شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خروج أمي تحت القصف لتأتي بالطعام
بعد أن سقط جدي من الاعياء
بعد تلك الليلة التي كان القصف والانفجارات فيها تكاد لا تنقطع أو تتوقف ساعة إلاّ لتعود، مرَّت أيام أو لعلها أسابيع، لم نسمع فيها أصوات انفجارات من أي نوع... وكان تعليل جدي، أن عساكر السلطان قد انتصروا على الانجليز، ولعلّه كان متفائلا، وهو يبشر أمّي أنهم سوف يستردون الشام، ويزيد على ذلك أنّه سمع، أن (فخري باشا) قائد الجيش التركي في المدينة، وهو الذي هجّر أهلها إلى الشام... مايزال يدافع عنها وهو أيضا سوف ينتصر على الانجليز، ويخرجهم من أراضي الحجاز كلّها... ثم يبتسم ابتسامة عريضة وهو يقول:
:ـ. نرجع إلى المدينة قريبا.. ان شاء الله.
وتغيم ذكرى الأحداث الصغيرة بعد ذلك في ذهني، وان كان فيها ما يمكن أن أستعيده اليوم فهو الجوع، لأن الأسواق قد خلت تماما من المواد الغذائية، ولأن عمل جدّي في حفر الأختام، قد توقف، نتيجة لأنقطاع الجراية التي كانت توزّعها السلطة على المهجّرين، ليس من المدينة المنورة وحدها ـ كما فهمت فيما بعد ـ وانما أيضا من البلدان التي كان ينسحب منها الجيش التركي، ويبدو أنهم كانوا ينظرون إلى من يلحق بهم أو يعلن رغبته في اللحاق بهم من أهالي تلك البلدان ـ، نظرة مسؤول عن رعايتهم باعتبارهم متمسّكين بانتمائهم إلى الدولة... ولست أدري كيف كان ذلك الشيخ المسكين، يجيئنا بالرغيفين، أو الثلاثة أرغفة من الخبز، ومعها الخس، والخيار، وأحيانا الطماطم، وفي النادر جدا، قطعة الجبن... حتى أمّي، في حكاياتها عنه بعدة أن كبرت، لم تستطع أن تجزم، بتعليل أو تفسير معقول، ولكنّها كانت تستبعد تماما أنه اضطر للعمل أجيرا كحمّال، أو عامل، في الأعمال الشاقة الكثيرة التي كانت السلطة أو الجيش التركي، يقوم بها في المدينة... كانت تقول:
:ـ. لو عرض نفسه للعمل، في مثل هذه الأعمال، فأنهم يرفضونه، وقد يتبرعون له بما يغنيه عن العمل في ذلك اليوم، لأنه كبير في السن، وعمامته تدل على أنه من المشايخ والعلماء.
ثم تستغرق في التفكير، وتلتزم الصمت فترة ثم تقول:
:ـ. لا أدري في الحقيقة، كيف؟، ومن أين له المال الذي كان يشتري به حاجتنا من الأكل ولكن رحمة الله عليه، كان يحسب حساب المستقبل المجهول، فلا أستبعد أنه كان يدّخر من دخل حفر الأختام ما ساعده على تأمين حاجتنا... ثم... لتافت باجي... أذكر أنّه لم يتركها إلى أن ركبت القطار... يمكن اقترض منها؟؟؟ لكن... لا. لا.. كانت نفسه عزيزة... ماهو معقول.. يقترض منّها وهوه عارف أنّو يمكن ما عاد يشوفها...
