شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
روسو يغشى قحف جمجمتي
وأنا أتأهب لكتابة هذه الحلقات من قصة حياتي
بعد تلك اللمحات القصيرة عن الحرب العالمية الأولى، التي شهدت فجر حياتي، مع بريق مدافعها وقصف قنابلها، آن لي أن أعطى القارىء حقه من القصة، في محاولة للأبتعاد عن التاريخ الذي أرجّح أنه يستطيع الرجوع إليه، عن هذه الحرب، وعن الكثير من الحروب في حياة البشر ابتداء من أيام اقتتاله على قنيصة سارحة يسد بها جوعه وحاجته إلى الغذاء، وانتهاء عند هذه المجازر البشرية، التي ماتزال تمارس في كثير من أقطار الأرض، ومنها هذه الدائرة منذ ما يقترب من نهاية السنة السادسة، بين ايران والعراق، وما يقترب من نهاية السنة الحادية عشرة في لبنان، ولا حاجة إلى ذكر المجازر التي ماتزال اسرائيل ترتكبها في الساحة العربية منذ أربعين عاما وحتى اليوم.
ولا أخفى على القارىء، أني حين أخذت اتهيّأ لمتابعة قصة حياتي مع الجوع والحب والحرب وجدت نفسي أعود إلى نفس الأسئلة التي طرحتها في المقدمة، أو في الرسالة الموجّهة إلى ابني ضياء، وكأنيّ اغوص في دوامة تيار من الاقتناع، ليس فقط بعدم جدوى متابعة هذه القصة بالذات، وإنما، بعدم جدوى، أو بتفاهة الكتابة من حيث هي عمل زعمنا انه ((فنّي)) أو أنه ((فن... وأقول زعمنا... لأنّي أعرف لسعة ذلك الحريق الذي يحسّه الكاتب، أو الشاعر، أو حتى الرسام والموسيقار، حين تمتد وتنتشر السنة اللهب في وجدانه من جذوة العمل أو الموضوع... وأمام القارىء، أني أحسست، كأني قد بلغت مرحلة التجلّد أو الجمود، بحيث لم أستطع أن أكتب كلمة واحدة طوال أسابيع... وطافت بذهني خلال هذه الفترة، طوائف من مواقف مماثلة، وقفها قبلي، ويمكن أن يقفها بعدي، قوافل من الكتاب والشعراء والفنّانين، من قضية جدوى الفن أو العمل الفني، أو عدم جدواه... ثم بخصوصية أدق، جدوى العكوف على عمل فني بعينه بالنسبة للكاتب، والقارىء. ولست أدري، ما الذي أخرج ((جان جاك روسّو)) من مرقده في باريس ليغشى قحف جمجمتي لحظات طويلة من فترة هذا الحوار، ومعه تلك الشحنة الضخمة من أعماله التي انعقد اجماع النقاد على أنّه بذربها بذور المّذاهب الاشتراكية الحديثة، كما استطاع بآرائه في ((اميل)) أن يقنّن أصولا للتربية قالوا أنها أفضل وأعظم ما جادت به عبقرية كاتب حتى اليوم... ولكن أغرب ما ظل يلح به عليَّ روسّو هو اعترافاته، أو هي قصة حياته التي كتبها في اثني عشر فصلا، وكانت السبب في طرده من سويسرا وأن تحرق مع مجموعة رسائله وما طبع من أعماله علنا.. هذه الاعترافات، هي على الأرجح أعظم الأعمال التي يمكن أن توصف بأنها ((فن)) من أعماله... فيها الكثير من المآسي والأحزان التي عاشها، ولكن فيها أيضا الأكثر من الجرأة والتمرد على الأعراف والتقاليد، إلى الحد الذي مايزال يعتبر خادشا للحياء، ومهينا لكرامة الرجل ومدمّرا لشخصيته، وما يدخلها رواق الفن ويؤهلها للمكانة المرموقة بين روائع التراث الأوروبي، في القرن السابع عشر، وما بعده إلى نهايات القرن التاسع عشر هو الصدق الذي يتجاوز الحدود والقيود، فيفضي بما يراه، أو بما عاناه من تجارب سعادة أو شقاء، وتكريم أو هوان، في علاقاته بذوي قرباه، اباً عايشه فترة من العمر، واماً توفيت وهو مايزال يدرج إلى سني الطفولة الأولى، وفي علاقاته بمن طوّحت به الأحداث إلى رحابهم أو إلى أحضانهن، ومنهن تلك التي أحبهّا وعاشرها أكثر من ربع قرن، واستولدها خمسة اولاد رفض أن يعترف بأبوته لهم، ولم يجد ما يمنع أن يقذف بهم إلى ملجأ اللقطاء، ويصدر هذا كله بكل ما ينطوي عليه من بشاعة ونكر، من الإنسان الذي ألف ((اميل))، وهو الكاتب الذي يصفه علماء التربية في القمة من الفكر التربوي منذ ظهر، وحتى اليوم.
لست ادري، ما الذي جعل روسّو، يغشى قحف جمجمتي، وأنا اتأهّب لكتابة هذه الفصول من قصة حياتي... اتراني أحسست، أن بين اعترافات روسّو وبين قصتي وجوه شبه من نوع ما؟؟؟؟ ولكن كيف؟؟؟ أن روسّو ((يعترف))... وأنا ((أقص)).... ولا بد أن نلتمس الفرق بين سرد ما يسمّى اليوم سيرة ذاتية، وبين سرد ((اعترافات)) في تضاعيف قصة حياة.. ونحن نعلم أن كلمة ((اعتراف لها علاقة وشيخة، بأحداث، ربمّا يعاقب عليها القانون، أو يستنكرها المجتمع، أو يندر أن يزاح عنها الستار الكثيف الذي لابد أن يسدل، ليس فقط على فصول دراما الحب مثلا، وإنما قبل ذلك وبعده على الأسماء، حتى وإن كان أصحابها قد آوو إلى مراقدهم تحت اطباق الثرى منذ سنين. ثم هناك فرق آخر يعطي الكلمة معنى خاصا في الديانة المسيحية، إذ على ((المعترف أن يقر بخطاياه وذنوبه لدى الكاهن مع الندم وطلب المغفرة، التي لا يملكها الكاهن، ولكنه يتوسّط في التماسها من الله. ومن هنا نكتشف أن جان جاك روسّو سمّى قصة حياته ((اعترافات))، لأنه يعترف في الواقع بذنوب، فيها تلك الجرأة، وذلك التمرد على الأعراف والتقاليد، وربما على القوانين أيضا، مع خدشها للحياء، وإهانتها لكرامة الرجل.. وليس من شك اطلاقا، في أنه لم يعترف طلبا لمغفرة أو طمعا في توبة وانما ليقول للقارىء ما وجد أنه لابد أن يقال، وبصدق مطلق، ومن هنا ـ مرة أخرى ـ يبدو أنها أعظم أعماله التي يمكن أن توصف بأنها ((فن)).
والسؤال الذي ابيح للقارىء أن يطرحه عليّ، هو: هل أستطيع حين اكتب، قصة حياتي مع الجوع والحب والحرب، أن التزم هذا النوع من الصدق، أو هذا الحد منه؟ صحيح أن حياتي خالية والحمد لله من امثال هذه الأحداث الفاجعة، التي لم ير روسّو ما يمنع أن يعترف بها، رغم ما فيها من بشاعة ونكر، مثل انكار أبوته لخمسة أولاد، وقذفهم إلى ملجأ اللقطاء بل، وبتلك التصرفات القذرة، الخادشة للحياء من جهة، والماسّة بكرامة الانسان وكبرياء الرجل، من جهة أخرى، ولكن، صحيح أيضا، أن في حياتي احداثا، إن لم تكن قد وقعت لي شخصيا، فإنها مما كان يقع في الحياة من حولي... مما كان يقع في مجتمع انا جزء منه وفي بيئة أنا في النهاية ابنها... احداثا من نوع ماازال أرى أنه نادرا ما يشار إليه حتى مجرد اشارة، فيما تجري به اقلام المعنيين بالماضي من الكتّاب. فهل التزم الصدق في روايتها؟؟ وأي حد من الصدق؟؟ لست مورخا على كل حال، فلست مطالبا بتحري الدقة وتوخي الحقيقة، ولكن لا يصح مع ذلك أن اعفى نفسي، من تتبع أثرها، إن لم يكن في حياتي، ففي حياة من حولي بيئة ومجتمعا.
كلا... ليس هناك أي وجه شبه بين قصة حياة جان جاك روسّو في اعترافاته، وبين قصة حياتي مع الجوع والحب والحرب، الاّ في أن العملين، يتفقان في أنهما قصة حياة، مخلوق يجمع الناس والمؤرخون، على أنه واحد من عباقرة الدنيا، إن لم يكن لشيء فلأن الكثير من آرائه وأفكاره أثمر ثماره في الثورة الفرنسية، التي انفجرت بعد رحيله بثلاثين عاما، ومخلوق هو كاتب هذه السطور، أو هذه القصة، وهو ليس أكثر من واحد من عشرات أو مئات كان موقعهم من الحياة والمجتمع الذي يعيشون فيه، هو موقع كرة القدم، بين أقدام اللاعبين.. وكرة القدم تظل الشئ القادر على استقبال الفعل، والاستجابة له ان لم يكن بإصابة الهدف، فبرد الفعل، بين الأقدام ثم هي لا شئ بعد ذلك سوى انها كرة لا يتحقق لها وجود، الا في الملعب مع المتبارين.
وناشر هذه الفصول الصديق الدكتور عبد الله منّاع يحاول أن يريحني من مسؤولية اتخاذ القرار، بما يزعمه لي، من استقبال القراء الحميم، فيحسم قضية جدوى متابعة كتابة الفصول الباقية من القصة، ثم له اسلوبه في معالجة قضية الصدق، في عرض الأحداث، اذ يوحى بلباقة لا تخلو من مكر، بأن جان جاك روسّو، حين اقتحم قحف جمجمتي، انما فعل ذلك ليكايدني وليقول ((اتحّداك، ان تحاول اللحاق بغبارى، في الحد الذي بلغته من الصدق في قصة حياتي..)) ويعترف الدكتور منّاع على ذلك، بأن روسو عاش ظروف واجواء لحياة في اوروبا قبل ثلاثة قرون فقط صورة من تلك الظروف والأجواء في ذلك العصر وقد كتبها بروح الحاقد المحتقن، فكان اسرافه فيما تسميه صدقا، تنفيسا عن ذلك الحقد... امّا انت، فقبل كل شئ، لست اليوم، ولم تكن قط في حياتك حاقدا.. وما سوف ترويه، حين تتجرد من الحقد، سوف يتميز بصدق النفس الراضية لم تصارع صراعا في مشوار الحياة بانفعال الحاقد الغضوب، وانما بانفعال المتطلع إلى الافضل لنفسه ولمجتمعه وبيئته.. ومن هذا المنطلق لك ان توقن ان جدوى كتابة القصة ستظل قائمة واستقبال القراء، الذي كان ومايزال حميما، خير مقياس وافضل دليل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :752  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 25 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.