شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شفائي من الحمى..
لأدخل بعدها بقسوة مريرة في مرحلتي الجوع والحرب
وكان بيت الجيران الذي اصطحبتْني أمي إليه، هو بيت (أبو داود) الذي مات في اليوم الأول لسكنانا في هذا المنزل... كل من في البيت، كان سيدة عجوزا، وبنتيها، احداهما صبية والأخرى ربّما تكون قد تجاوزت الأربعين من العمر... كلّهن رحّبن بأمي، واتضح لي من التفاتهن إليّ، ولطف حفاوتهن مع نظرات الإشفاق والعطف في عيونهن، أنهنّ كنّ يتابعن حالة اصابتي بحمى التيفوس، التي اخترمت حياة ابيهن.
كان الحديث، بينهن، بما فيهن أمّي يدور حول الجوع، وان العسكر هم الذين يأخذون جميع المواد الغذائية من الأسواق، ويشحنونها في (البابور) إلى أطنة وعلّقت السيدة الأم تقول:
:ـ. لا... لا... أنا سمعت أن عساكر السلطان، كلّهم حولنا... خارج حلب... وكل شيء يذهب إليهم... لأنهم ناويين يرجعوا يهجموا على النصارى، ويخلّصوا الشام منهم.
وقالت البنت الكبرى،
:ـ. لا... يا أمي... أنا سمعت أنو عساكر السلطان كلّهم تعبوا من الحرب... وناويين خلاص... يرجعوا اسطمبول...
وقال الصبية بنبرة محتدمة:
:ـ. وعشان كده بياخدوا الحنطة والشعير، وكل شي معاهم؟؟؟ يعني همّا ياكلوا وكلنا نموت من الجوع.
ولست أدري، لم ظلّت أمي تسمع ولا تشترك في الحديث... أما أنا فقد فتح الحديث عن الأكل شهيتي أو جعلني أشعر بالجوع... وكنت أجلس بجانب أمي... فاقتربت من أذنها أقول:
:ـ. يا فَفَّم... أنا جيعان..
سمعت بالطبع ما قلته.. ولكنها لم تقل شيئا.. اكتفت بأن أزاحتني عن اذنها، ثم التفتت إلى السيدة العجوز، وقالت:
:ـ. يا خالة... انني عارفة انّو البيت اللي نحن فيه، كبير علينا... بعدما ماتت خديجة... وراحت لتافت باجي... انا بدي أقول لأبويا... ننقل منّه.. وما أدري يمكن (الطبقة الفوقانية) عندكم...
وقبل أن تنهي كلامها، تهلل وجه العجوز وهي تقول:
:ـ. أيوه يا بنتي.. بيتكم اصبح كبير عليكم... كبير كتير، وانا باشوف (شيخ افندي) بيخرج في الصبح وما يرجع إلاّ بعد العصر... والطبقة الفوقانية عندنا... والبيت كله تحت أمركم...
هنا قاطعت البنت الكبرى أمّها وهي تقول:
:ـ. بس تسيبوا بيت (لتافت باجي) لمين؟؟؟ نحن سمعنا انها لما سيدها طلب منها تترك كل شيء، وتروح له في اسطمبول... سيّبت البيت اللي انتو ساكنين فيه، وكمان بيت سيدها اللي هّيه كانت فيه... للشيخ افندي...
وتدخّلت السيدة الأم تقول:
:ـ. لا لا... انا اللي سمعته انها قفّلت كل الأبواب والشبابيك في بيت سيدها، واخدت معاها المفاتيح... والبيت اللي انتو ساكنين فيه طلبت من الشيخ افندي انو لما يسافر من حلب، يقفّل الأبواب ويخلّي المفاتيح عند بيت الكيخيا.
وقالت البنت الكبرى:
:ـ. يمكن.. يمكن صحيح... عشان سيدها والكيخيا، كانوا أصحاب من الروح للروح.
واستأنفت السيدة الأم الحديث عن الطبقة الفوقانية وهي تقول:
:ـ. اصله يا بنتي يا فاطمة... انا باتمنى انكم تسكنوا عندنا... وما نبغا منّكم اجرة كمان.. عشان كفاية وجود الشيخ افندي معانا في هادي الأيام؟؟؟
واختنق صوتها بالعبرات وهي تقول:
:ـ. انتي عارفة، انو ما بقي لنا رجّال يدخل علينا... ابو داود رحمة الله عليه... وجوز شفيقه ما أحد يدري فين اراضيه... سافر الشام قبل ما يموت ابو داود.. وانتي عارفة اللي حاصل.
وبينما أخذت أمي تحكم ربط الجزء العلوي من الملاءة حول (البيشة) استعدادا للخروج قالت:
:ـ. انا يا خالة.. ابغا اقول لأبويا... اننا نسكن معاكم... لمّا يخرج هوّه... انا وعزيز بنكون لحالنا... وكلّنا سمعنا كيف الحرامية بيدخلوا على الناس في النهار ـ ما هو في الليل ـ...
:ـ. أيوه يا بنتي صحيح... نحن كمان بنخاف... هوّة صحيح ما بقي في البيت شيء ينخاف عليه... لكن..
* * *
وما كدنا ندخل البيت معا، في اللحظات التي أخذت أمي تحكم فيها اغلاق الباب... حتى تلاحقت انفجارات القصف، التي اصبحنا نعرف ـ هي وأنا ـ انها انفجارات المدافع الثقيلة، ومعها زخّات انفجارات الرشاش... ولكنّها في هذه المرة، أو هكذا توهّمنا، قريبة جدا من العطفة التي يقع فيها منزلنا... ثم كان ما جعل أمي تنكفىء عليّ وتحتضنني، وكل جسمعا يرتعد... وهو تلك الجلبة من صيحات خوف ورعب أخذت تملأ ما حولنا في هذه العطفة... فضّلت أمي أن لا تترك مكانها وأن تظل منكفئة عليّ، وهي تتلو أدعية وآيات من القرآن... وطالت فترة انفجارات القصف، مع توهّم اقترابها، مع صيحات وولولة الخوف والرعب. ولكن ما لبث كل ذلك أن هدأ تماما...
أدركت، وأنا أملأ صدري بالهواء، حين أخرجتني أمّي من حضنها، أنها تتهّيب أن تظل في هذا المنزل، بل بدا أنها تتردد في المشي خطوات، لندخل الغرفة، التي ننام ونقضي كل يوم فيها، كما قضيت أنا كل أيام مرضي في ركن بعيد عن الباب والنافذة منها. لعلّها فكّرت أن تعود إلى بيت (أبو داود)... ظلت فترة من الوقت ـ بعد أن انقطع القصف والانفجارات ـ جالسة على الأرض إلى جانبي ويدها على كتفي. ولكنها نهضت ومشت معي أخيرا إلى تلك الغرفة، التي بدت موحشة قاتمة، وربما زاد من احساسنا بالوحشة فيها انها واسعة بالنسبة لنا نحن الاثنين وخالية من الأثاث، إلا المرتبة أو اللحاف الذي كان مرقدي طوال أيام مرضي، ثم المرتبة التي تنام هي عليها.. وهناك في ركن بالقرب من الباب تلك اللوازم التافهة القليلة التي تستعمل لغلي الماء، وتجهيز الشاي ان وجد هو والسكر ـ، وقد اصبحا الآن سلعا نادرة لا يحلم بالحصول عليهما أحد، فإذا جاء بهما جدي أحيانا، فما أعظم الفرحة بهما، والحرص عليهما... واذكر اليوم ان فرحة جدّي، وحثّه كل من في البيت ـ أيام كان معنا فيه خالتي ولتافت باجي على الاقتصاد الشديد جدا في تناولهما، كانت فرحته اكبر من فرحة الآخرين، لأن الشاي عنده مطلب أساسي، ربّما أهم حتى من الأكل.ـ
لم تخلع أمي الملاية، بل ارتمت على مرتبتها وهي ترتفقها. والتفتت إليّ، وأشارت بيدها ان اقترب منها وأجلس أو اضطجع إلى جانبها... لم أضطجع، وحين التفت أنظر إليها رأيت الدموع تنهمر من عينيها في صمت... كان متعذّرا عليّ أن أفهم شيئا مما كان يدور ويلوب في نفسها... كنت أشعر بالوحشة والخوف، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلني أبكي مثلها. التزمت الصمت، ثم قلت بصوت منكسر متوسّل:
:ـ. فَفَّمْ.. أنا جيعان.
التفتت إليّ وهي تمسح الدموع التي ملأت وجهها، وهي تقول:
:ـ. اصبر شويّة... دحّين سيدك لابد يجيب الأكل...
وفهمت طبعا أنها لا تجد ما يمكن أن آكله... ليس في البيت شيء يؤكل على الإطلاق... وجدّي... ووجدت نفسي اتساءل: أين هو يا ترى الآن؟؟؟ ومتى يجيء؟؟؟ وتهّيبت أن اسألها وأنا ماازال أرى دموعها تنهمر، ولكن حرقة الجوع في أحشائي، جعلتني أجازف فقلت:
:ـ. طيّب يا فَفَّم.. سيدي متى يجي؟؟؟
:ـ. قلت لك دحّين لابد يجي ويجيب معاه الأكل.
:ـ. لكن، هوّه راح فين؟؟؟
:ـ. راح فين؟؟؟ ايو الله يا ولدي، راح فين؟؟؟ ولمّا ضربت المدافع والرصاص اللي زي المطر.. يا ترى كان فين؟؟؟
ثم انفجرت تجهش باكية وهي تقول.
:ـ. يا ترى نشوفكم يا بويا ولا...
ووضعت كفّيها على وجهها، وهي تجلس وظلّت تبكي كالأطفال وتردد بين شهقاتها المتوالية:
:ـ. يا ترى نشوفكم يا بويا...؟؟؟
وفجأة ولولت أصوات الانفجارات، ولم يعد هناك شك، في أنها قريبة منّا، إذ أحسسنا أن البيت كلّه يهتز من حولنا... بل سمعنا ازيزاً يتلاحق بسرعة ـ عرفت فيما بعد أنه ازيز الرصاص المنهمر من الرشّاش... ـ. لم يكن أمام أمي إلا أن تحتضنني وان تظل قابعة في مكانها، وسمعتها تتلو ـ ولأول مرة ـ ((الله لا اله إلا هو الحي القيوم....)) وكلّما اشتد وتوالى القصف وانهمار زخّات الرشّاش يشتد التفاف ذراعيها عليّ وهي تضمني إلى صدرها.
ولكن... وضجة الانفجارات على أشدها، والرعب يملأ قلبينا، سمعت أمي طرقا متواليا شديدا على باب الزقاق.... تركتني في أقل من طرفة عين.. ونهضت تركض إلى الباب، وذهبت أركض خلفها..
كان هو... جدّي... لم يستطيع فتح الباب بالمفتاح الذي يحمله، لأن أمّي كانت قد أحكمت رتاجه من الداخل عندما فاجأتنا عاصفة القصف في عودتنا من بيت الجيران...
ما كادت تراه يدخل، حتى عانقته في لهفة ثم تناولت يديه تقبلهما قبلات متلاحقة... ورأيته يعانقها هو أيضا، ويمد يده لي.. ويسرع بنا إلى الغرفة. ارتمى بطوله، وعمامته ماتزال على رأسه، على الفراش... كانت أنفاسه تتلاحق وهو يمد ذراعه إليّ، ويضجعني إلى جانبه... كان لابد أن ننتظر نهاية أصوات الانفجارات التي طالت في هذه المرة بحيث بدا كأنها لن تتوقف... ولكنها هدأت أو توقّفت أخيرا...
وما كادت.. حتى أخرج جدي ذلك الكيس الذي عوّدنا أن يجيئنا فيه بما يتسوّقه من الغذاء... اسرعت أمّي تفتحه، وهي ترامقني بنظراتها القلقة... واخرجت يدها برغيفين من الخبز الأسود... ورأس صغير من (القرنبيط)، وكمية من الخس... وكأنّها قدّرت اني جائع ولا أستطيع الانتظار إلى أن تسلق القرنبيط، فاقتطعت نصف رغيف، وبضع ورقات من الخس، ومدت بها يدها وهي تقول:
:ـ. هيّا قوم، شوف هناك الملاّحة... وقارورة الخل والزبدية الصغيرة... هاتها... عشان تغمّس العيش.
وماازال أذكر حتى اليوم... نصف الرغيف ذلك من الخبز الأسود، أغمس اللقمة منه في الخل المملّح، مع ورقة الخس، مغموسة أيضا في ذلك الخل... ماازال أذكر أنها كانت، هي ومثيلاتها بعد ذلك أَلَذَّ وأشهى ما أكلت، بل قد لا أستحي أن أقول اني لو وجدتها اليوم لا أتردد في أن أفضّلها على أي أكلة أو طبق من الأطباق المترفة التي نجدها على موائدنا في هذا الأيام.
لاحظ جدّي اني أتيت على نصف الرغيف ربمّا في لحظات، فانتهر أمي وهو يقول:
:ـ. اعطيه النص التاني... لازم يشبع.
:ـ. طيب يا بويا، وانتو؟؟؟
:ـ. رغيف واحد يكفينا..
وأضاف باللغة التركية كلا ما فهمت منه، ان (القرنبيط) غذاء أفضل من الخبز.
ثم أخذ يتحدّث، عن (الهجوم)... وكانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذه الكلمة وأفهم أن (النصارى.. الانجليز) هم الذين يقومون به.. وان عساكر السلطان، مع (الألمان) يدافعون عن حلب، وهو يعتقد أنهم سينتصرون، ولا بد أن يستردوا حتى الشام... ولكنّه يعود فيضع يده على خده، ويعبث بشعيرات من لحيته، ويردد: (الله كريم... الله كريم.) ويلتزم الصمت بعد ذلك، ثم ينهض عن الفراش الذي تمدّد عليه بعمامته حين عاد، ويغادر الغرفة، إلى غرفته تلك في الدور العلوي.
* * *
ارجّح اليوم أن جدّي، لم يوافق على فكرة ترك منزلنا هذا، والانتقال إلى الدور العلوي في منزل (أبو داود)... وكان السبب كما سمعت من حكايات أمي عن هذه الفترة، هو أنّه لم يكن يستطيع دفع الايجار، ثم الأهم من ذلك، ان لتافت باجي، حين استدعاها سيدها في تركيا، قد احكمت اغلاق منزلها، أو هو منزل سيدها، كما أغلقت الباب الذي يصل بين البيتين، ثم استأمنت جدي على المنزل الذي نسكنه، بعد أن استعادت السرير الصغير من النحاس الأصفر، الذي أكرمتنا به، مع المرتبة والوسائد والغطاء لتنام عليه خالتي، لأنها ـ كما ظلّت تقول وهي تدللها ـ ((عروستنا الحلوة))، وحبيبتها. كما استعادت جميع قطع الأثاث التي زوّدتنا بها... فإذا قدّر الله له أن يسافر من حلب، فما عليه إلا أن يحكم اغلاق الباب، ويسلّم المفتاح إلى بيت الكيخيا، الذي قالت، أنّه لابد أن يجد فيه من يستلم منه المفتاح، حتى وإن كان الكيخيا نفسه قد سافر إلى أي بلد آخر، كما يسافر الناس هاربين من حلب في تلك الأيام.
بعد الغروب في ذلك اليوم، ونحن في غرفة جدّي، وقد فرغ من صلاة المغرب، ومن تلاوة أو قراءة أدعيته... عادت أصوات الانفجارات تهدر وتولول، ومعها ـ كالمعتاد الآن ـ الزخّات المنهمرة من طلقات الرشّاش... كانت أمي قد أشعلت ذلك المصباح الصغير الذي يبدو أن لتافت باجي قد تركته لها... كان ضوؤه لا يسمح بأكثر من أنرى ما يحيط بنا في هذه الغرفة ذات النافذة الواحدة العالية... كانت أمّي تنتفض وتغمض عينيها، مع كل انفجار، وقد بدا عليها الرعب بحيث رأيت أسنانها تصطك، وهي تنظر إلى جدّي ثم تلتفت إليّ، كأنها تلتمس أن نفعل شيئا... أي شيء... وان كانت تعلم طبعا، اننا لا نستطيع، اولا يستطيع مخلوق، ان يفعل شيئا على الاطلاق. أمّا هو ـ جدّي ـ فقد التزم الصمت، فترة، ثم جعل يربت على كتف أمّي ويحاول طمأنتها، والتخفيف من حدة الرعب التي تعانيها... وكالمعتاد في كل مرة، توقّف القصف وابتعد أو تلاشى تدريجيا وما كاد، حتى شرع جدي، وهو متهّلل الأسارير، يشرح لامي، ان هذا القصف الذي يبدو قريبا يصدر من قوات الجيش التركي الذي يدافع عن حلب... فإذا خف أو هدأ أو انقطع، فإن ذلك يعني ان المهاجمين قد انهزموا وتراجعوا...
ونهضت أمّي، بعد ان استعادت هدوءَها، لتطهو، أو لتسلق القرنبيط، الذي تعده لوجبة العشاء... واخذت المصباح الصغير، تستضييء به... لنغرق ـ جدي وأنا ـ في ظلام دامس، أحسست معه بالنعاس، فتحسّست موقع جدي في جلسته، وأحسّ هو أيضا بي، وأدرك اني نعسان... فأخذني في حضنه، لأستسلم للنوم، وفي وهمي أني سأستيقظ لآخذ نصيبي من القرنبيط، حين تعود به أمّي بعد قليل.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :689  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.