* * *
كان انقطاع أو توقُّف الانفجارات والقصف وزخّات رصاص الرشاش، وذلك الهدوء الذي ساد المدينة، أو المنطقة التي يقع فيها منزلنا، حالة وقتيّة، يظهر أن مسيرة الحرب بين الجانبين استلزمْتها، إذ لن أنسى، تلك الليلة التي استيقظت فيها مرتعبا وأصوات الانفجارات تصم الآذان، وتزلزل المنزل، وإلى جانبي، الاثنان اللذان بقيا لي،... جدّي وأمّي... لم أرهما وأنا أفتح عيني وأجلس، فقد كان الظلام حالكا.. ولكني أحسست بهما، وجدّي يتلو أدعيته، وأمّي تقرأ (لا إله إلا هو الحي القيوم).. ولكن بصوت عرفت أنّه يتقطّع لأن أسنانها تصطك من الرعب. ظلّت الانفجارات، بأصوات، تتنوع، مع أنواع المدافع التي تنطلق منها القذائف، ومنها زخات رصاص الرشاشات، لا تنقطع، وظللنا نحن في مكاننا لا نتحرك، إلى أن أخذت أضواء الفجر تتلامح، وتتسللّ من تلك النافذة العالية في غرفة جدي... ومع الفجر، أخذت أصوات الانفجارات تبتعد أو تتلاشى... ومع النعاس في عيني، رأيت أمّي تنهض وتخرج من الغرفة لتعود بعد قليل بكِسرَ من الخبز الأسّود وقد نشف، فلا يؤكل الاّ بأن ينقع في الماء.. ولا شيء معه... وكان ذلك هو كل ما أكلناه في ذلك الصباح.
تهّيأ جدي للخروج، وظل يرفض توسّلات أمي إليه بأن يظل معنا... كان حريصا دون شك على أن يجيئنا بما نأكل في ذلك اليوم... وقد خرج من الغرفة، وهو يؤكد أنه لن يتأخر حين رأيت أمّي تخرج بعده، وجدت نفسي أنهض أنا أيضا واتبعهما... واستلم هو السلّم في طريقه إلى الفناء الصغير ثم إلى الباب... ولكن... رأيته يضطرب في خطواته.. كاد يسقط أو يتدحرج.. لحقت به أمّي واعانته على الوقوف... كان واضحا أنّه مرهق، وأصبحت قواه تخذله فيتعثر في مشيته... ومع ذلك بدا كأنّه يصر على الخروج... ولكن أمّي، والدموع تنهمر من عينيها وقفت في وجهه، وهي تقول:
:ـ. يا بويا، ما نبغا منكم شيء اليوم... خلّيكم في البيت...
ولم يقاوم رغبتها... كان يشعر أنّه لن يقوى على المشي... فتخلصّ من ذراعيها وجلس على الدرجة الأخيرة من السلم.. يستريح أو يستجمع قواه... واستطاعت أمّي أخيرا أن تقنعه بأن يعود إلى غرفته، وستقوم هي، بشراء ما نحتاج إليه من السوق... وقالت وهي تسنده في صعوده على السلالم ومنها إلى غرفته:
:ـ. أروح مع بنت الجيران... هيّه تعرف من فين نشتري العيش، أخرج من جيبه الداخلي في صدره كيس النقود، وأسرع يواريه عن عينيها وهو يفتحه ويخرج منه قطعة واحدة كبيرة، ـ تعلمت فيما بعد أنها المجيدي ـ وعددا من القطع حمراء اللون، هي أجزاء هذا المجيدي... ومدّ بها يده وهو يقول:
:ـ. خدي معك عزيز
ثم رفع رأسه، ونظر إليها، وعاد يقول:
:ـ. ولكنّه ضعيف... المشي يتعبه.. اتركيه واذهبي مع بنت الجيران.
من جانبي أنا... ضايقني أن لا أخرج معها... إذ منذ مرضي بأيامه ولياليه الطويلة لم أخرج من المنزل إلاّ تلك المرة التي ذهبنا فيها إلى بيت (أبو داود). كنت حين تترامى إلى سمعي أصوات الأطفال وهو يتصايحون في الزقاق، اتحرّق لهفة على الخروج واللعب معهم... وكان الهزال والاعياء، وهو ما ظل يعوقني عن الحركة في الواقع... ولكن الأن،... خطر لي أن أقول شيئا، التمس السماح لي بمرافقة أمّي.. ولكن وجدتها تقول:
:ـ. ضعيف يا بويا.. وكمان كيف اسيّبكم لوحدكم؟؟؟
وبهذا انقطع كل أمل في الخروج... فالتزمت الصمت.. وبعد خروج أمّي التفت إليّ جدّي وفي وجهه ظل ابتسامة، ربما كان يمنعها أن تسطع، ما يعانيه من أعياء.. قال:
:ـ. تعال... اسمع أنا أحكيك حكاية.. تحب الحكاية؟؟؟
واقتربت منه... حيث كان يضطجع على فراشه.. وطافت بذهني ذكرى خالتي، التي كانت ـ رحمها الله ـ لا أكاد أجلس بجانبها، حتى تأخذني في حضنها، وتسمعني حكاياها ومنها، حكاية: (الخنفساء.. التي اسمها صفيه.. وفي عينها الكحل بالوقية...). وهي نفسها التي ظللت اسمعها من أمي بعد ذلك عشرات المرات، دون أن أمّل سماعها، بل هي التي ربما سمعها ابني ضياء وبناتي من أمهن، ومن المحتمل أن تظل أجيال قادمة تسمعها ـ من الأمّهات في بيتنا إلى ما شاء الله ـ ولم يسبق أن سمعت منه أي حكاية، ولذلك فقد تهيّأت لسماع حكايته، بإحساس من يكتشف أو يعثر، على شيء ورأيت في نظراته كأنّه يبحث أو يفكر ثم قال:
:ـ. فاطمة... تعرف حكايات كثير... أنا أعرف قراءة... هيّا نقرأ.. قل: بسم الله الرحمن الرحيم...
:ـ. بسم الله الرحمن الرحيم
:ـ. ما شاء الله... قل.. الحمد لله
:ـ. الحمد لله
:ـ. الحمد لله
:ـ. رب العالمين.
:ـ. رب العالمين.
:ـ. الرحمن الرحيم
:ـ. الرحمن الرحيم
ورأيت وجهه يتهلّل ارتياحا... ثم قال
:ـ. كمان.. قل: بسم الله الرحمن الرحيم
وظل يكرر نفس الآيات من الفاتحة... واكررها معه إلى ان حفظتها بحيث سردتها عليه دون توقف عدة مرات أيضا... ومع أنّه كان بادى السعادة والارتياح، فقد كان يتوخى أن يروّح عنّي، ولعلّه فكر في الوقت الطويل الذي لا يدري كيف ينقضي، إلى أن تعود أمّي بما نأكله في ذلك اليوم.. وفي هذه اللحظات، كنت أسمع أصوات الأطفال، وهم يلعبون في الزقاق... ولاشك أنه قد سمعهم هو أيضا... فإذا به يقول فجأة
:ـ. عبد العزيز... أنت ممكن، تجلس.. تلعب... عند الباب،.. مع... مع البزورة.
كدت اقفزّ فرحا... فاسرعت أقول:
:ـ. يعني انزل... اروح عند الباب؟؟
:ـ. ايوه عند الباب.. بعيد.. لأ... فهمت؟؟؟
:ـ. فهمت.. فهمت.
:ـ. باب، لازم ما تقفل... فهمت؟؟؟
:ـ. ايوه.. فهمت.. ما اقفل الباب...
:ـ. هيّا... روح..
ونهضت مسرعا.. ولاول مرة منذ اصابتي بالتيفوس، بل ومنذ وفاة خالتي، ربّما، وجدت نفسي أمام باب الزقاق... في الشارع... مع الأطفال الذين لم أكن أعرف أحدا منهم.. ليس بينهم أولئك الذين ذهبت معهم إلى ما سميّناه (البستان) وجئت منه بالخبّيزة.. لم يلتفت إليّ أحد... حتى الذي كان يقف بالقرب منّي عند الباب... من جانبي، لم أحاول أن ألحق بأولئك الذين كانوا قد تجّمعوا يُصغون إلى واحد منهم، يقول لهم شيئا يشد انتباههم. ثم فجأة رفع صوته وهو يشير إلى الشارع الذي فيه قلعة حلب وقال:
:ـ. سترونهم الآن... العساكر.. والعربات... والمدافع... كلّهم، أبي قال يسافرون إلى اسطمبول... عند السلطان.
ودون أن يقول شيئا... مشى في اتجاه شارع القلعة، ومشوا معه.. كأنّهم فضّلوا أن يروا كل شيء عن كثب... خطر لي أن أمشي معهم وهم يمرون بي في موقفي عند الباب... ولكن جدّي هناك في البيت، وقد حذّرني أن ابتعد عن الباب... أو أن أغلقه لادّخل دون أن أحتاج إلى من يفتحه لي... أحسست بالحاجة إلى الجلوس... لاشك أني ضعيف لا أقوى على المشي أو الوقوف كما قال جدي... بدا الزقاق خاليا بعد خروج الأطفال منه.. جلست على عتبة الباب.. ولكن ماهي الا دقائق أو لحظات، حتى لعلع صوت انفجارات القصف بكثافة هائلة، إذ بدت كأنّها تملأ الفضاء، وتتساقط كحبات المطر في كل مكان... اسرعت ادخل البيت، وأحكمت رتاج الباب، وفيما كنت اتجه مسرعا إلى السلم إلى الدور العلوي، رأيت جدي يتجه للهبوط... ولكنه توقف حين رآني... كان القصف يزلزل المنزل كله طوال الفترة التي انقضت، ونحن ـ جدي وأنا ـ وقد جلسنا لا نتكلّم، ولا نستطيع حتى أن نتحرّك... وكان الفزع الأكبر الذي كاد يمزّق قلبينا، هو السؤال الكبير... أين أمّي الآن؟؟؟ من يعرف؟؟؟ ومن الذي يمكن أن يجيب أو أن يقول شيئا. ولا أدري ماذا كان يدور في ذهن جدّي، وانا قابع إلى جانبه في غرفته... كان يتمتم بأدعيته كالعادة... فإذا ازدادت حدة القصف، وزلزلة جدران المنزل، كان يضع يده على كتفي يطمئنني حيث لا اطمئنان بأية حال... ثم أخذت أصوات الانفجارات تبتعد، وتتلاشى شيئا فشيئا... فإذا به ينهض، ويأخذ يدي في يده، ويسرع في الخروج من الغرفة... إلى باب الزقاق... فتحه متعجّلا واسرعنا معا إلى بيت جيراننا (أبو داود). وجدنا السيدة الأم، تفتح الباب، وتخرج فلا تكاد ترى جدي، حتى تسألنا عن ابنتها.. وعن أمّي.
كان مفروغا منه اننا جميعا لا نستطيع أن نفعل شيئا... ولا أن نعرف أو نخمّن أين هما وما الذي وقع لهما؟؟؟ وفيما نحن ـ السيدة الأم وجدي وأنا ـ واقفين عند الباب، كان الأطفال الذين سبق أن خرجوا إلى شارع القلعة، يعودون راكضين، وكان يسوقهم وهو يجري خلفهم ويصبح مزمجرا، شاب عرفته السيدة الأم فاستوقفته وهي تناديه: صالح... يا صالح.. يا ابني...
وقف صالح بينما واصل الأطفال طريقهم في الزقاق إلى منازلهم... وقبل أن يسمع منها شيئا قال
:ـ. يحرقون مخازن الجَبَخانة... في القلعة... وفي القشلة... ادخلوا البيت... ولكن لا تدخلوا الغرف... في ارض الدار... يمكن السقف..
ودون أن يضيف شيئا.. ذهب يعدو.. لتقول السيدة الأم:
:ـ. لكن.. فين لطفية... وفاطمة؟؟؟ يعني كيف نعمل؟؟؟
ووقفنا، لحظات حائرين بينما ظلتّ السيدة الأم تردد نفس الجملة:ـ كيف نعمل... كيف نعمل؟؟؟
ولا شك أن جدّي كان يردد نفس السؤال بينه وبين نفسه، عندما تناول يدي في يده كما هي عادته... ومشينا معا... دخلنا البيت، ولم نغلق الباب من الداخل... والتفت إليّ وقال
:ـ. انتظر هنا.
وأخذ يصعد درجات السلم إلى الطابق العلوي بكثير من الجهد والاعياء، وعاد بعد قليل، وقد ارتفق عمامته وجبّته،... فهمت أنه قرَّر أن نذهب للبحث عن أمّي ولطفية... ولكن أين.......؟؟؟
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :731  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل

[محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324هـ - 1360هـ): 2001]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج