من أبواب المطابع إلى أجهزة التوزيع حتى تتطاحن عليها أيدي القراء، ينتظرونها، وفي نفوسهم، أو في قلوبهم، ما يشبه الحرائق من المخاوف، والتوقعات.. من اليأس الساحق الماحق، وقد بصت إلى جانبه نبتة أمل فيها العزاء، والرجاء.. العزاء فيمن طحنته الحرب، فلن يعود، والرجاء، فيمن يمكن أن يكون مايزال في الخندق، أخطأته القنبلة، أو الرصاص..
* * *
قصة الحرب العالمية الأولى؟؟ من الذي تطاوعه مشاعره، لقراءتها ومعايشة أهوالها؟؟ ثم.. ما أكثر الذين يعرفونها.. فهي من نوع القراءات التي يكتفي القارئ بأن يلقي على بعض سطورها نظرة ثم يسرع إلى تقليب الصفحات، التماسا للأفضل، والأكثر جدة وطرافة وإمتاعا.
وهنا، أفضل، أن أقف، وأستوقف، وليس لأبكي من ذكرى حبيب ومنزل، وإنما لأعترف بأني مبتلى أو مصاب، بما يمكن أن يوصف بأنه (عقدة) أو (مرض نفساني).. إذ أكاد لا أفضل من القصص، إلا قصص ومغامرات الحروب الكبرى، وفي أيام الشباب والقدرة على الحركة والتجوال، في القاهرة، أو بيروت، كنت أتصيد دور السينما التي تعرض فيلما عن الحروب وبعد أن اقتحم جهاز (الفيديو) منازلنا، فأني (أخطط) للإستقلال بجهاز خاص بي ، يتيح لي أن أشاهد به أو عليه ، أفلام الحروب الكبرى ، وما أكثرها، وما أروع براعة الاخراج فيها، ويندر أن يتصدى لمسؤولية اخراجها، إلا أولئك العباقرة الكبار، الذين لا يقدمون على العمل، إلا بعد دراسات موسعة متعمقة، تصل إلى حد المعايشة.. ولذلك أرجو أن لا يضحك القارئ علي، حين يجدني أعنى بقصة حياة الملايين من الذين أطبقت عليهم القبور، كما كانت تطبق عليهم الخنادق والنيران.. ولكل منهم، قصة، بدأت يوم سيق إلى الميدان، وتوالت فصولها، وهو يهجم أو يندحر، وانتهت، في اللحظة التي صرعته رصاصة أو شظية قنبلة وفي عينيه وجه الحبيبة التي تنتظر أن تراه.. أو الأم التي لم ينس دموعها على وجهه وكتفيه ساعة الرحيل.
ثم ان جيل ما بعد الحرب العالمية (الثانية).. قد لا يعرف اي شىء عن هذه الثانية فضلا عن الأولى. والذين يحملون المؤهلات الجامعية في التاريخ منهم، يستطيعون ـ دون شك ـ ان يتذكروا معلوماتهم الاكاديمية القيمة عن مسيرة التاريخ في حياة البشر، وعن قيام الدول وسقوطها وعن الحضارات التي ازدهرت، ثم تراجعت أو حتى توارت وطواها النسيان.. ولكن التفاصيل في كل ما قدمتْه لهم دراساتهم لم تكن ـ وقد لا ينبغي ان تكون ـ مما عنيت به هذه الدراسات.. لانها تترك ـ على الارجح ـ لمراحل التخصص أو الاختيار الدارس، حيث يجدها في مؤلفات موسعة بأقلام متخصصين من العلماء، أو بأقلام كبار القادة من أمثال تشرشل ومونتجومرى ويجول.
أما عن الذي يستفيده القراء من قصة حياتي مع الجوع والحب والحرب، أو من هذه اللمحات عن أسباب وبواعث الحرب، التي كنت في طفولتي الأولى من الذين عاشوا لفحة من حريقها، فهو اكتشاف مجموعة من الحقائق، أو الأحداث التي تمخضت بطبيعة مسارها عن نتائج، كونت متغيرات خطيرة، بل بالغة الخطورة، ليس في بلادنا فقط، وانما في جميع بلدان ودول العالم العربي. ولعمري.. ماذا أخطر وأبعد أثرا من أن تمّحى من الوجود امبراطورية، كانت تسمى (الخلافة العثمانية)، تحكم من الآستانة على ضفاف البوسفور والدردنيل شعوبا تنتشر على مساحات من الأرض، من حدود النمسا، إلى مشارف المحيط الاطلنطي، ومن هذه الأرض بامتدادها وتراميها شرقا وغربا.. وشمالا وجنوبا اراضي (الحجاز)، أو هي اراضي الحرمين الشريفين... مكة المكرمة والمدينة المنورة.. تمحّي من الوجود، في تلك الحرب العالمية، لتظهر على نفس المساحة دول ما أكثرها عددا ومنها الدولة التي ظهرت في الحجاز.

* صورة رجال (الاتحاد والترقي) الذين أصرّوا على الدخول في الحرب العالمية الأولى الى جانب الألمان

* * *

في الفقرة الأخيرة من الفصل السابق، ذكرت حزب (تركيا الفتاة)، الذي فجر ثورة عام 1908، وهي الثورة التي اسقطت السلطان عبد الحميد عن عرش الخلافة لتجلس عليه في عام 1909، السلطان محمد رشاد.. وتعيد إلى الحياة الدستور الذي عطله عبد الحميد وكان قد وضعه وقاد حركة اقراره في الادارة التركية، ذلك الرجل الذي يسمونه (ابو الدستور) والمصلح السياسي الفريد في حياة الخلافة العثمانية، (مدحت باشا).. ومن المفارقات التي تتفجر رهبة وارهابا، ان مدحت هذا، بلغ مرتبة (الصدر الأعظم) وهو المنصب الأعظم بعد السلطان أو الخليفة فعلا.. ومع ذلك فقد استطاع عبد الحميد ان ينفيه إلى (الطائف) في الحجاز حيث سجن في القلعة، ثم قتل (خنقا) في سجنه.
وكان مما قلته في نهاية هذا الفصل عن الذين قادوا ثورة 1908 هذه، انهم قد خيبوا كل الظنون، في الثورة وأهدافها، رغم ما حققته من انجازات أعظمها، اسقاط عبد الحميد وذلك لأن ما تمخضت عنه هذه الثورة، في نهاية المطاف، هو نهاية الحكم والخلافة العثمانية بكل امجادها وشموخ تاريخها.
والقصة تطول، وقد يمكن أن تختصر، في تصرفات ثلاثة رجال، هم قادة الثورة على السلطان عبد الحميد وهم الذين اسقطوه، واجلسوا على عرشه السلطان محمد رشاد.. ثلاثة هم الذين عرفوا، بقادة أو زعماء (حزب الاتحاد والترقي).. الذي رفع شعارات أو شعارا يسمعه العالم الاسلامي في تلك الايام لأول مرة وهو (الحرية والعدالة والمساواة)... ولعلى أذكر أن الأطفال في حلب قبيل سقوطها في يد العرب كانوا يرددون. نشيدا من كلماته (بالتركية) ـ : (حريت.. عدالت.. مساواة).
هؤلاء الثلاثة هم (انور وطلعت وجمال).. وكل منهم يحمل أو منحه السلطان لقب (باشا) ولعلها تعني رتبة اللواء أو الفريق في الجيش لأنهم كانوا عسكريين قبل كل شىء.
يقول المؤرخون، ومنهم اتراك، وانجليز في مقدمتهم، مؤلف آخر كتاب عن (اتاتورك) هو (لورد كينروس) الذي صدر في عام 964.. يقولون الكثير عن انحراف هؤلاء الثلاثة عن الأهداف التي أعلنتها ثورتهم، وعن المظالم والأخطاء التي انغمسوا في اقترافها وربما اقلها مظالمهم في سوريا ولبنان والمذابح، التي مارسوها واصدار الأحكام بها وتنفيذها شنقا، يعلن على رؤوس الاشهاد بتهم خيانة الدولة (العلية العثمانية)، وهي تهم كانوا يشهرون وثائق ومستندات اثباتها إلى جانب اعترافات تثبت عليهم ما اتهموا به فعلا، ولكن القضية كانت بعد ذلك أو قبله، مفهوم الخيانة من وجهة نظر الاتهام ومفهومها من وجهة نظر المتهمين بها.. اذ كان المتهمون والمحكوم عليهم بالاعدام يقومون بالاتصال وربما التآمر أو التخطيط للتآمر، مع أعداء الدولة، وهم ـ في تلك الأيام ـ الفرنسيون والانجليز.. هدف المتآمرين هو التخلص من الحكم العثماني، بمساعدة الدولتين الاستعماريتين، اللتين تخوضان غمار الحرب في مواجهة المانيا، بكل عنفوان قوتها العسكرية ومعها الدولة (العلية) التي ظلت توصف منذ أيام عبد الحميد بـ (الرجل المريض) الذي اتفق الحلفاء سرا وعلنا على ضرورة الاجهاز عليه لاقتسام تركته الكبيرة ومنها العراق، وسوريا ولبنان، وفلسطين، والحجاز، واليمن، وليبيا إلى جانب ولاياته في البلقان.

* هذه الصورة من الحرب العالمية الأولى وهي للجيش التركي، الذي دخل الحرب الى جانب الألمان

* * *

وكان التناقض البشع الذي تورط فيه قادة الاتحاد والترقي، هو شعارات (الطورانية) بالغة التطرف إلى حد فرض اللغة التركية على جميع القوميات التي تتكون منها الامبراطورية العثمانية، وهذا في الوقت الذي ارتفعت فيه نداءات (اللامركزية) التي تعني شيئا يشبه (الحكم الذاتي).. كان التناقض بهذه الصورة، هو الدليل. ليس على ان مرض الرجل المريض قد تزايد فقط وانما على انه قد دخل مرحلة النزع.
وهؤلاء الثلاثة هم الذين تورطوا ايضا في التحالف مع ألمانيا، ودخلوا الحرب إلى جانبها، في مواجهة الحلفاء، رغم ان الكثيرين من قادة وزعماء الامبراطورية من الأتراك، والعرب، وغيرهم، بل ومنهم الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) نفسه ظلوا يرفضون أو يقاومون هذا الاتجاه، ولكن دون جدوى، اذ تغلب الثلاثة في النهاية، ودخلت تركيا الحرب الضروس، التي انتهت بهزيمة المانيا وانهيار الامبراطورية العثمانية إلى الأبد.
وهنا، لا بد أن نقف عند المفهومين المتضادين لما يسمى (الخيانة) حين نجد الشريف حسين بن علي في الحجاز وكانوا يسمونه (شريف مكة) يهاجم الثكنة العسكرية في مكة (في يوم السبت التاسع من شهر شعبان عام 1334) ويبدأ هو هذا الهجوم بأن يطلق من بندقيته رصاصة من قصره في (الغزة) كانت هي الاشارة المتفق عليها بينه وبين رجاله لبدء الهجوم أو اعلان الثورة على الدولة العثمانية.
من وجهة نظر الاتراك ـ وحتى اليوم ـ كان شريف مكة خائنا، ولو انتصروا في تلك الحرب لكان من الطبيعى أن يكون مصيره هو نفسه مصير الذين اتهموا بالخيانة وحكم عليهم بالاعدام الذي ينفذ شنقا وعلى رؤوس الاشهاد.
ولكن من وجهة نظر العالم العربي، في تلك الفترة، كانت ثورة على الظلم الذي قال الشريف حسين في نداء وجهه إلى (العرب): (ان الاتحاديين قد مارسوه عليه وهذا إلى جانب خروجهم على أحكام الدين، واصرارهم على (قتل) اللغة العربية، وافقار البلاد، ودخولهم هذه الحرب، وليس لهم فيها مصلحة أو فائدة... واعلانهم الأحكام العرفية و (شنقهم) أحرار البلاد، لا لسبب إلا لمطالبتهم بالحكم اللامركزى (الاستقلال الذاتي) في بلادهم وترويعهم للناس، ونفيهم للابرياء وسلبهم للأموال، وغير ذلك مما حمله على الثورة عليهم وقتالهم انتصارا للحق ودفاعاً عن حقوق العرب).
ولا نحتاج، اليوم، أن نعيد إلى الأذهان، قصة اتصال الأنجليز بالشريف حسين بعد أن اكتشفوا الخلاف القائم بينه وبين الاتحاديين، ولا قصة الوعود الضخمة التي التزموا بها لضمان انحيازه اليهم، وانتفاضه على الاتراك... ولكن قد ينبغي ان نلقى نظرة خاطفة على ما يمكن ان يوصف بأنه حلم، اذا كان لم يتحقق، فلأنه لم يزد عن كونه حلما طموحا لم ير الانجليز ما يمنع أن يصغوا اليه، وأن يقول مكماهون، انه قد فهمه وبعث به إلى الحكومة الانجليزية في لندن.
كان الشريف حسين في هذا الحلم الذي بعث به إلى مكماهون يقول: (يطلب من الحكومة البريطانية ان توافق على مقترحاته، وهي أن تعترف باستقلال البلاد العربية من (مرسين) (ادنه) حتى الخليج العربي شمالا ومن بلاد فارس حتى خليج البصرة شرقا ومن المحيط الهندي للجزيرة جنوبا باستثناء منطقة (عدن) التي تبقى كما هي، ومن البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط حتى سيناء غربا.. وان (توافق) انجلترا ـ أيضا على اعلان خليفة عربي للمسلمين).
اما الدوامة التي دخلت فيها الأمة العربية، منذ وضعت الحرب اوزارها، وحتى اليوم، فأننا نعيش دوارها وغثيانها، ومازلنا، نعجز عن الحكم العادل الذي يحسم القضية بين المفهومين المتضادين.. وأعنى مفهوم الخيانة والولاء، كما لا نستطيع ان ننسى أو نغفل عن أن الأتراك أمة من الأمم الاسلامية، فليس من السهل أن يحكم مسلم بجواز الاعتداء عليها إلى جانب غير المسلمين.. إلى جانب انجلترا وفرنسا وهما قد كانتا وماتزالان من أشد أعداء الاسلام حقدا على المسلمين.
طباعة

تعليق

 القراءات :867  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .