شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
دانتي وكوميدياه.. والمعري ورسالة غفرانه
ذهب بعض الدارسين والنقاد في الأدب العربي، إلى أن (دانتي الليجييري) متأثر في عمله الفني الكبير الذي يتهافت على قراءته عشّاق الآداب، في اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وربما في لغات أخرى كثيرة، وهو ما عرف في اللغة العربية باسم (الكوميديا الإلهية)، برسالة الغفران لأبي العلاء المعري. والتقط هذا الرأي أو المقولة كثيرون، فانبروا يتفاخرون بأن هذا العمل الكبير لدانتي، ليس إلا اقتباساً، إن لم يكن (سرقة) من المعرّي في رسالته التي لا شك أنها تعتبر من أعظم الأعمال الفنية في الأدب العربي.
وانطلاقاً من هذا الرأي، وإعجاباً في نفس الوقت، بأن يكون لرهين المحبسين هذا التأثير، على فكر ومشاعر شاعر يقف في صفوف الخالدين من أدباء العالم، وجدت نفسي منذ أكثر من ثلاثين عاماً - ودم الشباب في كياني كان لا يزال قوي التدفق والحركة والحرارة - أعكف على قراءة أكثر من ترجمة إلى الإنجليزية لهذه الكوميديا، ومن هذه التراجم القديم، تكاد لغته ((الإنجليزية)) تضطرني إلى مراجعة القاموس، بل إلى مراجعة قاموس اللغة اللاتينية أيضاً لتصور معنى الكلمة التي يستعملها المترجم، ومنها الحديث، الذي يحاول نوعاً من المقاربة بين لغة الشاعر ومعانيه في لغته الإيطالية، وبين اللغة الإنجليزية التي يتوخّى المترجم أن يوصل بها المعاني إلى قرائه.
وما زلت أذكر، كثيراً من ساعات الليل التي كنت أقبع فيها في الناموسية هرباً من لسعات البعوض، وفي يدي ترجمة الكوميديا، ومعها أكثر من قاموس أرجع إليه كلّما استوقفتني كلمة أجد لها معنى يختلف عن المعنى الذي أعرفه.. ولقد خرجت، في النهاية، بجملة مفاهيم ربّما كان أهمّها، أن هذا العمل، وقد أحيط - حتى في اللغة العربية - بهذه الهالة الواسعة كثيرة التوهّج والإشراق، إن كان فيه الخيال، والتصورّات أو الصور المنبثقة أصلاً من تهويمات وشطحات النصرانية، فليس فيه الإيغال الرومي، فضلاً عن التعمّق الفكري العقلاني، فإذا انعقد الإجماع الأوروبي على الإعجاب به والثناء عليه، فليس ذلك إلاّ نوعاً من ممارسة الانسياح الروحي في مواجهة شراسة الحياة الماديّة التي لم يكن يخلو الإنسان الغربي من الإذعان لها، بكل ما يصاحبها عادة من إرهاق للمشاعر الروحية، يظل مفتقراً إلى هذا النوع من الممارسة.
وقد لا أذيع سراً، إذا قلت اليوم، إني لم أستطع الحصول على نسخة من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، في مكتبات المملكة، وعلى الأخص منها مكتبة ذلك الصديق الذي لن أنسى فضله في حرصه على أن يستورد لنا - بطريقته الخاصة - الكتب التي لا يستوردها سواه.. وأعني الشيخ أحمد حلواني رحمه الله ميتاً أو حياً. وقد ظللت أتابع مختلف الوسائل للحصول عليها، ولم أوفق، إلاّ بعد انتظار طويل، والفضل في ذلك للسيدة عائشة عبد الرحمن التي حققت الرسالة، تحقيقاً رائعاً، استحقت عليه درجة الدكتوراه.. وللأسف حتى هذه النسخة فقدت، كغيرها من الكتب التي فقدتها، بسبب الاضطرار إلى الانتقال من بيت إلى آخر من بيوت (الأجرة).
فإذا بقي في ذاكرتي الآن من رسالة الغفران، ما يتيح أن ألتمس به نوعاً من المفارقة بينه وبين كوميديا دانتي، فهو تلك اللغة أو مفرداتها التي عرف باستعمالها المعرّي، ليس فقط في رسالة الغفران، وإنما أيضاً في شعره، ثم في كتابين آخرين عجزت عن الاستمرار في قراءتهما وهما: (رسالة الصاهل والشاحج، تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن أيضاً) و (الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ).. كان يساورني ظن سيّىء أحياناً - وسخيف في نفس الوقت - وهو أن المعرّي كان هو الذي يبتكر هذه المفردات، إذ يكاد يكون من غير المعقول أن تحفظ ذاكرته، كل هذا الغريب، مهمل التداول من المفردات.
وبعد الوقفة الطويلة، عند مفردات رسالة الغفران، تتلامح في ذاكرتي، قدرة المعرّي على التخلص، من الحرج، المفروض، وهو ينتقل بين مشاهد الجنة، وفيها من التمس لهم الغفران ودخولها، ببيت من الشعر، أو قصيدة، أو جملة أبيات، منها تلك التي قالها الحطيئة في هجو نفسه مثلاً.. ثم هذه المشاهد، في الجحيم، وفيها الشعراء الذين يحاورهم، أو يزعم أن ابن القارح هو الذي يحاورهم، عن مآلهم في الجحيم، ومادة الحوار دائماً هي الشعر أو الأدب.
ولا شك بعد، أن كوميديا دانتي، تتشابه مع رسالة الغفران، ولعلّي لا أبعد إذا زعمت أن المعرّي كان أخف روحاً، وأقدر على تحريك شخوص مسرحه في الجنة والنار، من دانتي الذي يفتح في كوميدياه ثلاثة أبواب إلى مسارح، وفي كل مسرح عناصره البشرية التي يحركها الشاعر أو يجعلها تتفاعل مع خطه الدرامي، وهي مسارح (الجحيم) ثم (المطهر) وهو المكان الذي يعتقد النصارى أن نفوس الأبرار تُطهّر فيه بعد الموت بعد عذاب له أجل محدود، ثم الفردوس، في قمة الجبل ذي الدوائر الذي يلتقي فيه بحبيبته (بياتريس).
والكوميديا، قد لا تختلف عن رسالة الغفران، إذ الجامع بينهما، أن كلاً منهما عمل شعري فنّي، إلا في أن الكوميديا، قد اعتمدت على تصور الشاعر، وهو مسيحي، خيالات وشطحات النصرانية ولعلّ هذا ما فتح لها مجال الإقبال عليها، في جميع اللغات.
وبعد.. فلا يتسع هذا المجال المحدود، لا كلام عن عملين كبيرين، كل منهما مما عكف على دراسته فطاحل وكبار النقاد.. ولكنّها محاولة، عنّ لي أن أذكر بها الشباب، بأن في الأدب العالمي والعربي، ما يستحق أن ينفق في دراسته الوقت الثمين الذي يضيع في الركض اللاهث وراء الحداثة والأصالة، وأرى أنهما لا يزالان يمسكان بتلابيب الشباب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :653  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 94 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.