شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
موت جدي في جو من الرعب والأسى
وتركني وأمي وسط صحراء تلفحها سياط الحرب المحمومة
رغم ما كان يبدو عليه الاّعياء، فقد تحامل على نفسه واخذ يفتح باب الزقاق بيد مرتعشة... خرجنا وما كدنا نخطو بضع خطوات في اتجاه مدخل العطفة، حتى سمعنا صوت السيدة الأم مرتفعا صاخبا، في حدة وهي تقول ـ ربّما لابنتها الكبرى ـ انها لابد أن تبحث عنها... وتعني ابنتها لطفية... وفتحت الباب، ورأيناها معا... في ملاءتها... وما كادت ترانا حتى قالت: (الحمد لله... الشيخ افندي وابنه معي...).
وخرجنا إلى الشارع الطويل على امتداد مواز للقلعة... لاحظت السيدة، ان جدّي مرهقٌ ولعلّها قدرت انه لا يستطيع أن يمشي طويلا، فوقفت وهي تقول
:ـ. شيخ افندي... انت تعبان... ترجع البيت، وانا ان شاء الله لا ارجع الا معهما.
وقف جدّي، لحظات، ثم اخذ يتلفت كأنه يبحث عن شيء... ودون أن يقول شيئا تراجع نحو جدار سور لمنزل... وتخاذل وجلس على الأرض... وبكثير من الجهد جمع أطراف جبته إلى حضنه... وقال:
:ـ. عبد العزيز... اجلس..
واشار لي بيده أن أجلس إلى جانبه... وقال للسيدة: (إجلسي أنت أيضاً)
ولكن مروءة السيدة، وعطفها عليه، جعلتها تقسم أن لا تذهب، حتى ترانا ندخل منزلنا... ومدت يدها إليه فمد من جانبه يده ونهض بكثير من الجهد... وعدنا إلى المنزل فعلا... وبلغ من مروءتها وعطفها ان اصرّت على أن تساعده على الصعود إلى غرفته، وان تراه يستلقي على فراشه... واسرعت إلى الحمام، وعادت إليه بالماء في (كوز) من النحاس هو الذي ما زال معنا منذ خرجنا من المدينة، وحتى ذلك اليوم.
وأخذت السيدة الطيبة طريقها للخروج والبحث عن أمي وابنتها... وكلمات جدي تلاحقها بالدعوات تعبيرا عن الأمتنان والشكر، ومرة أخرى وجدنا أنفسنا ـ جدي وأنا ـ وحدنا، لا ندري كيف نتصرف لنجد أمّي التي طال غيابها... كنت جالسا إلى جانبه مما يلي قدميه بحيث أرى وجهه... رأيته يغمض عينيه ببطء... رجّحت أنه قد نام... ولم أكن أقل حاجة منه إلى النوم، فاستلقيت بحركة حذرة، واستلمت لنوم عميق.
حين سمعت صوته يناديني، سمعت في نفس الوقت طرقا على باب الزقاق... نهضت مسرعا لأفتح، وفي يقيني أنّ أمي هي التي جاءت وتطرق الباب... ولكن جدّي قال:
:ـ. فاطمة عندها مفتاح... انت شوف مين؟؟؟
كان الطرق يتوالى، وقبل أن أصل من الدور العلوي إلى الباب، سمعت صوت رجل يرتفع قائلا:
:ـ. شيخ أفندي... شيخ أفندي.
وفتحت الباب، لأرى رجلا، لم يسبق أن رأيته قط... نظر إليّ وهو يقول:
:ـ. وين شيخ افندي يا حبّوب.؟؟ قل لو... لكن ما بّتعرف تقول لو؟؟؟ اسمع... انا بِدِّي أشوفو..
وتركت الرجل واقفا عند الباب، واسرعت إلى جدي أقول له.
:ـ. واحد رجّال... يقول... يقول بِدّو يشوفك..
:ـ. قول له... يجي هنا... تفضّل..
كان واضحا أن جدّي أيضا لا يعرف الرجل الذي جلس، وبعد ان سلّم في أدب قال:
:ـ. شيخ أفندي، أنا موفق.. زوج شفيقة... جيرانكم... لطفية وفاطمة بعد شويّه بيكونوهون... أم شفيقة بتقول، انت والولد، لا تخافوا... هلّق...، هلق بتشوفْهُن..
:ـ. انت كنت مسافر.. غايب؟؟
:ـ. ايوه.. انا كنت غايب عن حلب... ما كنت اقدر اجي... لكن، الحمد لله، خلاص... سفَر بْرلِكْ.. خلاص... كلها شيء جمعتين تلاته وكل الغايبين بيكونو هون...
:ـ. لكن فين.. فاطمة ولطفية؟؟؟
:ـ. أم شفيقة بتقول، جاها خبر إنْهُنْ، عند أختها... الخالة أم حسنية.
ونهض الرجل بعد ذلك مستأذنا، وفي اللحظات التي كان يهبط فيها إلى الفناء، سمعنا حركة فتح باب الزقاق... وتهلّل وجه جدّي ارتياحا، وهو يقول:
:ـ. الحمد لله.. هادي فاطمة.
وبالفعل، كانت أمي هي التي جاءت، وهي تحمل سلّة صغيرة، أسرعت تضعها في زاوية من الغرفة، ثم انحنت على جدّي تقبل أنامله، ويمد هو ذراعيه يحتضنها إلى صدره، ويقول:
:ـ. خير ان شاء الله... لماذا التأخير؟؟؟
وسمعنا قصة طويلة عن الأضطراب، والخوف، والدكاكين المغلقة في جميع الأسواق... والناس خائفون، لأنهم سمعوا، ان الانجليز ومعهم العرب، يمكن أن يدخلوا حلب... وان عساكر السلطان يخرجون من حلب، وقبل خروجهم يحرقون مخازن الجبخانة... وانها رأت بعض البيوت تنهار، وبعضها يحترق، وانها مع لطفية كانتا معرّضتين لخطر الحريق في السوق المسقوف الذي احترقت فيه جميع الدكاكين، وان لطفية بعد ان استطاعت ان تخرج معها من السوق الذي يحترق، ذهبت بها إلى خالتها (ام حسنية)... قالت أنهم ناس طيبين... جزاهم الله خير... العم أبو غالب، و (حسنية)... خاف أن يتركهما تخرجان، قبل أن تهدأ الحالة... وأرسل خادما يطمئن أم شفيقة... وقالت:
:ـ. ابو غالب ـ جزاه الله خير ـ عرف أننا خرجنا لشراء أكل... فأرسل خادمه وقال أنّه لا يأخذ (المجيدي) مني، إلا بعد أن يعود الخادم بالأكل...
وهنا نهضت، وجاءت بالسلّة، التي كانت تحملها... وهي تقول:
:ـ. ما شفت ايش اللي جابه الخادم... لكن أبو غالب، حلف يمين انّو ما يأخذ المجيدي
وقال:ـ بعدين... بعدين، أم شفيقة تقول لكم كم الحساب.
واخذت، تخرج ما في السلّة... عدد من أرغفة خبز، من نوع أفضل من النوع المألوف ولفافة ورق، فيها قطعة جبن كبيرة... وكمية من الطماطم والخس... ولكن المفاجأة الكبرى، كانت في علبة كبيرة من علب اللحم المفروم التي كانت تصرف مع الجراية قبل ان تتوقف... وقرطاس من الورق، فتحناه، لنجد فيه كمّية من السكر (الأحمر)، الذي انقطع ولم نعد نراه منذ عهد طويل، وقبل أن تفرغ، من اخراج محتويات السلّة... رأيت وجهها يتهلّل، وهي تقول:
:ـ. وهادي قارورة فيها زيت زيتون:.... الحمد لله... هيّا خليني اقوم اجهّز لكم الغدا... وانا شبعانة.. اكلت في بيت ام حسنية..
* * *
مع ان جدّي، كان ممتناّ دون شك لهذه الهدية التي قدّمها رجل طيّب، قالت أمّي أنه (أبو غالب وحسنية)، إلا أنّه بدا متأثرا حزينا لأنّه ـ كما قالت أمي فيما بعد ـ استثقل ان يتصدّق عليه وعلى أهله هذا الرجل... وكان ما شغل بال أمي، أنّه لم يأكل الا القليل جدا من كل ما وضعته امامنا لوجبة الغذاء... وحين نهض يريد الوضوء للصلاة استعان بها في مشيته المتعثّرة... كان يتأرجح في مشيته يمنة ويسرة... ولولا انها ظلّت تسنده، لسقط على الأرض...
بعد الغروب، في ذلك اليوم ولأول مرة فيما أذكر، زارتنا أم شفيقة وابنتها الشابة ومعهما (موفّق) زوج شفيقة... وعلى ضوء مصباح بدا لي كأن أمّي تشعله لأول مرة منذ زمن طويل، جلس الجميع، يتحدثون عن أمور كثيرة، وكان ما علق بذهني هو، ان أم شفيقة قد أخبرت زوج ابنتها (موفق)، ان جدّي هو الذي قام بتجهيز ودفن (أبو داود)... وانها لن تنسى له هذا الجميل... خصوصا وان اقاربها، واقارب ابو داود، قد ابتعدوا عنها في ذلك اليوم، خوفا من حمى التيفوس... ولذلك فأن موفق، وقد عاد من الغربة جاء الليلة ليشكر جدّي، ويقول له أنه مستعد لقضاء حوائجه ومشترياته. ولا حاجة به، أو بأمي للذهاب إلى السوق.. ثم أخذ موفق يتحدث عن الأهوال التي كابدها، منذ سافر مسخّرا لخدمة الدولة في طريق السكة الحديد، بين حلب ودمشق، وأيضا بين حلب وبلدان أخرى... وفهمت أمّي من الأخبار الكثيرة، التي كان يفضي بها، ان الجيش التركي، قد انسحب من أراضي (الشام) كلّها، وأنه ينسحب من حلب أيضا... وان الأنجليز ومعهم (جيش شريف مكة) أصبحوا حول حلب... ومقاومة الجيش التركي شديدة جدا، ولكنه سمع منذ يومين، ان قائد الجيش التركي، يمكن ان يسلّم حلب اذا وافق الانجليز على شروطه... ومن هذه الشروط الكثيرة عودة (المهاجرين) في أراضي الشام والموجودين في حلب إلى بلدانهم.
لم يكن جدّي يجهل اللغة العربية، فهو ـ كما كانت أمي تقول ـ حافظ القرآن الكريم ويحفظ أحاديث الامام البخاري، ومسلم، وقرأ تفسير القرآن، للامام (البيضاوي) وتفسير الكشاف للزمخشري، وهو استاذ في اللغة الفارسية أيضا، ومنه تعلمّتها هي، وذلك إلى جانب اللغة التركية بلهجة (التركمان) وكذلك بلهجة (اسطمبول)... ولكن... رغم كل ذلك كان يصعب عليه فهم اللهجات العامّية، والسورية على الأخص.. ولذلك، فقد ظل يسمع من موفق كل ما افضى به من الأخبار، ثم ما كاد يستأذن مع أم شفيقة وابنتها لطفية، ويخرجوا، حتى طلب من أمّي أن تعيد عليه ما سمعه ولم يفهمه.
كان يصغي إلى أمّي، وفي وجهه ونظراته ذهول وتفجّع مع توتر وغضب... وقاطعها أخيرا وهو يشير بيده أن (كفى)... واستدار وهو مستلق بحيث جعل وجهه إلى الجدار... وعندما جهزّت أمّي وجبة العشاء، وكان منها ذلك اللحم المفروم، وانتظر أن نفرغ من الأكل، لينهض تساعده وتسنده أمي، إلى الحمام للوضوء... صلى جالسا، واستلقى وهو يتلو هامسا آيات من القرآن الكريم.
لعلّها كانت المرة الأولى التي أشعر فيها بالشبع منذ زمن طويل. فقد كان الخبز الذي جاءتنا به أمّي في تلك السلّة لذيذا، وان كان مصنوعا من الشعير، وكان اللحم المفروم، والجبن غذاء حرمنا منهما، إذ لم يكن لهما وجود في الأسواق وربّما كان جدي لا يملك من المال ما يكفي لشرائهما. ومع الشبع غلبني النعاس، فتدحرجت إلى اللحاف الذي أنام عليه، في ركن الغرفة، واستغرقت في نوم استسلمت له، وأنا أرى أمّي جالسة وقد اسندت رأسها على يدها وجدّي مستلقيا ووجهه إلى الجدار.
لا أدري ما الذي جعلني استيقظ، مع خيوط الفجر وهي تتسلّل شاحبة من تلك النافذة الوحيدة في غرفة جدي التي أصبحنا ننام فيها معا منذ شفيت من حمى التيفوس... وكان أول ما رأيته على ضوء المصباح الصغير، أمّي، وهي تنهض مسرعة، ووجهها محتقن وقد تناثرت عليه حبات الدمع الذي كانت تذرفه في صمت... وكان جدي هناك في فراشه... مستلقيا على ظهره، وفي يمناه مسبحة طويلة، هي التي تعودنا أن نراها في يده بعد كل صلاة... نهضت من فراشي، اريد الحمّام... ولكن قبل أن أخرج من الغرفة، رأيته يشير بيده أن أتقدم إليه... أسرعت نحوه... وجلست أنتظر أن يأمر بشيء... مدّ يده بكثير من الجهد... وربّت بكفه خدّي... التزمت من جانبي الصمت وان كنت قد لاحظت أن كفّه في مروره على خدّي كان ساخنا... أدركت أنه مريض وزعمت أنها ربّما كانت حمّى التيفوس... وكالعادة مرّت بذهني صورة اولئك الذين كانوا يسقطون في الشوارع من المصابين بها... احسست كأن قلبي يكاد يقفز من صدري خوفا ورعبا من أن يكون هذا مصير جدي ايضا... ولكن... مع أن عينيه كانتا مغمضتين، سمعته يقرأ بصوت مسموع (قل هو الله أحد...). ثم سكت... ولم أر شفتيه تتحركان كما هي العادة حين يتلو أدعيته هامسا.. طال سكوته، ورأيت وجهه يبدو أصفر بشيء من الزرقة... ولست أدري حتى اليوم كيف فهمت أنّه مات.
عادت أمّي إلى الغرفة، وفي يدها فوطة، مبلّلة، ومعصورة... كانت تهم بنشرها على جبهته... ولكنّها ما كادت تتأمّل وجهه لحظة... حتى شهقت وتهالكت إلى جانبه وارتمت عليه وكل ما ظللت اسمعه، وهي في ذلك الوضع، هو
:ـ. أبويا... أبويا.. أبويا..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :738  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان زكي قنصل

[الاعمال الشعرية الكاملة: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج